“هذه الحرب كغيرها أكلت من صحتنا كثيرًا، فكان الخوف يحيط بكل شيء من حولي، على عائلتي وجنيني، شدة الاهتزازت بعد كل صاروخ تسقطه الطائرات الحربية الإسرائيلية كانت فوق طاقة تحملي، حتى زادت الهواجس أكثر، ودب الرعب في قلبي، بعدما امتلأت المنطقة الحدودية شمال القطاع حيث أقطن بقنابل الغاز السام، الذي يشبه رائحة حرق الورق وأماكن النفايات، ويتسبب بالاختناق الشديد والصداع والتقيؤ طوال أيام الحرب، حتى أنني لم أتمكن من زيارة أقرب طبيب للاطمئنان على جنيني، ولم نستطع التخلص من تلك الروائح، فقط كل ما أتمناه أن يكون طفلي بخير”.
بهذ المشاعر استهلت المواطنة الفلسطينية منار أبو جبة حديثها لـ “نون بوست”، واصفة ما عاشته من أيام عصيبة في العدوان الأخير على قطاع غزة المحاصر.
تقول العشرينية منار في حديثها لـ”نون بوست” :”لم يكن نصيبي هذه المرة أن أكون حاملاً فحسب، بل عاد إلى ذهني مجددًا ما عشته من تفاصيل مشابهة في عدوان صيف 2014، العدوان الذي أطلقت فيه “إسرائيل” علينا قنابل الفسفور الأبيض، وكذلك العدوان المنصرف قبل أيام، حين تعمّد الاحتلال إغراق الجو بالقنابل السامة، وحرق مصانع المواد الكيميائية، حتى يصل الأذى لأطفالنا الذين هم في أرحامنا”.
لا يختلف حال منار كثيرًا عن الثلاثينية مريم عبد الله، التي ترى أن تلك الغازات أخطر من كل الأسلحة التدميرية التي تستخدمها “إسرائيل” ضد غزة.
تقول مريم: “قبل أن تقصف الطائرات هدفًا لها، تسود رائحة غريبة ومؤذية جدًّا، كرائحة غاز مع مواد محترقة، تذكرني بقنابل الفسفور الأبيض، هذه الرائحة لا خلاص منها، حاولت بكل الطرق مثل تشغيل المراوح ورشّ الماء، لكن دون فائدة، وبعد أن بقيَت لوقت طويل، بدأت ألاحظ أن حركة طفلي خفّت كثيرًا، لا أدري بسبب تلك الغازات أم قلقي من كل شيء”.
حتى الآن لا تزال نوبات من الخوف والقلق تراود الفلسطينية مريم، وشعور بالضيق والاختناق، حتى أن الأمر وصل إلى أطفالها وشكواهم المستمرة من ثقل الرائحة وعدم تحملهم لها.
هل هذه المحاصيل التي سنأكلها فيما بعد، وستدخل كل بيت فلسطيني بغزة، آمنة وغير سامة؟ وهل سيزول خطرها عند غسلها بمياه أصلًا غير صالحة للشرب منذ سنوات طويلة في القطاع؟
في السياق نفسه، تشير المواطنة إلى أن قصف الاحتلال مستودعات للمواد الكيميائية زاد من مخاوف السكان، خاصة أن المستودعات المستهدفة خلال العدوان كان يحيط بها مساحات شاسعة من المحاصيل الزراعية بمختلف أنواعها وثمارها، والتي يتم حصدها وبيعها من قبل التجار.
وتساءلت مريم في ختام حديثها مع “نون بوست” قائلة: “هل هذه المحاصيل التي سنأكلها فيما بعد، وستدخل كل بيت فلسطيني بغزة، آمنة وغير سامة؟ وهل سيزول خطرها عند غسلها بمياه أصلًا غير صالحة للشرب منذ سنوات طويلة في القطاع؟ وكيف نحمي أرحامنا من كل هذه المخاطر؟”.
تسرُّب كميات كبيرة
عانى الفلسطينيون في القطاع خلال العدوان الأخير من روائح نفاذة، تنبعث بقوة وتنتشر في الأجواء وداخل المنازل على مسافات من المناطق المستهدفة بالقصف الجوي الإسرائيلي، حيث قالت وزارة الصحة الفلسطينية في غزة عبر بيانات صحافية، نشرت على موقعها الإلكتروني: “إن مجموعة من الفلسطينيين استشهدوا عقب تعرضهم لاستنشاق غازات سامة خلال الغارات الإسرائيلية الأخيرة على قطاع غزة”.
