ترجمة وتحرير: نون بوست
ليست الراديكالية أكثر من فهم جذور المشكلة. لقد انتقد المفكر الفلسطيني الأمريكي الراحل إدوارد سعيد مرارا وتكرارا خداع الذات وأوجه القصور والتحيزات الكامنة وراء توجهات السياسة الخارجية الأمريكية. وطوال تسعينات القرن الماضي، عندما بدت “نهاية التاريخ” في متناول اليد، ليبدأ سلام عالمي بزعامة الولايات المتحدة، حذّر سعيد من “مسرحية” عملية السلام الأمريكية في الشرق الأوسط. ومع اقتراب نهاية حياته، يئس من أي تغيير في الموقف المنحاز ضد الفلسطينيين الذين تخلت قيادتهم عن أيّة مكاسب وقع تحقيقها بالنضال الوطني، من أجل تقرير المصير باتفاقيات أوسلو، التي وصفها “بأداة الاستسلام الفلسطيني، فرساي الفلسطينية”.
“أمكنة العقل: حياة إدوارد سعيد”، تيموثي برينان، دار النشر “فارار شتراوس آند غيرو”، 464 صفحة، 35 دولار، آذار/ مارس سنة 2021.
أظهرت الأحداث الأخيرة في فلسطين و”إسرائيل” أن سعيد كان من القلائل الذين فهموا هذه القضية بشكل صحيح. وبدأت وسائل الإعلام الأمريكية في اللحاق بمواقفه، التي كانت تعتبر متطرفة في عصره، حيث يعود ذلك في الغالب إلى الإحساس العميق بالتاريخ الذي أظهرته كتاباته. وقاد هذا التغيير تحوّل ليبراليين أمريكيين مثل بيتر بينارت، الذي أكسبته مقالاته الأخيرة التي تدعم حقوق الفلسطينيين في مجلة “جويش كارنتس”، شهرة في مجلة نيويوركر.
في المقابل، نادرا ما تكون المؤسسة الرسمية الأمريكية مستعدة للنظر في فكرة أن النضال من أجل التحرر الفلسطيني انتهى بمحادثات توسطت فيها الولايات المتحدة في التسعينات بدلا من أن تبدأ بها. لقد ألحق هذا التأخير الذي دام 30 سنة ضررا كبيرا بالسياسة الخارجية للولايات المتحدة في المنطقة وبالسياسة الأمريكية الداخلية. ويُعتبر الصراع في فلسطين بمثابة “حرب صور وأفكار” بقدر ما هو مسألة سياسية، كما فهم سعيد بوضوح. وعلى مدى عقدين من الزمن، كان سعيد المتحدث الرسمي الأكثر نفوذا للفلسطينيين في الولايات المتحدة – وكان موقفه متفردا وشجاعا في وقت كان يعتبر فيه استخدام كلمة “فلسطين” بمثابة استفزاز سياسي.
يُعتبر الرضا العام الأمريكي أحد أهم عوامل التأثير الإسرائيلي على السياسة الأمريكية، وهنا حقّقت بلاغة سعيد أكبر انتصار لها، حتى أن لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية حذّرت مؤيديها من أن “تحديه لن يؤدي سوى إلى جعلك تبدو بمظهر سيء”. في الوقت الراهن، لم يعد بإمكان قادة “إسرائيل” أن يتمتعوا بدعم كامل من الرأي العام الأمريكي، أو كما قال سعيد، “الانتصار شبه الكامل للصهيونية” كأمر مفروغ منه. ولا ينبغي أن يكون هناك شك في أن هذا هو إلى حد كبير إرث إدوارد سعيد.
كان سعيد ناشطا سياسيا وباحثا وكاتب مذكرات وناقدا أدبيا وموسيقيا. تعامل كل طالب في العلوم الإنسانية في الولايات المتحدة خلال العقود القليلة الماضية مع إرثه، ومهّد كتابه “الاستشراق” الطريق لثورة في دراسة الأدب والتاريخ والسياسة. أظهر هذا الكتاب أن العلوم الإنسانية الأوروبية، سواء كانت كتابة رواية أو دراسة اللغات الأجنبية، لعبت دورا في تعزيز مظالم الإمبريالية العالمية.
