جزء كبير من عوامل تردي المشهد في مصر، في السنوات الأخيرة، نتج عن قناعة تكوّنت لدى قطاع عريض ومتنوع من المواطنيين مفادها أن البلد تعيش حالة حرب (State of war)، هذه القناعة تشكّلت بدءا في أجواء ثورية، وبالتحديد في أوقات الصدام العنيف بين الثوار والتشكيلات التابعة لوزارة الداخلية أو القوات المسلحة أو “البلطجية”، وقد اشتغلوا عليها (الثوار) وصارت إحدى الروافع الايديولوجية الداعمة للفعل الثوري. ومنذ الإطاحة بالرئيس مرسي، في 3 يوليو/تموز 2013، عمل “الإخوان المسلمون”، وغيرهم من الذين رفعوا راية “عودة الشرعية”، على اجترار حالة الحرب هذه، أمام نظام لا ينفك عن التنكيل بهم على كل الأصعدة.
أيضا تبنّت أجهزة الدولة المصرية، لا سيما الجيش والشرطة والإعلام، خطاب حالة الحرب، بوتائر مختلفة منذ يناير/كانون الثاني 2011، لكن الصوت الأعلى لهذه الحالة وجد ممكناته بعد دعوة عبد الفتاح السيسي الشعب للتظاهر و”تفويض الجيش لمواجهة العنف والإرهاب” في 24 يوليو/تموز 2013، وقد كان وزيرا للدفاع برتبة فريق أول آنذاك. بالتالي تكرّست حالة الحرب في المتخيّل السياسي المصري، سواء لدى قوى مناهضة ومعارضة ترى النظام الحالي نوعا من الاستعمار الداخلي هدفه عرقلة التغيير والحفاظ على الوضع القائم (Status quo) أو لدى النظام نفسه الذي يعتبر المعارضين حفنة من العملاء والإرهابيين مدعومة من جهات خارجية لا تريد الخير لمصر. نجد بعض تجليّات هذا التكريس في المعجم السياسي المفعّل حاليا في التداول المصر، حيث ألفاظ من قبيل: معركة، نكسة، حرب، عدو، مقاومة، تمثّل المنطوق السائد بين الأطراف المتصارعة.
لا يبدو أن التموضع في حالة حرب قد أفاد الثوار، وقد يكون السبب في ذلك أن هذا التموضع لم يكن أصلا بالجدية الكافية، لكن ما يبدو واضحا أن ما أدّى إليه الدخول في هكذا حالة شعورية هو زيادة في الرعونة والتخشّب الثوري والعصبية الثورية، وتحوّل الثورة من لحظة تحديث سياسي جماعي، تتغيّا استعادة الدولة وإعادة ترتيب علاقات السلطة على نحو ديمقراطي، وتُقدّم أفقا ما بعد ايديولوجي لمختلف الفاعلين، تحوّلها إلى نزوع طليعي فوقي ودوغمائي. ولا يبدو كذلك أن انجرار قوى “دعم الشرعية” وراء هذه الحالة النفسانية الاجتماعية قد أفادهم في شيء، فبدلا من اكتسابهم فصائل أخرى في صراعهم مع نظام السيسي، من خلال التأكيد على شمولية الظلم الواقع وعدم إمكان الديمقراطية خارج الأفق المدني أو داخل الشعبوية، أخذوا في تطييف المشهد والدخول في حالة برانويا وطهرانية وعزلة.
ما يظهر، إذن، أن أجواء حالة الحرب هذه غير منتجة على نحو مدني أو معارض، وأن المستفيد الوحيد منها هو العسكري؛ فقد خلق الأجواء التي يعرف جيدا كيف يستغلها ويعمل فيها أو سفينة الفضاء خاصته. صحيح أنه ثمة تحديات من قبل مسلحين تواجه مصر، لكنه أمر يحصل في دول أخرى كثيرة (أقربها تركيا) وتقوم عليه جماعات أو أقليات أكثر تنظيما، ومع ذلك لا تسيطر على الأجواء ميتافيزيقا “لا صوت يعلو فوق صوت المعركة”! وعليه، يقع على عاتق المدني المعارض مهمة جَلب العسكري للأرضية المدنية، بحكم أن المجال السياسي هو باللزوم مجال مدني.
ولا تتم تعرية العسكري وتقليم أظفاره إلّا في أجواء مدنيه تبيّن أن المجال السياسي ليس مكانه المناسب. فالتأكيد، إذن، طوال الوقت على أن البلاد لا تعيش حالة حرب، ولا يصح أن تخضع لقوانين حرب، ولا أن تجري فيها المعاملات كما تجري في أجواء الحروب، مهمّة مدنية راهنة وحالة.