ما زالت غزة تنفض عنها غبار الحرب الأخيرة، التي استمرت طيلة 12 يومًا، وقد كانت دموية بمعنى الوصف، إذ تم تدمير 1350 وحدة سكنية بشكل كامل، و66 مدرسة ومؤسسة صحية، بالإضافة إلى 5 أبراج، وهي برج الشروق وهنادي والجلاء ومجمع الجوهرة والسوسي، عدا عن تدمير وتخريب الشوارع الإسفلتية وبُناها التحتية من شبكات الصرف الصحي والتمديدات الكهربائية وغيرها.
دمار أهلك العديد من القطاعات الخاصة، وقطع بأرزاق عائلات بأكملها، بعد استهداف مئات المحلات التجارية التي يعمل بها آلاف العمال كمصدر دخل لإعالة أسرهم.
وهؤلاء العمال في الأساس هم من الطبقات المثقفة والخريجين وأصحاب الشهادات العلمية، ولكن سوء الأوضاع الاقتصادية في غزة وانعدام خلق فرص عمل لهم، جعلاهم يعملون بأجور بسيطة في القطاعات الخاصة، وقد تكون مصدر الدخل الوحيد لكل عامل منهم، يصرف من خلالها على أسرته المكونة من 10 أفراد مثلًا.
وبالحديث عن الأبراج التي كانت تحوي عالمًا من الذكريات بداخلها، وخاصة برج الشروق، الذي يضم العديد من المشاريع الخاصة التي يملكها مجموعة من الأفراد وليس فردًا واحدًا بعينه، منها مقهى رنوش وهو أقدمها بغزة، ومحل لصيانة أجهزة الهاتف، ومحل لملابس رياضية شبابية، ومعرض تصليح أجهزة لابتوب، وكذلك معرض الأشقر للماكياج وهو أكبرها بغزة، ومتجر للملابس النسائية حسب الموضة التركية، وكذلك دكانة فادي لإعداد وجبات الفطور السريعة.
فكل ما ذكر أعلاه يقع فقط في الطابق الأول من برج الشروق، فلك أن تتخيل حجم المؤسسات والمحلات الأخرى التي تتكون منها بقية الـ 14 طابقًا من البرج المدمر.
فبعد انتهاء الحرب، توجه فادي الشريف لمحله الصغير في برج الشروق المدمر كليًّا، ولم يعرف حتى الآن أين هو وأين تفاصيله من بين كمية الأحجار والتراب والحديد التي تكومت فوق بعضها كقطع صغيرة، بعد انهيار مبنى كبير مكون من 14 طابقًا.
يقول فادي إنه منذ أن تخرج من الجامعة قبل 4 أعوام بتخصص خدمات اجتماعية، يئس من الواقع المفروض على قطاع غزة المحاصر من انعدام فرصة عمل، خاصة أنه دخل على مرحلة الزواج والارتباط بشريكة الحياة، فلم يكن هناك مجال للانتظار، فكان قرار الهجرة من البلاد والهروب من هذا الواقع هو الطريق الوحيد له.
لكن شاءت الأقدار أن يرزق فادي بعمل خاص به، بعدما امتلك محلًّا صغيرًا في الطابق الأول من برج الشروق، جعله مخصص لإعداد وجبات الإفطار لكافة زوار البرج، من صحفيين ومهندسين ومحامين وتجار، وكذلك وجبات خاصة لزبائن المقهى المجاور له في الطابق الأول من البرج أيضًا.
وزوّدَ فادي المحل بكافة الاحتياجات من إعادة فرشه بالبلاط حديثًا، ووضع ثلاجات مستوردة وطاولات جديدة، وشاشتَي عرض كتلفاز وغيرها، فالمعاناة هنا أن احتياجات المحل استنزفت منه كافة طاقاته وما استطاع ادخاره طيلة حياته، فلم يعد بمقدوره العودة للعمل بأدوات جديدة.
حالات اليأس والإحباط يستطيع المرء قراءتها في وجوه ونظرات هؤلاء العمال، الذين لا حول لهم ولا قوة مما حصل، هم ليسوا رجال أعمال ولا أصحاب رؤوس أموال، بل عاملين بنظام اليومية.