في كتاب “أمكنة العقل: حياة إدوارد سعيد”، أول سيرة ذاتية للمفكر الكبير منذ وفاته سنة 2003، قال المؤلف تيموثي برينان إن سعيد وظف كتابة “الاستشراق” للتعامل مع الصورة الجائرة عن فلسطين في وسائل الإعلام الأمريكية. وانتهى الأمر بسعيد إلى التعمق أكثر في تاريخ الخطاب الأدبي والاستعماري الغربي ليفهم كيف يمكن للنقاد أن يدرجوا أحداثا مثل عمليات التطهير العرقي في فلسطين سنة 1948، أو قيام دولة “إسرائيل” العنصرية، تحت عنوان زائف هو “الصراع في الشرق الأوسط”.
أوضح برينان أن “عمل سعيد السياسي وجد أساسه في النقد الأدبي”. ويعدّ ذلك صحيحا تماما، فقد حلل سعيد وحرّر وساعد على ترجمة العديد من نصوص الحركة الفلسطينية في السبعينيات والثمانينيات، بما في ذلك أول خطاب للزعيم ياسر عرفات في الأمم المتحدة. علاوة على ذلك، توسّع سعيد في دراسة النظريات الأدبية الحديثة، وانتهى به الأمر كمفكر راسخ مناهض للاستعمار بدلا من كونه أكاديميا ينظّر لتفاهات ما بعد الاستعمار. (قال سعيد ذات مرة لزميله: “لا أعتقد أن كلمة “ما بعد” تنطبق هنا على الإطلاق)، وهو ما سمح لسعيد بمواصلة معركته ضد أكاذيب مؤسسة السياسة الخارجية الأمريكية، وعلى رأسها كذبة “عملية السلام” في الشرق الأوسط.
يجب أن نتذكر سعيد كمفكر خبير في الشؤون الخارجية للولايات المتحدة إلى جانب إنجازاته كأديب وممثّل للحركة الفلسطينية. وعلى الرغم من أن برينان يتناول هذا الأمر في كتاب، إلا أنه لا يصرح به بشكل قاطع. بثقة مذهلة في النفس، رفض سعيد اتفاقات أوسلو سنة 1993 وعملية السلام في الشرق الأوسط التي تلتها، التي كانت واحدة من أكبر مسرحيات الدبلوماسية الأمريكية في فترة ما قبل أحداث 11 أيلول/ سبتمبر. وتُعتبر المقالات والمقابلات التي أجراها خلال السنوات التالية قادرة على ملء خمسة مجلدات، حيث تمثل بعضا من أقوى كتاباته وأكثرها ديمومة واستبصارا.
وصف سعيد الاحتجاجات والإضرابات والمقاطعات في الانتفاضة الأولى في أواخر الثمانينات بأنها “بالتأكيد أكثر عمليات التمرد المناهضة للاستعمار إثارة للإعجاب وانضباطا في هذا القرن”. وبدلا من البناء عليها، شعر أن عرفات تخلى عن أيّة مكاسب حققتها الانتفاضة مقابل الوعود الواهية للحكومة الأمريكية بأن تكون وسيطا نزيها. بالإضافة إلى ذلك، كرر ذلك على مدى السنوات القليلة التالية، حيث كانت تلك المرة الوحيدة التي وافق فيها شعب محتل على التفاوض مع محتليه قبل حدوث الانسحاب أو الاتفاق عليه.
يعتقد سعيد أن الغرض من مفاوضات السلام يتمثل في توفير الأمن لإسرائيل، وليس إعطاء الفلسطينيين دولة ضمن ما يسمى بالخطوط الخضراء. في الواقع، تسبب هذا الموقف في شقاق كبير بين سعيد وعرفات، لكن آخرين داخل القيادة الفلسطينية، من بينهم السياسية والكاتبة حنان عشراوي، اتفقوا مع جانب كبير من مواقفه. وعلى مدار العقد الموالي، حافظ سعيد على وتيرة محمومة من الكتابات مع تصاعد الهزائم الفلسطينية.
