يواجه المزارع المصري حزمة من التحديات والعراقيل التي تهدد مستقبل الزراعة في مصر بالكلية من جانب، وقدرة العاملين في هذا المجال على الصمود والاستمرار من جانب آخر، وتتنوع تلك التحديات بين متوارثة عبر الأجيال المتتالية أو مستحدثة في ضوء السياسات الأخيرة والمستجدات الراهنة.
وبينما كانت تصنف مصر قديمًا على أنها مهد الزراعة في العالم، وسلة غلال المشرق والمغرب، كونها تمتلك أشهر واد للزراعة المستقرة، وكانت صاحبة أقدم حضارة زراعية عرفها الإنسان القديم، تبدل الحال خلال العقود الأخيرة، لتواصل بلد الزراعة نزيفها المتواصل في هذا القطاع الحيوي الذي طالما كان حائط الصد الأبرز في مواجهة المخططات الاستعمارية القديمة.
ورغم احتلال الزراعة المرتبة الثانية في الاستحواذ على الأيدي العاملة، بعد التجارة، إذ يعمل بها نحو 23.8% من قوة العمل البالغة 28.3 مليون عامل، فإن هذا القطاع لا يمثل من الناتج المحلي الإجمالي إلا 11.2% فقط، الأمر الذي يجسد الواقع المتدني لهذا النشاط الحيوي.
تقلص مساحة الأرض المزروعة
الأزمة الأبرز حضورًا في خريطة الزراعة المصرية تتمثل في تقليص المساحة المزروعة، وهو الأمر الذي يحمل الكثير من الدلالات، رغم أن تلك الظاهرة تعود إلى عقود طويلة مضت، لكنها ازدادت حضورًا خلال السنوات الخمسة الماضية، ما دفع لخروج الكثير من التكهنات التي ربطت بين هذا الملف وسد النهضة الإثيوبي الذي يهدد المستقبل المائي لمصر.
وبحسب الأرقام الرسمية فقد تراجعت مساحة الأرض المزروعة من 9 ملايين فدان، منها 6.15 مليون فدان أراضٍ قديمة، و2.9 مليون فدان أراضٍ جديدة عام 2016، إلى 8.68 مليون فدان، منها 5.98 مليون فدان أراضٍ قديمة، ونحو 2.7 مليون فدان أراضٍ جديدة في 2019.
وتتفاوت معدلات تقليص مساحات الأرض المزرعة من مكان لآخر، فقد كشفت الدراسات الحديثة بالأقمار الصناعية فقدان منطقة شرق الدلتا نحو 43% من مساحة أراضيها الزراعية، كما تراجعت مساحة الأراضي في محافظة كفر الشيخ على سبيل المثال بنسبة 20% خلال العقدين الماضيين.
علماء الهيئة القومية للاستشعار عن بعد وعلوم الفضاء توصلوا من خلال بعض الصور المسحية إلى زيادة معدلات الزحف العمراني علي الأراضي الزراعية بنسبة تصل إلى 23% سنويًا بمختلف المحافظات، محذرين من أنه بحلول عام 2050 سوف تخسر مصر نحو 17% من مساحة الدلتا.
ورغم نجاح برامج الاستصلاح الزراعي خلال الـ60 عامًا الماضية في زيادة مساحة الأراضى الصالحة للزراعة بنسبة 50%، فإن حساب تلك الزيادة مقارنة بالزيادة السكانية وتقييم المساحة الخصبة المخصصة لعدد المواطنين، يشير إلى انخفاض تلك النسبة لأكثر من النصف، ففي الستينيات كان الكيلومتر مربع من الأراضي الزراعية يلبى حاجة ألف من السكان من المنتجات، أما اليوم فالكيلو الواحد بات مطالبًا بتلبية احتياجات 2500 فرد.