وعند الحديث عن التعويض وإعادة الإعمار، وفق ما هو متداول على الإعلام، فهذا يكون مقتصرًا على إعادة البرج كما كان عليه من بناء فقط، دون التطرق للأثاث والمستلزمات التي كانت تحويها كل شقة أو بقالة أو محل في البرج، والتي قد تكون أغلى من الشقة نفسها.
كما أن برج الباشا والمجمع الإيطالي المدمرَين في حرب 2014، ورغم مزاعم إعادة إعمارهما وفق ما طرح في جامعة الدول العربية قبل 7 سنوات، إلا أنهما حتى اليوم ما زالا ركامًا، ولم يتم إعادة بناء أي شيء دمر في حرب 2014 إلا برج ومجمع الظافر التي تكفلت به دولة قطر بنفسها.
وقد أوفت دولة قطر بوعودها بمعزل عن باقي الدول الأخرى، حين قامت ببناء أحياء لإيواء المشردين من الحروب السابقة، بينما ينتظر أصحاب الأبراج الأخرى تنفيذ وعود باقي الدول العربية خلال مؤتمر إعادة إعمار غزة، الذي عقد في جامعة الدول العربية عام 2014، فكم سينتظر أصحاب المنشآت المدمرة في حرب 2021؟
لا يثق محمد محمود الذي يعمل في مقهى مدمر في الحرب الأخيرة بحكايات إعادة الإعمار، فهو قبل عام 2021 كان يعمل في مقهى آخر في المجمع الإيطالي في منطقة النصر شمال غرب غزة، والمدمر في حرب 2014، وحتى الآن يعقدون مؤتمرات لإعادة بنائه.
إن حالات اليأس والإحباط يستطيع المرء قراءتها في وجوه ونظرات هؤلاء العمال، الذين لا حول لهم ولا قوة مما حصل، هم ليسوا رجال أعمال ولا أصحاب رؤوس أموال، بل عاملين بنظام اليومية وحسب عدد الساعات التي يعملونها في اليوم.
إن الضرر لا يقع على أصحاب الأعمال التي تم استهداف مقرات عملهم بشكل مباشر فحسب، بل إن قوة الدفع المباشر من صواريخ الدمار الشامل الإسرائيلية، قد تدمر بنايات أخرى غير مستهدفة في المنطقة.
فمثلًا محلات الشرفا من أكبر محلات الملابس الداخلية وملابس النوم والراحة، لكافة الفئات العمرية من الجنسين في قطاع غزة المحاصر، فهو يقع في أكثر المناطق الحيوية في القطاع، في شارع عمر المختار وسط مدينة غزة، يقابله تمامًا برج الشروق المدمر، وقد أدى تدمير البرج لاندفاع الحجارة والغبار والزجاج وقطع الحديد نحو محلاته، ما حطمها وأتلف كافة البضائع لديه.
فعند الحديث عن أن الحرب بدأت بغزة في آخر يومين من شهر رمضان، فإن كمية البضائع ستكون هائلة لدى “محلات الشرفا” استعدادًا لعيد الفطر، وخاصة أن هذا المحل لا يوجد أحد في غزة إلا وقد زاره أو سمع به، فهو يتميز بالملابس ذات الماركات التركية الأصلية، ولا يتاجر بالبضائع التجارية والمقلدة، وما يشكل إقبالًا كبيرًا إليه وبشكل خاص في مواسم الأعياد.
خسائر بمبالغ كبيرة وقطع أزراق العمال
يقول وائل الشرفا لـ”نون بوست”: “إن الخسائر التي لحقت بالمحل جراء الخراب الناتج عن اندفاع الغبار والحجارة والزجاج فاقت الـ 300 ألف دولار، فلو لم نكن مستعدين للعيد بإنزال الكثير من البضائع، لما تجاوزت خسارتنا ربع هذا المبلغ، ولكن هذا نصيبنا ونحن نرضى بالقدر المكتوب لنا”.
ويكمل الشرفا: “إن تخريب المحل وإتلاف البضائع قطعت بأرزاق 16 أسرة، فيعمل في هذا المحل 16 عاملًا، وكل شخص منهم يعتبر المعيل الوحيد لذويه وعائلته، اليوم تراهم مصطفين جلوسًا على عتبات المحل، ينتظرون من يمر عليهم ويرزقهم بعمل آخر لحين إصلاح ما دمره الاحتلال الذي قد يحتاج إلى سنوات”.
