بعد موجة المزاعم والاتهامات العارمة التي أثارها ويثيرها زعيم المافيا التركي سادات بكر، عاد مثلث العلاقات بين المافيا والدولة والسياسة للظهور مجددًا على جدول أعمال تركيا.
وأصبحت فيديوهات بكر، التي يعترف فيها عن علاقته برجال الدولة العميقة في تركيا، وقيامه بأعمال خارجة عن القانون بأمر منهم، فضلًا عن اتهامه لمسؤولين بارزين في الدولة والحكومة بارتكاب أعمال قتل وفساد واغتصاب وإتجار بالمخدرات، من أكثر الفيديوهات مشاهدةً ليس فقط في تركيا، بل على المستوى الإقليمي والدولي.
وبكر، الذي كان لغاية فترة قريبة من أبرز الداعمين لتحالف الجمهور الحاكم، المكون من حزبي العدالة والتنمية والحركة القومية، أعلن فجأة ومن دون سابق إنذار عن أنه “شخص غير مرغوب به”، ما اضطره للهرب خارج تركيا قبل أكثر من سنة ونصف.
جرى تفسير الأمر هذا على أن بكر راح ضحية صراع داخل تحالف الجمهور، وأنه تم استبداله بزعيم المافيا المقرب من حزب الحركة القومية، علاء الدين تشاكجي، الذي أُخرج من السجن بعفو رئاسي العام الماضي.
وذهب البعض لتشبيه فيديوهات بكر بحادثة سوسورلوك، التي وقعت عام 1996، والتي بفضلها تم كشف النقاب عن علاقة المافيا برجالات الدولة العميقة من أجهزة الأمن والاستخبارات، بالإضافة إلى تورط سياسيين في جرائم القتل التي اجتاحت عموم تركيا خلال فترة التسعينيات، والتي اشتهرت فيما بعد بحقبة جرائم القتل مجهولة الفاعل، راح ضحيتها الكثير من قيادات اليسار وناشطين أكراد وصحفيين ورجال أعمال.
المافيا التركية
تضم المافيات التركية التي تنشط في المدن الرئيسية الكبرى، مثل إسطنبول وأنقرة وإزمير، مئات الآلاف من المنتسبين، وتنشط في عدة مجالات، أبرزها الإتجار بالمخدرات والبشر وتهريب السلاح والإتاوات والتحكم في سوقَي الدعارة والقمار، فضلًا عن تهريب اللاجئين إلى بلغاريا واليونان عبر البر والبحر، وذلك من أجل توسعة مناطق نفوذها وتمويل أعمالها وزيادة مواردها البالغة مليارات الدولارات.
طالبت زوجة الرئيس التركي السيدة أمينة أردوغان في أكثر من مناسبة، بضرروة الحد من هكذا عروض، بسبب ما تتركه من أثر سلبي على بنية المجتمع.
وكان للمسلسلات التلفزيونية والأفلام دور مهم في تمجيد زعماء المافيا، والترويج لهم على أنهم أبطال من أمثال روبن هود، يأخذون من الأغنياء ليوزعوا على الفقراء والمحتاجين، فضلًا عن مساندتهم للحكومة وأجهزة الدولة الأمنية في صد الأخطار الداخلية والخارجية التي تحدق بالبلاد، فيما يعد مسلسل “وادي الذئاب” الذي لاقى انتشارًا واسعًا أحد أبرز هذه العروض.
وفي السنوات الأخيرة ولكثرة هذه العروض، طالبت زوجة الرئيس التركي السيدة أمينة أردوغان في أكثر من مناسبة، بضرروة الحد من هكذا عروض، بسبب ما تتركه من أثر سلبي على بنية المجتمع، من خلال التشجيع على العنف ودفع الشباب الأتراك للاقتداء بزعماء المافيا والسير على خطاهم.
الدولة العميقة في تركيا
يتم تعريف الدولة العميقة على أنها دولة داخل الدولة، تضم مجموعة من التحالفات النافذة المناهضة للديمقراطية داخل النظام السياسي في تركيا، وتتكون من عناصر رفيعة المستوى من داخل أجهزة المخابرات والقوات المسلحة والأمن والقضاء والمافيا، فضلًا عن ضمها لسياسيين بارزين وصحفيين مؤثرين وأساتذة جامعيين.