تعود جذور المعضلة إلى أن الحكومة الأمريكية على حد تعبير سعيد، لم تعامل الفلسطينيين أبدًا على قدم المساواة مع الإسرائيليين. ولا يُعدّ ذلك لأسباب أخلاقية فحسب، وإنما لعدم كفاءة الدبلوماسية الأمريكية التي حالت دون إبرام أيّة اتفاق. ولا يشير إعلان المبادئ، الوثيقة المعروفة باتفاقيات أوسلو، إلى دولة فلسطينية أو تقرير المصير أو السيادة، ولكنه ينص على نوع من “الحكم الذاتي المحلي” (كما أطلق عليه سعيد) دون الالتزام بإنهاء الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية أو غزة (يقر فقط “بإعادة انتشار” القوات الإسرائيلية بشكل محدود). وجعل ذلك البعض يأمل في أن يتمكن عرفات من الاستفادة من ذلك الاتفاق في “مفاوضات الوضع النهائي” التي وعد بها الاتفاق.
بدلا من ذلك، اتبعت الولايات المتحدة ما يسمى بالنهج التدريجي الذي كان مدفوعًا إلى حد كبير بمطالب إسرائيلية بدفع الفلسطينيين على تقديم المزيد من التنازلات، ولكنها لم تتخذ أي إجراء لوقف التوسع في المستوطنات اليهودية، وهو ما جعل من تنفيذ حلّ الدولتين أمرا شبه مستحيل. في هذا السياق، يتساءل سعيد “هل يعني ذلك بشكل ينذر بالسوء أن المرحلة المؤقتة قد تكون في الواقع، المرحلة الأخيرة؟”. كان من الواضح أن الأمر سيصبح على هذا النحو، عندما أدرك سعيد موازين القوة التي تقف وراء العملية برمتها. وفي السنة التي أعقبت وفاته، نُشر كتاب كلايتون سويشر “الحقيقة حول كامب ديفيد: القصة غير المروية حول انهيار عملية السلام في الشرق الأوسط”.
في الواقع، ينبغي أن يُصنف هذا الكتاب ضمن الدراسات الكلاسيكية لإخفاقات الدبلوماسية الأمريكية التاريخية والدور الذي اضطلعت به في الدفاع عن “إسرائيل”. مع ذلك، لا يزال هناك من يرى أنه ينبغي على الفلسطينيين أن يكتفوا بأقل مما قبلته حركات التحرر الوطني الأخرى (“كما لو أنها دولة”، كما أسماها الكاتب الإسرائيلي ديفيد غروسمان، دون سيادة كاملة على مياهها أو أجوائها أو أراضيها). أظهرت خطة السلام التي طرحها الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، والتي رفضت الإدارة الحالية التنصل منها حتى اللحظة الراهنة، أن “إسرائيل” لا تريد أي حل يقوم على أساس دولتين. في المقابل، ترغب في خضوع الفلسطينيين أكثر فأكثر.
في هذ الصدد، قال برينان إن سعيد احتفظ “بغضبه ضد مثقفي الشرق الأوسط”. فضلا عن ذلك، أعادت “الجدية السخيفة” التي استقبلت بها المؤسسة الأمريكية اتفاقيات أبراهام التي توصل إليها ترامب، إلى الأذهان ما كتبه سعيد عن الرئيس السابق بيل كلينتون في مقاله “الصباح التالي”، عندما وصف الرئيس الأمريكي وكأنه “إمبراطور روماني في القرن العشرين” يفرض السلام على “الملوك التابعين لسلطته” خلال مصافحة عرفات ورئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك إسحاق رابين. بالطبع كان ذلك مجرد عرض مسرحي ولا يقدّم شيئا سوى المزيد من الاستسلام العربي، مثل اتفاقيات أبراهام التي مهدت لتطبيع العلاقات بين “إسرائيل” والعديد من الدول العربية التي كانت تربطها في الغالب علاقات مع تل أبيب منذ فترة طويلة.
يتحدث الدبلوماسيون الأمريكيون وكأن حل الدولتين ممكن، وأن تنفيذه يتوقف على مجرد استئناف المحادثات. في الواقع، تم استخدام كذبة حل الدولتين لتبرير اتفاقات أبراهام التي لم تتطرق البتة إلى الحقوق الفلسطينية. منذ تسعينيات القرن الماضي، توقّع سعيد كيف ستمنع عملية السلام الأمريكية أيّ تقدم في القضية سوى تكريس واقع الدولة الواحدة.