ندرة المياه ومشكلة الري
الأعوام الثلاث الأخيرة تحديدًا بدأت ظاهرة ندرة المياه تفرض نفسها بصورة مقلقة، وهو ما يمكن استشعاره من خلال ردود الفعل المنددة من المزارعين الذين عبروا مرارًا وتكرارًا عن عدم وصول مياه الري لهم أو انخفاض معدلاتها بصورة دفعت بعضهم إما إلى تغيير خريطة المحاصيل التي يزرعها أو تبوير الأرض تجنبًا للخسائر المتوقعة حال الاستمرار في زراعة مزروعات بعينها تتطلب كميات كبيرة من المياه كالأرز والقصب على سبيل المثال.
ورغم أن البعض ربط بين هذه الظاهرة وتصاعد أزمة سد النهضة والحديث عن انخفاض حصة مصر من مياه النيل، فإن آخرين استبعدوا هذا السيناريو جملةً وتفصيلًا، مؤكدين أن انخفاض المياه في مصارف الري بكل أنحاء الجمهورية يعود لمشاكل فنية أو تقنية في تلك المصارف.
لكن في المقابل اتخذت الحكومة بعض الإجراءات والتحركات التي أثارت قلق البعض، منها مثلًا إقرار مجلس الوزراء مشروع “التحول لنظم الري الحديثة” الذي من بين بنوده “التحول من الرى بالغمر إلى الرى الحديث، وتقليل زمن الرى، وتوفير المياه لمساحات أراض جديدة، وتحسين كفاءة نقل المياه، وتحسين كفاءة الري الحقلي، وتحقيق عدالة توزيع المياه”.
في فبراير/شباط الماضي كانت وزارة الري المصرية قد أعلنت إدخال بعض التعديلات على المادة 38 من قانون الري يسمح “بفرض رسوم مقدارها 5 آلاف جنيه (319 دولارًا) كل 5 أعوام على ماكينات الري الموضوعة على الترع العامة”
علاوة على ذلك تقليص مساحات الأرض المزروعة بالمحاصيل التي تحتاج لكميات كبيرة من المياه وعلى رأسها محصول الأرز، فقد فرضت الحكومة عقوبات رادعة على كل من يخالف تلك التعليمات وفق ما تضمن قانون الري الجديد.
فتنص المادة 31 من هذا القانون على أن “تحدد الوزارة المساحات والمناطق المخصصة لزراعة الأرز سنويًا بقرار من الوزير بالتنسيق مع وزير الزراعة واستصلاح الأراضي وتعلن لذوى الشأن بالطرق الإدارية لتنفيذها”، كما نصت على معاقبة كل من يخالف تلك المادة “بالحبس مدة لا تزيد على ستة أشهر وبغرامة لا تقل عن ثلاثة آلاف جنيه ولا تزيد على عشرة آلاف جنيه عن الفدان أو كسر الفدان أو بإحدى هاتين العقوبتين، وتضاعف العقوبة في حالة تكرار المخالفة”.
أزمة الأسعار وتفاقم الأعباء
في الوقت الذي ترتفع فيه أسعار الأسمدة والمواد المستخدمة في الزراعة (زيادة في سعر طن السماد وصلت إلى 400 جنيه مارس/آذار الماضي) تتراجع فيه أسعار المحاصيل بصورة تزيد من تفاقم الأزمة، الأمر الذي عرض المزارعين لخسائر فادحة على مدار السنوات الماضية.
نقيب الفلاحين، حسين أبو صدام، كشف ارتفاعًا ملموسًا في المحاصيل الزراعية، أبرزها البطاطس والبطاطا والجزر والفاصوليا والطماطم، هذا بخلاف أسعار المحاصيل الموسمية كالأرز والقمح التي شهدت انخفاضًا كبيرًا كانت له آثاره السلبية على الفلاح.
أبو صدام أشار في تصريحات صحفية له إلى تراجع أسعار المحاصيل هذا العام مقارنة بالعام الماضي، لافتًا إلى انخفاض “أسعار كيلو البطاطس إلى ما بين 1 و2.5 جنيه مقابل 6 و8 جنيهات خلال نفس الفترة من العام الماضي، وسجل سعر كيلو الفاصوليا بين 4 و6 جنيهات مقابل 8 جنيهات قبل عام، ووصل سعر كيلو الطماطم إلى بين 1.75 و2.5 جنيه مقابل 3 جنيهات و3.5 جنيه العام الماضي”.