ويعتقد المنتسبون والمنظّرون لمفهوم الدولة العميقة، أنهم الحماة الفعليين للبلاد، وأن مسؤولية إدارة البلاد والنجاة بها إلى برّ الأمان يقع على عاتقهم وحدهم، ومن أبرز ما تحمله أجندتهم السياسية الولاء للقومية التركية، وانتهاج سياسات يتخللها العنف والضغط بشكل سري، للتأثير على النخب السياسية والاقتصادية من أجل تحقيق مصالح معينة، بهدف مجابهة الأخطار التي تحدق بالبلاد.
ولطالما أحيط مفهوم الدولة العميقة في تركيا بهالة من الغموض، وينتابه الكثير من الأسرار والألغاز، ليس فقط اليوم بل منذ فترة حكم الدولة العثمانية منذ قرابة القرن، ويذكر أن رئيس الوزراء الأسبق، بولنت أجاويد، كان أول رجل دولة يستخدم مصطلح الدولة العميقة، في خطاب ألقاه في 26 سبتمبر/ أيلول 1974 في مدينة غيرسون.
علاقة المافيا بالدولة العميقة
على مدار عقود سابقة، توطدت العلاقة بين المافيا ورجال الدولة العميقة وجهاز الاستخبارات التركية، حيث أوكل إليها بشكل أساسي مهمة مجابهة المافيات الكردية التي تدعم حزب العمال الكردستاني الإرهابي، فضلًا عن مساعدة الحكومة للتصدي للأخطار والهجمات التي تقوم بها عصابات أجنبية وتنظيمات إرهابية، تنشط على الأراضي التركية.
وعلى إثر ذلك، اغتنمت المافيا التركية هذه الشراكة الاستراتيجية مع أجهزة ورجال الدولة، وسوّق زعماؤها أنفسهم على أنهم حماة الوطن وخط دفاعه الأول، في مواجهة قوى الشر في العالم السفلي المظلم “عالم المافيا”، الأمر الذي ساعدهم على الانتشار ونيل القبول والترحيب من قبل المجتمع، من خلال صبغ أعمالهم بالوطنية وحبهم لمساعدة الفقراء ونصرة المظلومين.
وفي 3 نوفمبر/ تشرين الثاني 1996، وقعت حادثة سوسورلوك الشهيرة، التي كان لها الفضل في الكشف عن علاقة المافيا بالسياسيين ورجال الأمن، حيث كشف حادث سير عن تواجد برلماني كردي مقرّب من الدولة ومدير كلية شرطة إسطنبول، بالإضافة إلى أحد زعماء المافيا في العربة نفسها، الأمر الذي أكّد صحة الأخبار التي تقول بوجود قائمة بيد زعماء المافيا معدّة مسبقًا من قبل قيادات الدولة العميقة، تضم رجال أعمال وقيادات كردية بارزة بهدف اغتيالها.
بعض من عمليات المافيا التركية
نفذت المافيا التركية بأمر من رجال الدولة العميقة العديد من عمليات القتل والاغتيال، لشخصيات يسارية وكردية بالإضافة إلى عدد كبير من الصحفيين الأتراك، وبالقدر الذي نشطت به المافيا داخل تركيا نشطت أيضًا في الخارج.
اشتهرت سنوات التسعينيات بنشاط المافيا التركية وبكثرة عمليات الاغتيال التي نفذتها بأمر من رجال الدولة العميقة، وجرائم القتل التي لم تحل لغاية الآن وسجّلت ضد مجهول.
فقد ارتكب عبد الله شاتلي، زعيم المافيا التركي وقائد منظمة الذئاب الرمادية القومية، الذي قُتل في حادثة سوسورلوك عام 1996، العديد من عمليات الاغتيال بحق سياسيين أتراك وأكراد، وأوكل إليه جهاز الاستخبارات التركي مهمة ملاحقة وقتل أعضاء وقيادات بارزة من منظمة “أصالا” الأرمينية في بيروت وأثينا وباريس، بعد قيام المنظمة لعمليات اغتيال بحق دبلوماسيين أتراك في الخارج.
ويذكر أن عبد الله شاتلي كان قد فجّر محطة حافلات في دمشق، ردًّا على مساعدة الحكومة السورية لحزب العمال الكردستاني، وكان يخطط رفقة جهاز الاستخبارات التركي لاغتيال زعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان، قبل وفاته في حادث السير.