وفقا لبرينان، تفوق سعيد باستمرار على منظري المؤسسات الفكرية في واشنطن. ولا يعني ذلك أن سعيد كان قادرا على تكهّن ما سيؤول إليه الوضع في فلسطين أو المنطقة. في الواقع، عرف برينان خبايا السياسة العربية منذ أن كان يبعث بمراسلات أثناء فترة إقامته في بيروت في السبعينيات. في المقابل، زوّده نهج سعيد غير المعتاد في فهم قضايا الشرق الأوسط، باستقلالية فكرية في زمن تشبث فيه الآخرون بالمسلمات. كان سعيد، أستاذ الأدب الإنجليزي الأمريكي في جامعة كولومبيا، على هامش حركة عرفات، تماما مثلما كان على هامش المؤسسات الأمريكية بسبب جذوره العربية والفلسطينية.
من وجهة نظر الحركة القومية، كانت مواقف سعيد من القضية الفلسطينية نوعا من الهرطقة بسبب تشكيكه في المسلّمات. وفي كتابه “القضية الفلسطينية” الذي أعقب كتاب الاستشراق، تنبأ سعيد بالتنازلات التي كان ينبغي على المقاومة الفلسطينية تقديمها. في الأساس، كان ذلك يعني إيجاد طريقة لتقاسم أرض فلسطين. عموما، دفع هذا الإيمان الثابت بالمساواة في الحقوق بسعيد نحو تبني حل الدولتين الذي من شأنه أن يترك معظم أراضي فلسطين التاريخية في قبضة الدولة اليهودية، وهو الموقف الذي أيّدته فيما بعد مجموعة عرفات.
في آخر حياته، كان إيمانه بضرورة تمتع الفلسطينيين بحقوقهم بشكل متساو مع الإسرائيليين، هو الذي أقنع سعيد بحل الدولة الواحدة، أيًا كان الشكل الدستوري، الفدرالي أو ثنائي القومية أو أي شكل دستوري آخر. في الآونة الأخيرة، اكتسب هذا النهج القائم على الحقوق المتساوية مزيدًا من الزخم بعد تقارير من منظمة بتسيلم الإسرائيلية وهيومن رايتس ووتش خلصت إلى أن “إسرائيل” تمارس الفصل العنصري ضد الفلسطينيين.
وفقا لبرينان، كان سعيد عضوًا في مجلس العلاقات الخارجية رغم اعتقاده أن قدرته على التأثير على سياسة الولايات المتحدة الخارجية أمرا “شبه مستحيل”. وتغاضت المؤسسة الرسمية الأمريكية عن تلاعب ترامب بمبادئ السياسة الخارجية والقيم الأمريكية الراسخة، كما شعرت هذه المؤسسة بنوع من الراحة عندما وجّه ترامب ضربة لسوريا.
كان ترامب الشخص الذي أزاح الستار عن العلاقة المزدوجة التي تربط الولايات المتحدة بالشرق الأوسط. من جانبه، أقرّ مجلس الشيوخ الأمريكي بالإجماع قرارًا صادق على نقل ترامب للسفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس احتفالا “بالذكرى الخمسين لتوحيد [إسرائيل]” للمدينة المقدسة. كان ذلك يشير إلى احتلال “إسرائيل” للقدس الشرقية في حرب 1967 التي تجاهلت بشكل قاطع ما يعتبره القانون الدولي بالأراضي المحتلة.
دعا قرار ترامب إلى استئناف المفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية “دون شروط مسبقة” وأعاد التأكيد على السياسة الأمريكية التي ترى أن “الوضع الدائم للقدس يظل مسألة يتعين البت فيها بين الطرفين من خلال مفاوضات الوضع النهائي وحل الدولتين”. في الحقيقة، لا شيء من كل هذه الادعاءات يظلّ منطقيّا، فما الذي تبقى في فلسطين للتفاوض عليه؟
كان القرار يعكس ممارسات أمريكية قديمة. فضلا عن ذلك، كان سعيد يعتقد أن “إسكات واغتيال” عملية السلام “هما محورا المشروع الإسرائيلي (والأمريكي). من بين العديد من الأمثلة، أشار سعيد إلى تحيز واشنطن لدولة “إسرائيل” خلال التسعينيات. وشمل ذلك وارن كريستوفر، وزير الخارجية الأمريكي السابق الذي وقّع على اتفاقيات أوسلو، الذي رفض خلال جلسات الاستماع وصف السيطرة العسكرية الإسرائيلية على الأراضي الفلسطينية على أنها “احتلال”.