وتتعمق الأزمة مع فرض الحكومة مزيدًا من الأعباء الإضافية على المزراعين، تضمنها مشروع الري الحديث الذي أقره مجلس النواب (البرلمان) مؤخرًا، ومن بين تلك الأعباء “في حال إنشاء شبكات صرف عامة مغطاة أو مكشوفة، يضاف إلى التكاليف 10% مصاريف إدارية، ويحمل كل فدان يستفيد من هذه الشبكات نصيبه منها”.
في فبراير/شباط الماضي أعلنت وزارة الري المصرية إدخال بعض التعديلات على المادة 38 من قانون الري يسمح “بفرض رسوم مقدارها 5 آلاف جنيه (319 دولارًا) كل 5 أعوام على ماكينات الري الموضوعة على الترع العامة”، وهي الرسوم التي أثارت سخط المزراعين لكن دون استجابة من الحكومة.
كورونا.. ما زال النزيف مستمرًا
تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن.. فالفلاح المصري الذي يعاني بطبيعة الحال من أزمات موسمية شبه مستمرة، بعضها باتت دائمةً، وأخرى بدت إرهاصاتها تلوح في الأفق، إذ به يتلقى ضربات أخرى موجعة منذ تفشي فيروس كورونا المستجد (كوفيد 19)، وهي اللكمات التي ألقت بظلالها على المستوى المعيشي لما يزيد على 8 ملايين أسرة في مصر خلال العام والنصف الأخير.
في تقرير صادر عن المركز المصري للدراسات الاقتصادية، كشف تداعيات الوباء العالمي على المزارع المصري فيما يتعلق بتراجع أسعار المحاصيل مقارنة بكلفتها العالية، التقرير استشهد بمحصول البطاطس، وهو أحد أكثر المحاصيل التي يستهلكها الشارع المصري، إذ انخفض سعر الطن إلى 1200 جنيه في حين تصل تكلفته إلى 4 آلاف جنيهات، أما فيما يتعلق بأسعار التصدير فانخفضت من 120 دولارًا إلى أقل من 10 دولارات للطن.
الجهود التي تبذلها الدولة على مدار العقود الثلاث الماضية للإبقاء على التفوق المصري الزراعي، لم تعد كافية لتحقيق هذا الهدف
محصول القمح كذلك، وهو أحد أكثر المحاصيل التي يعتمد عليها الفلاح المصري في تعزيز دخله السنوي، فقد تراجع سعره بصورة كبيرة خلال الربع الأول من 2020 (فبراير – مارس) ليواصل هذا التراجع العام الحاليّ، بالتزامن مع تراجع أسعار الذرة وقصب السكر وذلك بسبب انخفاض الطلب عليها عالميًا.
هذه الوضعية الحرجة دفعت الكثير من المزارعين إلى اللجوء للخيارات الفردية في التعامل مع الأزمة، كتخزين بعض المحاصيل والاكتفاء بعرض جزء بسيط منها للبيع والآخر للتقاوي في العام القادم، بدلًا من بيعها بتلك الأسعار المنخفضة، وهي السياسة التي من المحتمل أن يكون لها تبعات كارثية بحسب التقرير.
حلول عدة قدمها خبراء الزراعة في مصر لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، بعدما بات أحد أهم أضلاع الدولة المصرية في مهب الريح، منها ما قدمه نقيب الفلاحين بشأن تفعيل قانون الزراعات التعاقدية لتعويض غياب الدورة الزراعية، الذي حمله مسؤولية تفاقم الأزمة التسويقية والسعرية.
وفي الأخير فإن الجهود التي تبذلها الدولة على مدار العقود الثلاث الماضية للإبقاء على التفوق المصري الزراعي، لم تعد كافية لتحقيق هذا الهدف، وتحتاج إلى مضاعفة تلك التحركات لاستعادة الريادة في هذا النشاط، خاصة بعدما أصبح المزارع (عصب الزراعة الأول) خارج نطاق الخدمة في كثير من المناطق، في ظل موجة الدفع بالشباب إما إلى الهجرة وإما العمل في المجال الصناعي والخدمي الأكثر ربحًا.