شهدنا منذ ما يزيد عن 10 أعوام ما بات يسمى اليوم الموجة الأولى من الحركة الثورية في الدول العربية، في كل من تونس ومصر وليبيا واليمن، ووصولًا إلى سوريا التي استطاع نظام الأسد فيها كسر الحلقة، في سلسلة كانت مرشحة لأن تطول أكثر.
فقد نجح النظام السوري بكسر الحلقة، بحكم دعم النظام العالمي المباشر وغير المباشر، لا سيما الدعم الروسي والإيراني المباشر، وكذلك من خلال جر الشعب المنتفض وتحريضه وإيقاعه في منزلقات كارثية، عن طريق الإعلام والمال السياسي، اللذين ساهما في خلق تيارات بدأت ضمن الثورة وتحولت إلى كيانات معادية لها، إضافة إلى دور النظام المتنامي تدريجيًّا في جرّ الثورة السورية إلى حرب أهلية مدمرة للبلاد، ما يجعله المسؤول الأول عنها.
ثم كنا في العام 2019 مع الموجة الثانية في كل من الجزائر والسودان والعراق ولبنان، التي أحيت آمال الشعوب مرة أخرى بعد انتكاسات الموجة الأولى، إلا أنها جعلت الدول الاستعمارية، إضافة إلى الأنظمة العربية التابعة، تدرك جيدًا أنها ليست بمأمن من الشعوب، ولربما كان هذا أحد أهم أسباب الإسراع بالإجراءات التطبيعية مع الاحتلال الصهيوني، من قبل التيار الذي قادته دولة الإمارات بالعلن والمملكة السعودية بالخفاء شبه المعلن.
لكن قبل أن تهدأ الحركات الشعبية بشكل نهائي، نبضَ القلب الذي كان يختلج بضربات تنتظم تدريجيًّا، معلنًا إعادة الحياة لكامل الجسد.
إن ما نشهده اليوم ليس إلا مرحلة جديدة من النضال الفلسطيني والصراع بين المستعمِر والمستعمَر، أي ما نشهده اليوم هو شكل للمرحلة التي تتجلى هذه المرة بأوضح صورها، لتشمل كامل الشعب الفلسطيني على كامل الجغرافيا الفلسطينية.
حتى إننا نلاحظ أن الوضع مهيأ للتوسع خارج الجغرافيا الفلسطينية أيضًا، استنادًا إلى الشعوب وليس الأنظمة، كل الأنظمة بمختلف تصنيفاتها الشكلية الخارجية وجوهرها الواحد، كأنظمة استبدادية ديكتاتورية تابعة عميلة للاستعمار، سواء كانت من الأنظمة المطبّعة أو التي لم تطبّع بعد.
هذه الأنظمة التي يبدو أنها تتمنى حاليًّا أن يتم نسيانها من السياق التاريخي، فحتى الآن لم نسمع أصواتًا تتعالى حتى ممن يسمون أنفسهم بأنظمة المقاومة والممانعة، كالنظام السوري وحليفه الطائفي الملقب بـ”سيد المقاومة”.
ويبدو أن الشعب الفلسطيني أيضًا يحذر، وربما يرفض هذه المرة أن يتسلق هذا المحور الانتهازي “محور الممانعة أو المقاومة”، إنجازاته وتضحياته، معبّرًا عن امتداده الشعبي إقليميًّا، ومتناسيًا أي إشارة لهذا المحور الانتهازي، باستثناء بعض أصوات النشاز التي لم تؤثر على المشهد العام.
جعل هذا الصمت والترقب، من أنظمة المنطقة، موقفَ النظام المصري، من استقبال بعض جرحى قطاع غزة المحاصر، ومحاولات لعب دور الوساطة أحيانًا، والترويج لدوره المستقبلي بإعادة إعمار غزة؛ موقفًا ثوريًّا متقدمًا لدى البعض، لكنه واقعيًّا مجرد عزف نشاز من ضمن جوقة النظام الرسمي العربي.
فالنظام المصري يعلن عن استقبال جرحى القطاع، بالوقت نفسه الذي يمنع به التظاهرات الشعبية لدعم الفلسطينيين، ما دفع المصريين إلى تنظيم وقفة إلكترونية تحت شعار “قاوم قدر ما تستطيع”.
منعٌ كان مشابهًا لما حدث في الأردن، من قمع الشرطة الأردنية الوحشي للمتظاهرين، سواء الذين طالبوا بطرد سفير دولة الاحتلال، أو الذين حاولوا كسر الحدود وعبورها نحو ضفتهم الثانية.
أما في سوريا فقد خرجت مظاهرات عفوية رغم صمت النظام عما يجري بفلسطين المحتلة، ودون اعتبار لترهيبه الأمني، لم يحضر بها سوى العلم الفلسطيني والشعارات الفلسطينية، أي غابت عنها صور “القائد” وعلم النظام السوري.
كما لم تغب التظاهرات ومحاولات اجتياز الحدود عن اللبنانيين، الذين قدموا شهيدَين فداء لفلسطين، وإن قائمة التظاهرات من الشعوب تطول وتطول.
التداخل بين الثورة الفلسطينية وثورات الربيع العربي، يجعلها قادرة على استخلاص الدروس من تلك الثورات.
إن هذه الانتفاضة القائمة حاليًّا والممتدة على كامل التراب الفلسطيني، وإن خفت بريقها مؤقتًا بعد التوصل لوقف إطلاق النار بين حماس والاحتلال الصهيوني، هي إعلان بسيط عن الموجة الثالثة من موجات الربيع العربي، بل يبدو أنها مؤهلة كي تنمو وتكبر حتى تتحول إلى تسونامي الربيع العربي الأول.
