تشهد البحرية التركية على مستوى الأساطيل المدنية والعسكرية على حد سواء نشاطًا مكثفًا وملحوظًا خلال الأيام الأخيرة، سواء كان ذلك على مستوى التدريبات العسكرية الواسعة التي شهدت إطلاق أسلحة جديدة أم في الميدان المدني الذي لا يخلو من أبعاد إستراتيجية استقلالية، مدعومًا من أعلى المستويات في الدولة، مستغلًا إمكانات الجغرافيا الاقتصادية والسياسية والعمل تحت حماية الأساطيل العسكرية التركية، فما القصة؟
ذئب البحر
هي أكبر المناورات العسكرية في تاريخ تركيا على الإطلاق، عملية دفع بجيش صغير إلى المواقع الأمامية لمحاكاة سيناريوهات عسكرية واقعية، بالذخيرة الحية، وهي بذلك تعد أكبر حتى من مناورات “الوطن الأزرق” المعروفة، سواء في ناحية حجم العناصر البشرية المشاركة أم أعداد المعدات الحربية المستخدمة في المناورات أم في المدة الزمنية التي تستمر خلالها القوات مستنفرةً في البحار.
على مدار أسبوعين تقريبًا، بدايةً من 25 من مايو/آيار الماضي، وحتى اليوم الأحد الموافق الـ6 من يونيو/حزيران يقوم ما لا يقل عن 25 ألف جندي وضابط تركي، وما لا يقل أيضًا عن 130 قطعة بحرية سطح، إلى جانب 10 غواصات وأكثر من 40 مقاتلة ونحو 50 مسيرة ومروحية بكل الأعمال الهجومية والدفاعية المعروفة في ميادين القتال البحري.
أبرز الأنشطة النوعية التي شهدتها المناورات كانت في نطاق المنطقة المشتعلة منذ أعوام شرق المتوسط، التي تمثلت في عدد كبير من عمليات الإنزال الجوي المتنوعة ضد أهداف بحرية، بدايةً من أعمال الدفاع تحت الماء (الضفادع البشرية) مرورًا بالإنزال على إحدى الجزر مظليًا لاستهداف نقاط محددة، وصولًا إلى الإنزال التقليدي على متن إحدى سفن السطح المعادية.
نظرًا لأهميتها، فقد شهدت المناورات حضورًا رفيع المستوى من القيادات التقنية في الجيش التركي مثل وزير الدفاع خلوصي أقار الذي تابع الأنشطة العملية رفقة قائد البحرية التركية يالچين باياْل، من على متن القطعة البحرية العملاقة تركية الصنع “TCG Salihries”، التي كانت بمثابة مركز التحكم والسيطرة في مجمل الأنشطة العسكرية.
هذا النمط من التدريبات مهم من أجل حماية حقوق ومقدرات الأمة التركية والأمة القبرصية التركية
بالنسبة لقائد البحرية التركية، فإن هذه المناورات النوعية، وإن كانت مخططة مسبقًا ضمن جدول زمني معروف على مستوى القيادة والخبراء العسكريين، فإنها مع ذلك، تعد عملًا مناسبًا لاستعراض الكفاءة الإدارية والتنظيمية لقيادة القوات البحرية ضمن معركة الأسلحة المشتركة، وجهدًا ضروريًا من أجل زيادة رفع مستوى الجاهزية للقيام بأي عمليات بحرية في أي وقت تحتاج البلاد فيه إلى ذلك.
أما بالنسبة للرئيس التركي الذي تواصل مع العناصر المشاركة في المناورات عبر اتصال مرئي يوم الجمعة الماضي، فإن هذا النمط من التدريبات مهم من أجل حماية حقوق ومقدرات الأمة التركية والأمة القبرصية التركية، ونجح بالفعل في غرس الثقة في الأصدقاء وزرع الخوف في صدور الأعداء، إذ يحرص أبناء البحرية التركية على التحلي بأعلى درجات الحس الوطني من أجل حماية بلادهم ومواطنيهم، كما أثنى الرئيس التركي على قوات بلاده.
المسيرات ليست جوية فقط
من المعروف أن تركيا – بلا مبالغة – باتت من أكثر دول العالم تقدمًا في صناعة الطائرات المسيرة بأنواعها، التي تستخدم في الاستطلاع والمراقبة أو تلك التي تستخدم في العمليات المسلحة (جو أرض) بشكل عملياتي مجرب في عدد غير بسيط من ساحات القتال الإقليمية، حتى إنها باتت، هذه المسيرات، محط اهتمام عالمي، من دول أوروبية.
لكن يبدو أن تركيا لن تكتفي بالاستثمار في هذا النوع من المسيرات، وأن هناك رؤيةً للاستثمار في أنماط القتال المستقبلي التي تقلل الاعتماد على العنصر البشري، بما في ذلك المجال البحري، ضمن خطة أكبر للاستثمار في مجالات حروب المستقبل، على غرار “المدافع الكهرومغناطيسية” التي تعد تركيا من الدول السباقة في الاستثمار فيها أيضًا.
خلال هذه المناورات، ذئب البحر، كشفت تركيا النقاب عمليًا عن إحدى الوحدات البحرية المسيرة، التي تعرف باسم “SIDA”، ضمن برنامج أشمل لتصنيع القطع البحرية غير المأهولة يحمل اسم “أولاق” (ULAQ).