واغتال محمد علي أغجا الذي كان عضوًا في منظمة الذئاب الرمادية القومية، عبدي إبكجي رئيس تحرير صحيفة “مليات” التركية عام 1979، وبعد هروبه من السجن في تركيا حاول اغتيال بابا الفاتيكان يوحنا بولس الثاني بداية ثمانينيات القرن الماضي، لكن محاولته لم تنجح بقتل البابا وجرى اعتقاله في إيطاليا.
وبحسب مذكرات رئيس الوزراء الأسبق بولنت أجاويد، فقد تعرض لمحاولة اغتيال في السبعينيات من قبل عصابات المافيا التركية المدعومة من حزب الحركة القومية، واستمرت التهديدات في ملاحقة أجاويد إلى أن توقفت عام 1999، بعد تشكيله لحكومة ائتلافية مع حزب الحركة القومية.
وأيضًا من أبرز الجرائم التي تمّت في التسعينيات، هي قضية اغتيال الصحفي الاستقصائي أغور مومجو عام 1993، التي اتهم سادات بكر في أحد فيديوهاته وزير الداخلية الأسبق محمد أغار بالتخطيط لها والوقوف على تنفيذها.
التاريخ يعيد نفسه
في عام 2002، ومع قدوم حزب العدالة والتنمية إلى سدة الحكم في تركيا، بقيادة رجب طيب أردوغان، وتحقيقًا للوعد الانتخابي الرامي لتخليص البلاد والشعب من قبضة المافيا، جرى تحييد عدد كبير من هذه العصابات، من خلال المداهمات الأمنية واعتقال أفراد وقيادات كبرى العصابات.
وجراء ذلك، تم إسدال الستار عن حقبة سيطرة المافيا على الحياة السياسية في تركيا، وبدأ على الفور التأسيس لدولة الأمن والنظام، استعدادًا لتلبية شروط دخول الاتحاد الأوروبي.
وعلى الرغم من كل الجهود المبذولة من قبل حكومة العدالة والتنمية، إلا أن المافيا لم تنتهِ بشكل تام، ومع انتقالها إلى العمل في الخفاء، حافظت قياداتها على علاقاتها مع بعض السياسيين ورجال الأمن والاستخبارات، وأبقت على مصالحها المشتركة بشكل خفي.
ومنذ عام 2018، وبعد أن تم تشكيل تحالف الجمهور الذي يضم حزب الحركة القومية، الحزب المعروف بصلاته التاريخية مع المافيا ورجالات الدولة العميقة، عاد زعماء المافيا إلى مشهد السياسة التركية بكل قوة، وعاد معهم الحديث عن بدء الدولة العميقة للعمل مجددًا داخل مؤسسات الدولة.
تتهم المعارضة تحالف الجمهور بالسعي للرجوع بتركيا إلى أيامها المظلمة، خصوصًا بعد احتضانهم للمافيا وفسح المجال أمام زعمائها التاريخيين، صانعي أحلك ليالي تركيا، للعودة إلى المشهد السياسي.
وتم العام الماضي الإفراج بعفو رئاسي عن أحد أكثر زعماء المافيا شهرة في تركيا، علاء الدين تشاكجي، المتهم بارتكاب العشرات من جرائم القتل والاغتيال لسياسيين أتراك داخل وخارج تركيا، والذي سُجن بعد أن أمرَ بقتل زوجته السابقة بالرصاص أمام أطفالهما.
ومع عودة تشاكجي للساحة مجددًا، ظهر معه على العلن رجالات الدولة العميقة من حقبة التسعينيات، الحقبة المظلمة التي سيطرت بها الدولة العميقة على الحكم في البلاد بشكل كامل، وارتكب خلالها أفظع جرائم القتل والنهب والابتزاز.
ولم يكتفِ تشاكجي بالخروج إلى العلن فقط، وأخذ الصور بجانب زعيم الحركة القومية دولت بهتشلي، والتفاخر بصداقاته القديمة مع أبرز رجالات الدولة العميقة على وسائل التواصل الاجتماعي، بل قام بتوجيه تهديدات بالقتل لزعيم حزب الشعب الجمهوري كمال كليجدار أوغلو، في ظل صمت كل من أردوغان وبهتشلي على هذه الأفعال.
ومن جانبها تتهم المعارضة تحالف الجمهور بالسعي للرجوع بتركيا إلى أيامها المظلمة، خصوصًا بعد احتضانه للمافيا وفسح المجال أمام زعمائها التاريخيين، صانعي أحلك ليالي تركيا، للعودة إلى المشهد السياسي، من أجل خلق مناخ خوف وتوتر لخفت أصوات المعارضين لنظام الحكم في البلاد.