عندما طُلب من السكرتير الصحفي لوزارة الخارجية الإدلاء “ببيان واضح حول سياسة المستوطنات”، قدّم إجابة غير متسقة يؤجّل فيها الحديث عن القضية إلى محادثات “الوضع النهائي”. وخلص سعيد إلى القول إن “هناك علاقة سببية بين هذا النوع من الكلام وبين مصادرة “إسرائيل” للأراضي”.
أدى سوء استخدام المصطلحات باللغة الإنجليزية في سياق الحديث عن عملية السلام إلى إلحاق أضرار جسيمة بالسياسة الأمريكية. وبعد أحداث الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر، بدأ ذلك يتجلى في عدة جوانب. في هذا الإطار، وصف سعيد قانون باتريوت آكت الذي وقع تمريره في تشرين الأول/ أكتوبر سنة 2001 بأنه بمثابة “إضفاء للطابع الإسرائيلي على السياسة الأمريكية”.
آنذاك، حذّر سعيد من “خطورة الإرهاب الذي يعزز النرجسية الزائفة غير المقيدة”. ويمكن أن ينطبق هذا الوصف على الحزب الجمهوري حاليا. في المقابل، يجدر بنا أن نتذكر أن سعيد كان يتحدث عن الرئيس الديمقراطي بيل كلينتون. وهناك رابط بين الأكاذيب حول “عملية السلام” وأكاذيب “الحرب على الإرهاب”، وغزو العراق “من أجل نشر الديمقراطية” (بتأييد من الليبراليين الأمريكيين مثل بينارت)، واحتضان ترامب لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وما يبدو الآن أنه مؤسسة سياسية أمريكية فقدت مصداقيتها.
يرى العديد من الليبراليين الأمريكيين أن الحكومة الإسرائيلية “اليمينية” هي المشكلة. في الواقع، لا تتلخص المشكلة في نتنياهو، وإنما في الأفكار التي يمثلها. وتجدر الإشارة إلى أنه وقع تخصيص جزء كبير من كتاب “القضية الفلسطينية” لشرح بدايات الصهيونية تزامنا مع موجات الاستعمار الأوروبي في القرن التاسع عشر، وكيفية حدوث “التحول الديموغرافي والسياسي” في فلسطين لأول مرة من خلال كتابات المفكرين الصهاينة الأوائل مثل ثيودور هرتزل.
لم تكن فكرة “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض” مرتبطة بشكل عرضي بالأفكار الفيكتورية التي تستند إلى دراسات الكتاب المقدس والنظرة الدونية للسكان العرب أصحاب الأرض. في العصر الحديث، كان رؤساء الوزراء الإسرائيليين منذ عهد مناحيم بيغن يشيرون إلى الضفة الغربية باسم يهودا والسامرة، مما مهد الطريق لتحقيق خطة الضم، التي أصر السفير الإسرائيلي السابق لدى الأمم المتحدة، داني دانون، على أنها لم تكن “ضمًا” على الاطلاق نظرا لأن “إسرائيل تزعم أن فلسطين أرضها منذ أكثر من ثلاثة آلاف سنة”.
خلال الشهر الماضي، شاهد العالم أن وسائل الإعلام الأمريكية تسمح بشكل متزايد للفلسطينيين بأن يتحدثوا عن الصراع من وجهة نظرهم. كانت هذه مشكلة طرحها سعيد في مقاله “الإذن بالرواية”. عملت “إسرائيل” وأنصارها طويلا على حرمان الفلسطينيين من حقهم في سرد تجربتهم. ويعني غياب الرواية الفلسطينية، عدم الاعتراف بالشعب الفلسطيني أو بالتاريخ الفلسطيني أو بحق الفلسطينيين في تقرير المصير داخل وطنهم.
