من مهازل، أو كوارث، اتفاق أوسلو الكثيرة فصل القدس عن الضفة الغربية. وذلك في إبقائها تحت الاحتلال وإغلاقها عن الضفة الغربية، وفي إقامة سلطة فلسطينية وهمية عملياً على أجزاء من الضفة الغربية عُرِفَت بمناطق (أ).
ولكن مع بقاء “الحق” لقوات الاحتلال باغتيال، أو اعتقال، من تشاء فيها، فالدوريات العسكرية، والعمليات العسكرية لم تنقطع إلاّ في فترة الانتفاضة الثانية. وقد أصبحت ممارسة يومية مع الاتفاق الأمني وتشكيل الأجهزة الأمنية من خلال الإشراف المباشر للجنرال الأميركي الأمني كيث دايتون وبالتشارك مع أجهزة الأمن الصهيونية.
الاتفاق الأمني عُقِد بعد استشهاد الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات الذي كفّر عن توقيعه على اتفاق أوسلو بتشجيعه لاندلاع الانتفاضة الثانية وحتى بإعطاء ضوء أخضر لمقاومة عسكرية ضدّ قوات الاحتلال. وقد اقتضى الاتفاق الأمني بأن تتولى قوات فلسطينية حماية الاحتلال من خلال تصفية المقاومة المسلحة، وقمع أي حراك شعبي ضد المستوطنين أو الاحتلال، بل والتعاون المباشر وغير المباشر في عمليات تشنها قوات الأمن أو الجيش الصهيوني لاعتقال أو قتل مشبوهين مارسوا أو يعدّون لممارسة، مقاومة ضد الاحتلال.
في الحقيقة، وللأسف الجارح والعار، أثبتت الأجهزة الأمنية في ملاحقتها للمقاومين، أو كشفهم لحساب جهاز الشاباك الصهيوني، أو قمعها لكل تحرك ضد الاحتلال، أو من أجل التضامن مع المقاومة والشعب في قطاع غزة، بأنها أسوأ من قوات لحد في جنوب لبنان في مرحلة الاحتلال. بل أثبتت بأنها أفضل من قواته الأمنية في حمايته وإطلاق العنان للاستيطان وتهويد القدس والاعتداء على المسجد الأقصى. هذه حقيقة مرّة لا تليق بفلسطيني ويجب على الرئيس محمود عباس أن يتوقف عن تغطيتها، والإشراف عليها.
ولقد أصبحت هذه الضرورة أشدّ إلحاحاً في أثناء حرب العدوان الإجرامي على قطاع غزة، ولا سيما والمقاومة تنتصر عليه ميدانياً عسكرياً ولم يبق غير تحرك الضفة الغربية في انتفاضة شاملة حتى تُتوج مع انتصار غزة، بانتصار دحر الاحتلال وتفكيك المستوطنات من الضفة الغربية وتحرير القدس واستنقاذ الأقصى وإطلاق كل الأسرى.
ولكن القرار السياسي الذي كان بيد محمود عباس وقيادة حركة فتح في ذلك الوقت حال دون اندلاع الانتفاضة. حيث حرمها قرار فلسطيني موحد ليضمن شمولها للشعب كله. بل أطلق الأجهزة الأمنية لتشتبك مع كل الحراكات التي انطلقت في تلك المرحلة.
أوَليس هذا بكثير وكثير جداً، وفوق ما يتصوره أي عقل بالنسبة إلى حركة فتح التي أطلقت الرصاصة الأولى، وذات الأمجاد في المقاومة والانتفاضتين الأولى والثانية. فكيف تنقلب الآن في عهد محمود عباس إلى النقيض. وتصبح أداة لقمع الانتفاضة، ومنع تحرير القدس والضفة الغربية.
لقد تبين أن كل حديث عن “استخدام كل أشكال النضال” أو “اللجوء إلى المقاومة الشعبية” لم يكن من جانب تلك القيادة غير ذرٍ للرماد في العيون. وذلك لحساب المفاوضات حيناً، أو لحساب التوجه إلى الهيئات الدولية، حيناً آخر، والذي راح يدور مكانه منتهياً حيث يبدأ، أو كما يُقال تسمع قعقعةً ولا ترى طحناً. أما اليوم فقد أصبح يعمل لحساب ما أعلنه محمود عباس: قرار واحد للحرب والسلم (ولا حرب على الأجندة) وقرار واحد للسياسة. وسلاح واحد (ليصبح مصير سلاح المقاومة في قطاع غزة كمصير السلاح بأيدي الأجهزة الأمنية في الضفة الغربية). وسلطة واحدة في الضفة الغربية والقطاع (سلطة تضع يدها على الأنفاق ومصانع السلاح والصواريخ وخلايا المقاومة).