لقد استحضرت الثورة السورية الشعار التونسي الرئيسي “الشعب يريد إسقاط النظام”، وكذلك استحضرت العديد من شعارات وهتافات الانتفاضات الفلسطينية السابقة بل أغانيها، فلم يكن غريبًا أن تكون أغنية “يا حيف” أولى أغاني الثورة السورية، والتي غناها أحد مغنّي الثورة الفلسطينية السوري سميح شقير.
والآن يأتي الدور على الثورة الفلسطينية، لتطيّب جراح السوريين وتحيي أغاني الساروت وأسماء الجمع السورية، مطلقين تسمية إضراب الكرامة على إضرابهم، ومستخدمين نفس أغنية إضراب الكرامة السوري التي غنتها المغنية الفلسطينية تريز سليمان، كما تم استحضار الهتاف اللبناني الشهير “هيلا هيلا هو” بمظاهرات مدينة حيفا.
إن التداخل بين الثورة الفلسطينية وثورات الربيع العربي، يجعلها قادرة على استخلاص الدروس من تلك الثورات، مستفيدة من نقاط القوة التي ساهمت بإغناء الثورات، متجنبة المطبات والهفوات ونقاط التدمير الذاتي التي أصابتها.
ولعله يمكن اختصار كل شيء بمقولة “الثورة كلها أخطاء ولكنها الصحيح الوحيد”. مقولة صحيحة بشكلها وجوهرها، فالثورة هي نتيجة تراكم الأسباب الموضوعية (الاستعمار، الاستبداد…)، وتراكم نتائجها المحلية (الجهل، الإقصاء، التخلف، العنف المجتمعي…)، هذه النتائج تلتصق بالثورة لحظة انطلاقها، وتعيق انتصارها، فهي عوامل تدمير ذاتي، لذا يتأخر انتصار الثورة حتى تمكُّنها من التغلب عليها والتخلص منها كليًّا.
إن ما يحدث في فلسطين المحتلة الآن، هو استمرار حملات التطهير العرقي الصهيوني منذ أكثر من 73 عامًا على كامل التراب الفلسطيني، وبالتالي على كل الفئات الفلسطينية حشد كل الطاقات الممكنة (اللاجئون الفلسطينيون، فلسطينيو 48، الضفة الغربية، غزة، القدس)، لأن هذا التقسيم ما هو إلا فعل الاحتلال، الذي حاول بشتى الوسائل تثبيتهم كفئات منفصلة عن بعضها، معتمدًا سياسات فصل عنصري متمايزة ضد كل فئة، كما لعبت اتفاقية أوسلو دورًا مهمًّا فيه، عن طريق استبعادها اللاجئين الفلسطينيين وفلسطينيي 48.
طبعًا لا يصحّ حصر معنى كل فلسطين المحتلة في الدلالات الجغرافية، بل يجب أن يعبّر عن ثورة كل الفلسطينيين، وهذا لن يتم إذا لم يشارك الشعب الفلسطيني بمختلف انتماءاته وعقائده، سواء كانوا من المتدينين (مسلمون، مسيحيون، يهود، دروز…)، أو اليساريين وحتى الملحدين. وهذا يستلزم الابتعاد عن الخطاب الإقصائي ومحاربته، ما يسمح بإيجاد فضاء حر لكل خطاب ثوري تحرري غير إقصائي.
رافق تصدر حماس واجهة المقاومة الفلسطينية، سيطرة خطاب إقصائي من قبل الكثيرين من أنصارها، وعليه فإن محاربة هذا الخطاب هي مسؤولية كل الفلسطينيين خاصة حركة حماس، من أجل تحويله إلى خطاب إسلامي ثوري تحرري غير إقصائي، خصوصًا في ظل ظروف المنطقة الراهنة التي تشهد تنامي القوى السلفية والجهادية الإقصائية، التي تعادي الثورات وآمال الشعوب التحررية، مثل تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”.
انتفاضة كل فلسطين هي خطوة مهمة على الصعيد الفلسطيني، ولو لم تستطع إتمام التحرير الكامل، وفقط اكتفت بتثبيت مفاهيم ومعادلات جديدة يمكن البناء عليها في المرحلة القادمة.
كما لا يمكن لهذه الانتفاضة أن تصبح انتفاضة كل فلسطين، دون أن تأخذ المرأة دورها القيادي والنضالي. وهذه المسؤولية تقع بشكل رئيسي على المرأة، التي يجب عليها انتزاع هذا الدور انتزاعًا، فارضة على المجتمع، ذكورًا وإناثًا، التراجع عن الدور الذكوري والمساهمة بتمكين المرأة وتبوّء موقعها الضروري من أجل التحرر. فالإقصائية الممارسة ضد المرأة في المجتمع، تعد أحد أكثر أشكال الإقصائية عنفًا، كونها موجهة إلى نصف المجتمع تمامًا.
إن انتفاضة كل فلسطين هي خطوة مهمة على الصعيد الفلسطيني، ولو لم تستطع إتمام التحرير الكامل، وفقط اكتفت بتثبيت مفاهيم ومعادلات جديدة يمكن البناء عليها في المرحلة القادمة، كدفن مشروع حل الدولتين من مبدأ “إكرام الميت دفنه”، والعودة لمشروع دولة فلسطين الديمقراطية العلمانية الواحدة، كحلٍّ يشمل كافة الفلسطينيين ويضمن المساواة والعدالة للجميع.
كما إنها مهمة لكل شعوب المنطقة، خاصة حين تستطيع إعادة المتظاهرين إلى الشارع ليس لدعم القضية الفلسطينية فحسب، وإنما لدعم أنفسهم عبر التحرر من أنظمتهم، حينها يستطيعون تقديم أفضل عون للثورة الفلسطينية.