في هذا السياق، قال سعيد: “لا تتحدث الحقائق عن نفسها على الإطلاق، لكنها تتطلب سردا مقبولا اجتماعيا لاستيعابها والحفاظ عليها وتعميمها”. كما تمت ملاحظته في أماكن أخرى، حيث أدى اعتراف الولايات المتحدة بإرثها العنصري إلى تسريع التحول الثقافي الذي يكشف عن أوجه القصور في تمثيل القضية الفلسطينية. أخيرا، يبدو أن المجتمع قد يكون لديه سرد مقبول اجتماعيا يروي قصة الفلسطينيين، إلى جانب قصة الإسرائيليين واليهود الأمريكيين والعرب الأمريكيين والأمريكيين السود وغيرهم.
أفاد برينان أن سعيد فتح الباب أمام جيل جديد من مفكري الشرق الأوسط وأفريقيا وآسيا. دون هذا التغيير الهائل داخل الطبقة الوسطى الأمريكية، كان من الصعب تخيل النائبة الأمريكية رشيدة طليب وهي تندد بدعم الولايات المتحدة “لحكومة الفصل العنصري الإسرائيلية” من داخل الكونغرس.
كانت أمثلة مثل دعوة سعيد للتشاور مع إدارة ريغان حول “المشكلة” الفلسطينية في الكثير من الأحيان بمثابة إشارات تبين كيفية تجاهل الولايات المتحدة للفلسطينيين وسوء تقديرهم للنفوذ السياسي الذي يتمتع به سعيد لدى قيادة منظمة التحرير الفلسطينية؛ فضلت “إسرائيل” ألا تتعامل واشنطن معهم بشكل مباشر في أي مكان في العالم.
في عصره، ظهرت العديد من الأصوات المنتقدة لسعيد في الأوساط الليبرالية الأمريكية، كما هو الحال في مجلة “نيو ريبابليك”، التي بدأ فيها وزير الخارجية الأمريكي الحالي أنتوني بلينكن مشواره كمراسل في الثمانينات والتي دعا من خلالها بينارت لاحقا إلى الصهيونية الليبرالية. اليوم، تنشر صحيفة “نيو ريبابليك” تقارير تنتقد البيت الأبيض لتجاهله “النضال الفلسطيني”. في المقابل، تحول بينارت، أو خطابات طليب في الكونغرس، لا ينبغي أن تطمئننا بوجود أي تحول وشيك ودراماتيكي في دعم الولايات المتحدة لإسرائيل.
كما جادل سعيد ومفكرون آخرون من جيله، تكتسب بعض الأفكار السلطة أو الشرعية بسبب قوتها. وعلى الرغم من “عملية السلام” لم تعد سارية المفعول، إلا أن وزارة الخارجية الأمريكية لا تزال تروج “للمفاوضات الثنائية”، و”حل الدولتين”، وتؤكد دائمًا على “حق “إسرائيل” في الدفاع عن نفسها”، بينما تحذر من أن اللحظة الحالية ليست مناسبة تمامًا لتسوية نهائية “للنزاع”.
يسعى البيت الأبيض إلى تسوية تاريخية عميقة مع وقف إطلاق نار مؤقت. انتقد سعيد هذا التجاهل للتاريخ من خلال انتقاداته لوسائل الإعلام الأمريكية والسياسة الخارجية والسياسة الداخلية. وذكر سعيد في كتابه “نهاية عملية السلام: أوسلو وما بعدها” أن “التاريخ لا يرحم.. لا توجد قوانين تجرم المعاناة والقسوة، ولا توازن داخلي يعيد الناس الذين ارتكبوا أخطاء فادحة إلى مكانهم الصحيح في العالم”.
لا ينبغي أن يساء فهم هذا كرسالة يائسة، حيث اتبع سعيد مقولة المفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي: “تشاؤم الفكر وتفاؤل الإرادة”. اليوم، لم يتبق الكثير للقيام به سوى تحليل كتابات سعيد حول ما يسمى “بعملية السلام” وأن نطرح الأسئلة عما يمكن أن نقوم به بشكل مختلف.
المصدر: فورين بوليسي