بدأ تصنيع “سيدا” في ولاية أنطاليا التركية قبل 3 سنوات، ضمن تحالف ثلاثي محلي يتكون من شركات: ميت سكسون وأري شيبارد وروكستان، وتستطيع القطعة أن تبحر لمسافة 400 كيلومتر، بسرعة تصل إلى 65 كيلومترًا، وتتمتع بمنظومة اتصالات مشفرة وقدرة على الرؤية الليلية والنهارية، ويمكن أن تؤدي مهام جمع المعلومات الاستخبارية، إلى جانب مرافقة القطع الكبرى، ضمن نظام تحكم عن بعد يشمل صواريخ مضادة للدروع من صناعة “روكيستان”.
وفي تصريحات رسمية سابقة من مسؤولين رفيعي المستوى في الثنائي الذي صمم وصنع بدن القطعة بعيدًا عن تسليحها، فإن تركيا تنوي أيضًا التوسع في تصديرها، إذ تخطط لصناعة ما يصل إلى 50 قطعةً سنويًا، وأن السياق الأشمل للاستثمار في هذه الفئة هو تعزيز قدرة تركيا على تنفيذ إستراتيجية “الوطن الأزرق” التي تشمل فرض سيطرة البحرية التركية على نطاقات محددة في المثلث البحري: إيچة والمتوسط والبحر الأسود.
البحر الأسود
من البحر الأسود، ولاية زونغلداق التركية شمالًا على وجه التحديد، بالتزامن مع التحركات العسكرية المشار إليها، فقد كشف الرئيس التركي رجب أردوغان أيضًا، عما أسماه “بشرى سارة” جديدة بخصوص الاكتشافات الغازية في هذا البحر.
بات لتركيا شبكة من الآبار الغازية المائية في البحر الأسود هي: سكاريا وأماسرا وتونا، ومن المنتظر أن تستثمر شركة محلية في هذه الحقول التي اكتشفتها السفينة التركية الفاتح
يوم الجمعة الماضي، أعلن أردوغان اكتشاف حقل جديد يدعى “أماسرا 1” بطاقة احتياطية تقدر بـ135 مليار متر مكعب من الغاز، كي تضاف إلى البشرى السابقة التي كشفها الرئيس التركي أغسطس/آب الماضي التي قدرت احتياطاتها بـ405 مليارات متر مكعب من الغاز، فكان هذا الاكتشاف الأضخم في تاريخ البلاد، لتصبح الاحتياطات الإجمالية التركية من الغاز في البحر الأسود نحو 540 مليار متر مكعب.
لا يتوقف الأمر هنا عند النتيجة النهائية المتعلقة باكتشاف مزيد من الاحتياطات الغازية التركية في بلد تعاني من كلفة الإنفاق، اقتصاديًا وسياسيًا، على استيراد الغاز الطبيعي من الخارج، وإنما بهذا الاكتشاف، بات لتركيا شبكة من الآبار الغازية المائية في البحر الأسود هي: سكاريا وأماسرا وتونا، ومن المنتظر أن تستثمر شركة محلية في هذه الحقول التي اكتشفتها السفينة التركية “الفاتح”، وبحسب الرئيس التركي فإن هذه الحقول كانت قد صنفت في السابق بأنها حقول غير صالحة لاستخراج الطاقة.
خلال إعلانه هذه البشرى، شدد الرئيس التركي على أنها سوف تساهم مع الاكتشاف السابق العام الماضي في معالجة الخلل البنيوي في الاقتصاد التركي، الذي يعد اقتصادًا صناعيًا متقدمًا في نفس الوقت الذي يعتمد فيه بشكل شبه كامل على استيراد الغاز من الخارج، حيث يتوقع أن تساهم الاحتياطات المكتشفة التي سيبدأ استخراجها بداية من عام 2023 في تعويض النقص المتوقع عن اقتراب انتهاء عقود استيراد الغاز طويلة الأجل من روسيا وأذربيچان من جهة، وسد العجز المتوقع من زيادة الطلب على الطاقة بنسبة تصل إلى 60% بحلول عام 2030، لتصبح 80 مليار متر مكعب سنويًا في تركيا من جهة أخرى.
في نفس الولاية ونفس السياق والتوقيت، افتتح الرئيس التركي المرحلة الأولى من ميناء “ڤيليوس” العملاق، يعد الميناء تحقيقًا لحلم تاريخي للسلطان عبد الحميد الثاني قبل نحو 150 عامًا، كما يعد إضافة چيواقتصادية للبلاد، إذ يصنف واحدًا من أهم 3 موانئ تركية ويستطيع استيعاب حمولة سنوية تقدر بـ5 ملايين طن بضائع سنويًا.
المشروع الذي وضع حجر أساسه قبل 5 أعوام من هذا الافتتاح، من المنتظر أن يستوعب 25 مليون طن بضائع سنويًا عند اكتماله نهائيًا، ويدخل ضمن أدوات الدولة التركية لتحقيق معدل صادرات يصل إلى 200 مليار دولار سنويًا، ويعتبر تجسيدًا “لمواصلة تحقيق أهداف تركيا في النقل البري والجوي والبحري وأحد المشاريع التي سيفتخر الجميع بإنجازها”، على حد وصف عادل قرة إسماعيل أوغلو وزير النقل والبنية التحتية خلال حفل تدشين المرحلة الأولى يوم الجمعة الماضي.