في خطوة وُصفت بالمفاجئة، قررت فرنسا تعليق عملياتها العسكرية المشتركة في مالي، للضغط على الجنود المنقلبين على السلطة، لكن هل يكون هذا القرار مقدمة لانسحاب تمهِّد له باريس منذ فترة في ظل فشلها في تحقيق أهدافها في مالي، ورفع الأوروبيين والأميركيين أيديهم عنها؟
تعليق العمليات العسكرية
قررت فرنسا “تعليق العمليات العسكرية المشتركة مع القوات المالية” عقب الانقلاب الأخير يوم 24 مايو/ أيار المنقضي، حسب بيان لوزارة الجيوش، “بانتظار ضمانات” حول عودة المدنيين إلى السلطة بعد انتخابات مقررة في فبراير/ شباط المقبل.
شددت وزارة الجيوش الفرنسية في بيان لها على أن “المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا والاتحاد الإفريقي، حددا شروطًا وخطوطًا حمراء لتوضيح إطار عملية الانتقال السياسي في مالي”، و”بانتظار هذه الضمانات قررت فرنسا (…) تعليق العمليات العسكرية المشتركة مع القوات المالية مؤقتًا، فضلًا عن المهمات الاستشارية المقدمة لها”.
شهدت مدن وقرى منطقة الساحل، خاصة مالي، مظاهرات شعبية كبيرة رفضًا للوجود الفرنسي هناك.
يعني هذا أن نشاطات قوة “تاكوبا” تم تعليقها، وأتت هذه القوة بمبادرة فرنسية مؤلفة من وحدات أوروبية خاصة لمساندة القوات المالية في القتال، وتشمل مهمتها تدريب الجيش المالي على مقاتلة المسلحين، فيما ستواصل قوة “برخان” التي تضم 5100 عسكري في منطقة الساحل عملياتها بمفردها.
وأكدت الوزارة أنه سيتم إعادة تقييم هذه القرارات في الأيام المقبلة، في ضوء الأجوبة التي ستقدمها السلطات المالية، مشيرة إلى أن “الأمر متروك للسلطات المالية للاستجابة بسرعة” إلى الطلبات الفرنسية والدولية بهذا الشأن، حسبما نقل الإعلام الفرنسي.
جاء هذا القرار الفرنسي على خلفية الانقلاب الأخير الذي شهدته مالي في 24 مايو/ أيار الماضي، إذ أطاح زعيم الانقلابيين العقيد عاصيمي غويتا، للمرة الثانية خلال أقل من عام، بسلطة مدنية، وأعقب ذلك إيقاف كل من الرئيس الانتقالي باه نداو، ورئيس الحكومة مختار وان، مع وزير الدفاع الجديد، واقتيادهم إلى ثكنة عسكرية في بلدة كاتي.
تمهيد للانسحاب التام
يمكن أن يُفهم من القرار الفرنسي الأخير، وجود إرادة فرنسية للانسحاب النهائي من مالي، إذ يأتي هذا الإعلان بعد أن أوضح الرئيس إيمانويل ماكرون في مقابلة مع “جورنال دو ديمانش”، أن مسألة انسحاب الجيش الفرنسي من مالي “أثيرت بعد الانقلاب العسكري الجديد الذي شهدته مالي في مايو/ أيار الماضي”.
كما شدد ماكرون، في وقت سابق من هذا الأسبوع، على أن الجيش الفرنسي لا يستطيع “وحده” محاربة الإرهاب في منطقة الساحل، وأن وجوده على الأرض “يتطلب تعزيز المؤسسات المستقرة والشرعية”، كما هدّد ماكرون بسحب قوات بلاده من مالي في حال سار هذا البلد باتجاه ما وصفه “الإسلاموية الراديكالية”.
سبق أن أكد ماكرون خلال قمة دول الساحل الخمس، التي عقدت في يناير/ كانون الثاني في مدينة بو (جنوب غرب فرنسا)، إعداد بلاده لطريق الخروج من المنطقة، وقال حينها: “بقيتُ بناءً على طلب الدول لأنني اعتقدت أن الخروج كان نقطة تسبب زعزعة للاستقرار، لكن السؤال مطروح ولسنا في وارد البقاء هناك إلى الأبد”.
فكرة الانسحاب من مالي تتدعم، إذا ما علمنا أن القوات الفرنسية المتمركزة في دول الساحل والصحراء الإفريقية تواجه منذ فترة مأزقًا كبيرًا، لعدم تلقيها الدعم الأوروبي والأميركي والإفريقي اللازم، إذ إن الأوروبيين رفضوا تمويل تلك القوات، والأمر نفسه بالنسبة إلى الأميركيين.
