يواصل الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، مخططه نحو إخلاء طريق الحكم الأبدي من كافة المنافسين المحتملين، بما يضمن له الاستمرار في السلطة حتى الوفاة، في ضوء التعديلات التي أجراها العام الماضي، والتي من المفترض أن تتيح له البقاء نظريًّا حتى عام 2036.
في 4 يونيو/ حزيران الجاري وقّع بوتين على قانون يحظر الترشح في الانتخابات -على أي مستوى- على الأشخاص المتورطين في أنشطة “المنظمات المتطرفة”، وبموجبه فلن يستطيع قادة ومؤسسو تلك المنظمات من الترشح لمدة 5 سنوات، أما الأعضاء والمشاركون فممنوعون من المشاركة لمدة 3 سنوات، وذلك في أي انتخابات محلية أو فيدرالية.
القانون، وعلى عكس المتعارف عليه حقوقيًّا، يطبَّق بأثر رجعي على كل من شارك في تلك المنظمات، قادة أو أعضاء، خلال السنوات الثلاث الأخيرة، حتى قبل تصنيف تلك الكيانات كـ”إرهابية” في المحاكم، وهي الخطوة التي أثارت غضب الكثير من تيارات المعارضة الروسية، التي ترى أن القانون صنع خصيصًا لمنع أي منافسة لبوتين في الانتخابات المقبلة المقرر عقدها في سبتمبر/ أيلول القادم.
وكان قد عُرض مشروع القانون في مايو/ أيار الماضي على مجلس الدوما (البرلمان)، لكنه خضع للعديد من التعديلات في ضوء التحفظات التي أبدتها بعض القوى السياسية، حتى تم مدّ حظر الترشح للانتخابات من 3 سنوات للقادة إلى 5 سنوات، هذا بخلاف اتساع رقعة القانون لتشمل كل من دعم تلك المنظمات، سواء عبر بيانات على منصات التواصل الاجتماعي وتقديم الاستشارات أو التبرعات المالية، أو حتى شارك في اجتماعاتها وتفاعل مع مؤتمراتها.
ورغم أن نظام الحكم في روسيا يبدو في ظاهره ديمقراطيًّا أو رئاسيًّا، كما هو الحال في الدول الكبرى الأخرى، إلا أن بوتين منذ عام 2000 يواصل توسعة سلطات وصلاحيات المؤسسة الرئاسية، بصورة جعلت البلاد تدار من الكرملين فقط، دون أي حضور يذكر لبقية السلطات التشريعية أو التنفيذية، وهو الاستبداد الذي أثار تحفظات المنظمات الحقوقية وانتقادات المجتمع الغربي.
نافالني.. المستهدف الأبرز
التفسير الأبرز حضورًا لتمرير هذا القانون في هذا التوقيت، هو منع مؤيدي المعارض أليكسي نافالني، الذي يقضي عقوبة السجن بعد عودته من ألمانيا بداية العام الحالي، من الترشح أو المشاركة في الانتخابات القادمة، نظرًا إلى ما يمثله من خطورة على النظام الحالي.
وقد وافق القضاء الروسي على اعتبار صندوقَي مكافحة الفساد وحماية المواطنين والمقرات الإقليمية لنافالني، أنها “منظمات متطرفة” وفق الحكم الصادر عن إحدى المحاكم في موسكو في 24 أبريل/ نيسان الماضي، استنادًا إلى دعوى قضائية قدّمها الادعاء العام الروسي.
ويتعرض المعارض الروسي الذي تمّت محاولة تسميمه في أغسطس/آب 2020، اتّهمَ بها السلطات الحاكمة في بلاده، لحملة ممنهجة لتقليم أظافره وإثنائه عن نشاطه السياسي الذي بات يمثل صداعًا في رأس بوتين وحكومته، خاصة مع التعاطف والتأييد الشعبي الذي يحظى به نافالني يومًا تلو الآخر.