بينما أفادت وزارة الزراعة في غزة أن إطلاق القوات الإسرائيلية للقذائف المدفعية والفسفورية خلال الحرب الأخيرة، أسفر عن نشوب حرائق كبيرة في مستودعات للمبيدات الحشرية شمال القطاع، ما أدى إلى اشتعال النيران بشكل كامل فيها ولعدة أيام، الأمر الذي تسبب في تسرب كميات كبيرة من الغازات والمواد الكيميائية السامة.
وأكدت الوزارة في بيانها عبر موقعها الإلكتروني، أن التسرب الخطير لهذه المواد السامة والخطيرة، تسبب بتلوث البيئة والإضرار بالصحة العامة، وتلوث عناصر البيئة المستدامة مثل التربة ومياه الخزان الجوفي.
كيف تؤثر الغازات على الأجنّة؟
كثرت تساؤلات المواطنين حول آثار القذائف التي يلقيها الاحتلال على سلامة الأجنة، وفي هذا السياق أوضحت الدكتورة خلود المزيني، أخصائية النساء والولادة، أن استنشاق الغازات السامة والاهتزازات الأرضية خلال فترة الحرب، بالإضافة إلى خوف الأم وقلقها، طوال فترة الحمل، تسبب في حدوث تشوهات تصيب الجنين، ينعكس سلبًا على صحة الأم الحامل وسلامة الأجنة.
وأضافت في حوار خاص مع “نون بوست”: “كل تلك الظروف التي مرت بها الأم الفلسطينية خلال العدوان، يجعل النساء الحوامل عرضة للإجهاض والولادة المبكرة، إلى جانب الإصابة بضغط الحمل، المعروف بتسمم الحمل”.
تتعمد قوات الاحتلال الإسرائيلية بشكل واضح وممنهج ومنظم استمرار استهداف المدنيين وممتلكاتهم المدنية، خلال عدوانها على القطاع.
أما بخصوص الجنين، تقول الدكتورة المزيني: “خلال فترة الحروب الماضية في قطاع غزة المحاصر، لوحظت زيادة نسبة التشوهات الخلقية بعد الحروب بنسبة كبيرة، بالإضافة إلى تشوهات خلقية نادرة على مستوى العالم، مشيرةً إلى أن التشوهات الخلقية لا تظهر مباشرة بعد الحرب، واحتمالية وجودها واردة جدًّا بعد فترات طويلة على مدى 6 شهور حتى 3 سنوات”.
واستطردت بالقول: “من ضمن التشوهات الغريبة التي ظهرت، نقص في الأطراف أو عدم اكتمال نموها (استسقاء)، مع وجود حالات كثيرة لوفاة الأجنة داخل الرحم، أو وفاة الطفل بعد الولادة مباشرة دون أي أسباب”.
ولفتت الدكتورة المزيني إلى أن دراسات علمية أثبتت بعد الحرب الأولى في عام 2008، وجود رابط بين التعرض لمعادن الأسلحة وارتفاع نسبة العيوب الخلقية لدى الأجنة في قطاع غزة المحاصر.
بدوره، أكد رئيس مكتب الهيئة الدولية “حشد”، صلاح عبد العاطي، أن قوات الاحتلال الإسرائيلية تتعمد بشكل واضح وممنهج ومنظم استمرار استهداف المدنيين وممتلكاتهم المدنية، خلال عدوانها على القطاع، خاصة المنازل السكنية الواقعة وسط أحياء مكتظة بالسكان، بهدف قتل الأطفال والنساء وتشريد آلاف من العائلات، وإلحاق أضرار مادية جسيمة في المحيط السكني لهذه المنشآت.
جرائم حرب
أوضح المحامي والناشط الحقوقي، في اتصال مع “نون بوست”، أن الهجمات الإسرائيلية ترافقت مع تنامي الشكوك من استخدام قوات الاحتلال لقذائف دخانية وصواريخ حربية، يؤدي انفجارها إلى انتشار غازات كيميائية، فسكان المناطق المستهدفة بالصواريخ والمناطق الحدودية، يشمون روائح لغازات تملأ منازل المدنيين، وتسبب الشعور بحالة من حالات الاختناق، وتهيج في العيون.