كما أن فرنسا لم تعد تتمتع بحاضنة شعبية في المنطقة، حيث شهدت مدن وقرى منطقة الساحل، خاصة مالي، مظاهرات شعبية كبيرة رفضًا للوجود الفرنسي هناك، مطالبين بضرورة خروجها من دولهم، حيث يتهمونها بسرقة ثرواتهم الباطنية والتحكم في قرار دولتهم السيادي.
بدأت فرنسا أكبر عملية عسكرية لها في الخارج منذ عدة عقود، مباشرة إثر سقوط شمال مالي في قبضة مجموعات مسلحة.
ليس هذا فحسب، ففرنسا تواجه مأزق ضعف جيوش دول المنطقة، وعدم قدرتها على تقديم الدعم الكافي للقوات الفرنسية المتمركزة هناك، حتى حليفها الأبرز زعيم تشاد إدريس ديبي تم قتله على يد المتمردين القادمين من جنوب ليبيا.
فضلًا عن ذلك، تواجه السلطات الفرنسية عديد الضغوط الداخلية، حيث أثار الحضور العسكري الكبير في مالي، العديد من التساؤلات على لسان المواطن الفرنسي عن أسباب ودوافع هذه المهمة، رغم كلفتها الباهظة.
وغالبًا ما تقوم الدولة الفرنسية بتقييم عام لقواتها في الخارج نهاية كل سنة، لمناقشة النتائج التي تحققت ودوافع الإبقاء عليها أو إدخال تغييرات سواء بالزيادة أم التقليص.
وتعتبر منطقة الساحل والصحراء -التي تقدر مساحتها بأكثر من 10 ملايين كيلومتر مربع- واحدة من أبرز المناطق الجيوسياسية الدولية، التي تشهد صراعًا داخليًّا بين المجموعات المسلحة من جهة، ودول المنطقة والقوى الدولية من جهة أخرى.
هل حققت باريس أهدافها؟
يعود التدخل العسكري الفرنسي في مالي إلى بداية يناير/ كانون الثاني 2013، إذ بدأت فرنسا أكبر عملية عسكرية لها في الخارج منذ عدة عقود، مباشرة إثر سقوط شمال مالي في قبضة مجموعات مسلحة مرتبطة بتنظيم القاعدة (حركة التوحيد والجهاد في غرب إفريقيا)، وأخرى منشقة عنها (الملثمون بقيادة مختار بلمختار)، وأخرى تابعة للطوارق (حركة أنصار الدين والحركة الوطنية لتحرير أزواد).
مرت أكثر من 8 سنوات على هذا التدخل، الذي كما قالت فرنسا إنه جاء بطلب الحكومة المالية، لاستعادة سلطتها في منطقة شبه صحراوية مترامية، وإن الهدف منه منع قيام كيان إرهابي في المنطقة يشكل تهديدًا للمنطقة والعالم بأسره، لكن هل تحقق ذلك؟
انطلاقًا من العديد من المعطيات والمؤشرات، يتبين أن فرنسا فشلت في تحقيق أهدافها المعلنة، فالوضع الميداني على حاله، ذلك أن شمال مالي لم يسترجَع بعد، ومناطق بكاملها لا تزال خارجة عن سيطرة القوات المالية والأجنبية التي تتعرض بشكل متواصل لهجمات دامية.
كما أن المجموعات المسلحة ازدادت قوة ونفوذًا، نتيجة تلقيها أموال الفدية من فرنسا مقابل الإفراج عن بعض الرهائن لديها، رغم تجريم الأمم المتحدة الفدية وحتى المقايضة بالإرهابيين والتنازلات السياسية وتأمين إطلاق سراح الرهائن.
وما يؤكد فشل باريس في مالي، انتشار التنظيمات الإرهابية في بلدان الساحل حتى وصلت إلى حدود ساحل العاج، المطل على المحيط الأطلسي، وأيضًا تزايد أعداد قتلى الجنود الفرنسيين هناك، حيث فقدت فرنسا أكثر من 40 جنديًّا منذ بداية الحرب، وأدى هذا الأمر إلى نفاد صبر الفرنسيين من هذه العملية العسكرية.
صحيح أن فرنسا فشلت في هذه الأهداف المعلنة، لكنها نجحت في أهدافها غير المعلنة، وأبرزها استنزاف خيرات البلاد ونهب ثرواته والتحكم في اقتصاده الهش، فضلًا عن تثبيت مكانتها كقوة عظمى ذات مكانة عالمية.