وجاء خطاب الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، في مؤتمر المانحين في القاهرة، ليربط بين إعمار قطاع غزة بمحورين: الأول: تهدئة دائمة والثاني أن تبسط سلطة رام الله سيطرتها الكاملة على كل قطاع غزة. أي تصفية المقاومة المسلحة وإدخال القطاع كالضفة الغربية ضمن إطار الاتفاق الأمني.
على أن الكارثة الأخرى فتأتي من خلال المعاملة نفسها في الموقف من انتفاضة القدس المشتعلة بلا توقف منذ استشهاد الفتى محمد أبو خضير، ومروراً بحرب المقاومة في قطاع غزة وحتى اليوم، مع إصرار العدو على استملاك المزيد من البيوت العربية ومواصلة التهويد والاستيطان في القدس الكبرى ومحاولة فرض تقسيم الصلاة في المسجد الأقصى ليصبح حاله كحال الحرم الإبراهيمي في الخليل (تهويد وسيطرة كاملة). هذا فضلاً عن عمليات الحفر تحته تمهيداً لهدمه وبناء الهيكل المزعوم مكانه.
ففي القدس انتفاضة مستمرة، ودماء نازفة، وقمع صهيوني واسع النطاق. أما سلطة رام الله وأجهزتها الأمنية فماضيتان لقمع كل حراك متضامن مع الانتفاضة ومنتفض ضد الاحتلال، وهو ما راح يساعد على تخدير الوضع العربي عن التحرك ضد ما يفعله العدو في القدس والمسجد الأقصى، أو في الوقوف إلى جانب الانتفاضة.
فبدلاً من أن تدرك قيادة فتح وسلطة رام الله أن الطريق الوحيد لدرء الخطر الداهم في القدس والمسجد الأقصى هو انتفاضة الضفة تكتفيان بالاستنكار اللفظي والتهديد (الذي فقد صدقيته) باللجوء إلى ما تسميه السلطة معركة اللجوء إلى الهيئات والمحاكم الدولية، عدا طرح الموضوع على مجلس الأمن وهي تعلم عبثية ذلك. وصدق جرير إذ قال “زَعَمَ الفَرَزْدَقُ أَنْ سيقتلُ مِرْبَعًا/ أبشر بطول سَلامةٍ يا مِرْبَع”.
والأنكى أنها تحث الفنانين والفنانات والنخب العربية لزيارة القدس بما يحمله ذلك من تطبيع مع الكيان الصهيوني، فيما لا تحث على توجه مئات الألوف أو عشرات الألوف من الضفة الغربية للصلاة في المسجد الأقصى وتحدي الحصار المضروب عليه، بل تقمع إذا لزم الأمر تنظيم مثل هذا الزحف خوفاً من أن يتحول إلى اشتباك مع قوات العدو.
من هنا على الجميع أن ينتبه داخل فلسطين وخارجها ولا سيما على النطاقين العربي والإسلامي، لما يدبر من تصفية لسلاح المقاومة في قطاع غزة، كما للصمت والتثاقل عن التحرك لدعم انتفاضة القدس، ولا سيما شجب الدور الذي تلعبه الأجهزة الأمنية للحيلولة دون اكتمال انتفاضة القدس بانتفاضة شاملة في الضفة الغربية.
يحدث كل هذا في وقت وموازين قوى عالمية وإقليمية مؤاتية لمحاصرة الكيان الصهيوني وإحباط مخططاته في الضفة والقدس والمسجد الأقصى، وفي وقت يمتلئ فيه الشعب الفلسطيني في كل مواقع تواجده بروحية المقاومة المنتصرة في قطاع غزة، وبالعزيمة لإعلانها مقاومة وانتفاضة تحققان انتصاراً أكيداً على العدو الذي هزم جيشه ميدانياً في عدوانه الأخير كما هزم من قبل في حروب 2006 و2008/2009 و2012، فيما أصبح الكيان الصهيوني معزولاً في أوساط الرأي العام الغربي، ولم تعد دول الغرب قادرة على دعمه كما كان يحصل في الماضي.
أما مفتاح الحل والجواب فيكمنان في إطلاق انتفاضة في الضفة الغربية إلى جانب انتفاضة القدس المجيدة. فويل لمعارضيها ومحبطيها، وويل للقاعدين.