وأضاف: “لقد رصدنا ووثقنا جرائم ترقى إلى جرائم حرب أثناء العدوان الأخير على غزة، حيث تم استخدام أسلحة محرمة دوليًّا من بينها قنابل فراغية وانشطارية وارتجاجية، وقنابل تحتوي على مواد كيماوية سامة بالإضافة إلى قنابل دخانية سامة”.
وتابع: “هذه الأسلحة يُمنع ويُحظر استخدامها في مناطق مأهولة بالسكان، هذا الأمر أدى سابقًا في العدوانَين السابقَين في عامي 2008 و2014، إلى التأثير على البيئة والأجنة، ونخشى أن يؤثر على المدنيين بشكل عام والبيئة والمزروعات والمياه”.
ولفت عبد العاطي إلى أن استخدام “إسرائيل” قذائف مدفعية وصواريخ جوية، تحتوي على مواد كيميائية محظورة الاستعمال، يضرب بعرض الحائط معاهدة حظر انتشار واختزان واستخدام الأسلحة الكيميائية (CWC)، إذ تؤكد “إسرائيل” على أن عقيدة الأرض المحروقة، عقيدة راسخة لديها، تهدف لتحويل حياة السكان المدنيين إلى مستوى الكارثة.
تعددت أنواع تشوهات الأجنة التي وجدت في غزة، وفق التقارير الطبية، بتشوهات الرأس والأطراف والجهاز الهضمي والأعصاب.
وطالب رئيس مكتب الهيئة الدولية “حشد” في غزة، بضرورة فتح تحقيق جاد من منظمة حظر الأسلحة الكيماوية، ومن لجنة تقصي الحقائق الدولية، ومجلس حقوق الإنسان، والعمل على مساءلة دولة الاحتلال، كما ناشد بتقديم الدعم للفلسطينين لمعرفة سبل التعامل مع هذه المواد، وتحييد آثارها عن البيئة والمدنيين داخل قطاع غزة المحاصر.
تاريخ من الانتهاكات
هذه ليست المرة الأولى التي يستخدم فيها جيش الاحتلال الإسرائيلي أسلحة محرمة دوليًّا بهذا الشكل، فقد سبق أن جربت “إسرائيل” هذا النوع من الأسلحة في حروب غزة الثلاث أعوام 2008، 2012 و2014. وقد أكد تقرير القاضي غولدستون التابع للأمم المتحدة في حرب 2008، استخدام الاحتلال للفوسفور الأبيض على نطاق واسع في الهجوم على الفلسطينيين.
وقالت وزارة الصحة، في تقارير أعقبت العدوان الإسرائيلي على غزة عام 2014، إن حالات تشوه الأجنة في القطاع تخطت مستويات قياسية، حيث وصلت نسبة التشوه للمواليد 100 مولود لكل 1000 حالة ولادة، وهي أعلى بكثير من النسبة الطبيعية التي حددتها منظمة الصحة العالمية البالغة 40 حالة تشوه لكل 1000 مولود.
وتعددت أنواع تشوهات الأجنة التي وُجدت في غزة، وفق التقارير الطبية، بتشوهات الرأس والأطراف والجهاز الهضمي والأعصاب، رغم تصنيفها بأنها نادرة جدًّا على مستوى العالم، مثل بعض أنواع تشوه الدماغ (الاستسقاء) (Nonimmune hydrops fetalis)، لكنها موجودة في غزة وبنسب مقلقة ومثيرة للاستغراب.
وأخطر نوع من أنواع استسقاء الدماغ، يطلق عليه Hydrocephalus، وتشوه الأطراف المعروف بـ”حدوة الحصان”، أو نقص الأطراف الشائع أيضًا في قطاع غزة المحاصر، إضافة إلى تشوه “فتاق العصعص”، وهو من الأنواع الخطيرة التي قد تؤدي إلى وفاة الجنين لاحقًا. كما انتشرت أنواع أخرى من التشوهات، مثل تشوهات القلب والعمود الفقري والدماغ، وهي تمثل نحو خُمس التشوهات (20%)، وأنواع نادرة أخرى.