المقرات الحقوقية والمجتمعية المملوكة للمعارض المسجون، توقفت معظم أنشطتها عن العمل وفقًا لقرار المحكمة، وذلك بعد الدور الكبير الذي حققته في تحقيق اختراقات محدودة في الانتخابات المحلية عامَي 2019 و2020، وهو ما أقلق الكرملين الذي حرص على استبعاد فريق نافالني من الماراثون البرلماني القادم في 19 سبتمبر/ أيلول.
العمل السياسي جريمة
ما تمارسه السلطات الروسية مع الحقوقي السجين حلقة في مسلسل طويل من استهداف المعارضة بالكلية، في محاولة للوصول إلى حالة من أحادية القرار والرأي، دون وجود أي تيار من شأنه أن يعرقل النظام أو يشوه تحركاته على كافة المسارات، أيًّا كانت نتائجها.
مخطط الإبقاء على حالة الشلل السياسي والسيطرة على كرسي الحكم، دفع النظام في موسكو إلى استهداف أي حراك أو فعالية يشارك فيها أو يحضرها من يغرّدون خارج السرب، حتى إن لم يشكلوا تهديدًا مباشرًا على الكرملين ورئيسه، الذي لا يجد حرجًا في الإطاحة بكل من يقف في طريقه.
في 13 مارس/ آذار الماضي داهمت الشرطة الروسية منتدى للمعارضة في فندق بشمال موسكو، بدعوى أن المشاركين لم يكونوا يرتدون كمامات، ما يخالف اللوائح والقوانين الاحترازية المفروضة، هذا بخلاف الادعاء بأن عددًا من الحاضرين أعضاء في منظمة “الديمقراطيون الموحدون”، المدعومة من المعارض ميخائيل خودوركوفسكي، والتي تراها السلطات الروسية منظمة غير مرغوب فيها.
أوقفت قوات الأمن خلال تلك المداهمة التي قامت بها بعد 40 دقيقة فقط من انطلاق المؤتمر، قرابة 200 شخص بينهم نشطاء سياسيون وأعضاء مجالس بلدية، كانوا يشاركون في إحدى الفعاليات تحضيرًا للانتخابات الإقليمية والمحلية المقررة بعد 3 أشهر.
الفريق الداعم لنافالني اعتبر هذا الإجراء محاولة لترهيب المعارضة قبل موعد الانتخابات القادمة، خاصة أن التوقيف شمل شخصيات معارضة بارزة غرار إيليا ياشين وفلاديمير كارا ويوليا غاليامينا ويفغيني روزمان وأندريه بيفوفاروف، هذا بخلاف عدد من الصحفيين.
ويعتبر مراقبون محليون ما حدث فصلًا جديدًا من حملة القمع التي تمارسها السلطات ضد المعارضين، فيما غرّد المحرر السياسي في صحيفة “نوفايا غازيتا”، أبرز الصحف الروسية المستقلة، كيريل مارتينوف، قائلًا إن “العمل السياسي في روسيا هو جريمة، بات الأمر رسميًّا”.
إصلاحات ديكتاتورية
أجرى بوتين صاحب الـ 77 عامًا حزمة من التعديلات الدستورية خلال الآونة الأخيرة، مهدت الطريق أمامه لمزيد من إحكام القبضة على مفاصل الدولة، أبرزها هذا التعديل الذي وقّعه العام الماضي، والخاص بتصفير عداد ولاياته الرئاسية السابقة، ما يسمح له الترشح لولاية خامسة في أعقاب انتهاء ولايته الحالية 2024، والتي كان يفترض ألا يترشح بعدها بحكم الدستور قبل إدخال هذا التعديل.
وافق البرلمان الروسي على تلك التعديلات بعدد أصوات 380 نائبًا في مقابل 43 فقط من المعارضين، فيما امتنع نائب واحد عن التصويت، الأمر الذي اعتبره المعارضون لبوتين خطة محكمة متفق عليها لإبقائه في الحكم وقطع الطريق أمام كافة المنافسين، حتى لو كانوا من داخل الحزب الحاكم “روسيا الموحدة”.