مجموعة محلات “ألوان هوم” قد لاقت المصير نفسه أيضًا، فهي محاطة بالأبراج التي تم استهدافها، ونالت نصيبها بشكل مماثل لمحلات الشرفا وأكثر، وقد وقعت في ورطة الاستعداد لموسم العيد أيضًا، فلو كان أحد يعرف بأن هناك حربًا على الأبواب، لما استعد للعمل والمخاطرة بأمواله بهذه الطريقة.
تقدر الخسائر بشكل كلي بـ 350 مليون دولار، وعند الحديث عن المنح المقدمة لإعادة إعمار غزة، كقطر مثلًا، فإنها تبرعت بمبلغ 500 مليون دولار، وهذا المبلغ الكبير بإمكانه أن يعوض غزة عن خسائرها.
وألوان هوم هي من أشهر وأكبر محلات ملابس الأطفال والأمهات ومستلزمات العروس وغيرها، وتتكون من طابقين ويعمل بها نحو 20 عاملًا.
ويقول عبد الله بكير، أحد العمال هناك، لـ”نون بوست”: “370 ألف دولار حصيلة خسائر ما فقدناه من مستلزمات وبضائع للعيد، بالإضافة إلى قطع بأرزاق 20 أسرة بعدما فقد 20 عاملًا مصدر رزقهم”.
ويضيف: “حتى لو عاد المحل لطبيعته بعد عامين على الأقل، فإن الخسائر الباهظة التي لحقت بالمحل لا تمكنه من استرجاع نصف هؤلاء العمال لممارسة عملهم، لأنه سيكون هناك عجزًا في المصاريف التي ذهبت لإصلاح ما دمره الاحتلال”.
وقال هاشم الجاروشة الذي كان يمتلك صالون حلاقة في شارع المخابرات، غرب مدينة غزة، قبل أن تدمره طائرات الاحتلال الإسرائيلي بصاروخ مباشر: “كنت شريكًا بالصالون مع 4 أفراد، بحيث كان يشكل لكل شريك منا مصدر الدخل الوحيد لأهله”.
ويكمل الجاروشة: “فبعد تدمير المحل لم يعد لدينا أي مصدر دخل بعد الآن، نحن نحاول أن نضع كرسيًّا ومرآة بين الركام لنتعامل فقط مع الزبائن الذين يعرفوننا ويثقون بعملنا، وهم بعدد أصابع اليد حاليًّا وليس كالسابق، إلا أنني لم أستسلم لأن برقبتي مسؤولية قوت يوم أمي ووالدتي وأطفالي”.
وقال الخبير في الشأن الاقتصادي الفلسطيني، السيد محمد أبو جياب، لـ”نون بوست”: “إن حصيلة الأضرار على قطاع غزة هي 1335 وحدة سكنية تعرضت للهدم الكلي، وتدمير 5 أبراج بشكل كلي، وتدمير 5 مساجد بشكل كلي، بالإضافة إلى أكثر من 70 مقرًّا حكوميًّا و7 مؤسسات صحية”.
وأضاف أبو جياب: “تقدر الخسائر بشكل كلي بـ 350 مليون دولار، وعند الحديث عن المنح المقدمة لإعادة إعمار غزة، كقطر مثلًا، فإنها تبرعت بمبلغ 500 مليون دولار، وهذا المبلغ الكبير بإمكانه أن يعوض غزة عن خسائرها من هذه الحرب وحروب سابقة”.
ويكمل: “عدوان 2014 يتبقى له 200 مليون دولار بعدما كان 3 مليارات، حيث قامت قطر وماليزيا بإعادة إعمار وتعويض أكثر من 60% من خسائر تلك الحرب، وقد يتم تعويض ما تبقى من خسائر حرب 2014 من خلال الفائض من التبرعات القطرية الأخيرة بعد عدوان 2021، ولكن الأمر يحتاج إلى سنوات عديدة بسبب الاستفزازات الإسرائيلية لغزة بمنع إدخال مواد الإعمار والمماطلة فيها، فالأمر ليس هينًا كما يبدو”.