قبل هذا التعديل كان يلجأ بوتين، المغرم بكرسي الحكم، إلى سياسة “التدوير وتبديل المهام” بينه وبين رئيس وزرائه السابق، ديمتري ميدفيديف، فحين كان الدستور يمنع الرئيس من الترشح لأكثر من ولايتين، اضطر بوتين بعد قضائه ولايتيَه أن يقدم رئيس وزرائه لخلافته ثم يعود هو في الدورة التي تليها، وهكذا استمر في منصبه كرئيس للدولة طيلة 4 دورات كاملة.
يبدو أن بوتين تأثر كثيرًا بالحليف الصيني، الذي ألغى قبل 3 أعوام تقريبًا القيود المفروضة على فترات الولايات الرئاسية، ما يسمح للرئيس الحالي أن يبقى في الحكم لأجل غير مسمى، وهو ما يسعى الرئيس الروسي لتطبيقه في بلاده رغم الانتقادات الداخلية والدولية حيال تلك الخطوات، التي تكرس الديكتاتورية بصورة واضحة حتى إن غُلّفت بشعارات الديمقراطية الظاهرية.
استهداف المعارضة.. تاريخ دموي
يزخر التاريخ الروسي الحديث بعشرات الجرائم التي ارتكبتها السلطة بحق المعارضين، وصلت إلى حد التخلص منهم عبر العديد من الأدوات، أبرزها “التسميم”.
فلم يكن أليكسي نافالني هو المعارض الوحيد الذي تعرض لمحاولة اغتيال من خلال دسّ سم في كوب شاي شربه في أغسطس/ آب 2020، إذ سبقه في ذلك العديد من المعارضين البارزين.
ففي مارس/ آذار 2018، تعرض الكولونيل السابق في الاستخبارات العسكرية الروسية، سيرغي سكريبال، وابنته، لعملية تسميم في مدينة سالزبوري جنوب إنكلترا بغاز أعصاب، وقد حمّلت السلطات البريطانية روسيا مسؤولية هذه الجريمة، لافتة إلى أنها تمّت من خلال استخدام غاز “نوفيتشوك” القاتل، الذي كان يصنعه الجيش السوفيتي خلال السبعينيات والثمانينيات.
الأمر ذاته تكرر مع عضو فرقة “بوسي رايوت” الروسية المعارضة، بيوتر فيرزيلوف، الذي نقل إلى مستشفى في ألمانيا في حالة خطرة، بعد تعرضه لمحاولة اغتيال بواسطة السم بحسب مقربين له، كذلك ما حدث لمنسق أنشطة حركة “روسيا المنفتحة”، فلاديمير كارا-مورزا، الذي دخل في غيبوبة إثر تعرضه للتسمم بمادة مجهولة في فبراير/ شباط 2017.
أما في عام 2006، فقد تعرض عميل جهاز الأمن الروسي السابق، ألكسندر ليتفينينكو، للاغتيال بمادة سامة (البولونيوم المشع) وضعت له في كوب الشاي في لندن، هذا في الوقت الذي رفضت فيه السلطات الروسية تسليم المشتبه الأول في تلك الجريمة، ويدعى أندريه لوغوفوي، الذي أصبح نائبًا قوميًّا بعد ذلك.
وفي الأخير، فإن سلطوية بوتين استطاعت أن تحقق ما لم يحققه أسلافه في العصر الدموي السابق، لكن بخطوات هادئة دون صخب، مستغلة المستجدات الدولية التي أرخت الستار قليلًا على الاهتمام بالممارسات الديكتاتورية، في الدول التي تحاول رسم صورة ديمقراطية عنها.
ومن المرجح أن يخوض بوتين الانتخابات القادمة دون منافسة تذكر، أو إن وجدت فإنها من المتوقع أن تكون كرتونية كغيرها من انتخابات الأنظمة الديكتاتورية في منطقتنا، ولعل آخرها ما حدث في سوريا، مع عدم استبعاد أن يحظى الرئيس الروسي بنفس نسبة النجاح الأسطورية التي حصل عليها بشار الأسد.