تحاول بعض الأطراف السياسية في تونس التحكم في القضاء قصد توظيفه لخدمة أجنداتها السياسية أو التنكيل بمعارضيها ومنافسيها، وهو ما أدى إلى تراجع ثقة التونسيين في السلطة القضائية، وخشية القضاة أنفسهم من التلاعب بهم واستغلالهم.
هذا الأمر دفع أغلب القضاة للسعي جاهدين لتثبيت استقلاليتهم – فهم دستوريًا سلطة مستقلة بذاتها – ورفض استغلال السلطة السياسية لهم في معاركها التي أثقلت كاهل التونسيين في السنوات الأخيرة، فكيف تجلى ذلك؟
إنهاء عمل القضاة في الوظائف السياسية
في خطوة وصفت بالإيجابية، قرر مجلس القضاء العدلي، إنهاء عمل القضاة بالوظائف السياسية بمؤسسات الدولة العليا، من أجل النأي بالسلطة القضائية عن التجاذبات والصراعات السياسية، ولحماية استقلالية القضاء.
وجاء في بلاغ له، أن المجلس أصدر “قرارات فردية بإنهاء إلحاق القضاة العدليين الشاغلين لمناصب برئاسة الجمهورية ورئاسات الحكومة والوزارات والهيئات التي لا يفرض القانون وجوب وجود قاض عدلي ضمن تركيبتها وإصدار مذكرات تعيين وقتية في شأنهم”.
يقول المجلس إن قراره جاء “بعد تدارس ما آل إليه الوضع القضائي وحرصًا منه على تكريس مبادئ الاستقلالية والحياد والنأي بالسلطة القضائية عن جميع التجاذبات السياسية”، مؤكدًا أن الهدف منه “المحافظة على سمعة القضاء والقضاة وكرامتهم والنأي بهم عن حملات التشكيك والتشويه ومحاولة الزج بهم في الصراعات السياسية”.
استغلال القضاء التونسي لأغراض سياسية ليس وليد اليوم، فقد بدأ مع دولة الاستقلال
نتيجة ذلك ستشمل قائمة القضاة المشمولين بقرارات إنهاء إلحاقهم برئاسة الحكومة والوزارات والهيئات الدستورية، أساسًا المستشار برئاسة الحكومة المكلف بالعلاقة مع الهيئات الدستورية بلحسن بن عمر الذي ألحق برئاسة الحكومة منذ سنة 2017 إبان حكومة يوسف الشاهد.
وينطبق الأمر كذلك على القاضي عبد اللطيف الميساوي الذي تم اقتراحه لوزارة الشؤون العقارية وأملاك الدولة، والمدير العام للديوانة والمزكى لمنصب وزير العدل في تعديل هشام المشيشي الأخير يوسف الزواغي، يذكر أنه تعذر عليهما أداء اليمين الدستورية أمام رئيس الجمهورية.
فضلًا عن ذلك، يشمل القرار الرئيسين السابق والجديد لهيئة مكافحة الفساد، عماد بوخريص وعماد بن طالب علي، وإلياس الميلادي المكلف بالشؤون العقارية، وأكمال العياري مستشار رئيس الجمهورية للشؤون القانونية.
من المهم الإشارة إلى أن القرار لن يشمل بالخصوص رئيسة الهيئة الوطنية لمكافحة الاتجار بالبشر روضة العبيدي، ورئيس هيئة النفاذ إلى المعلومة عدنان الأسود، ونائب رئيس الهيئة المستقلة للاتصال السمعي البصري عمر الوسلاتي، ونائب رئيس هيئة الانتخابات فاروق بوعسكر، باعتبار أن تركيبة هذه الهيئات تستوجب تعيين قضاة عدليين.
استغلال قديم متجدد
يُفهم من هذا القرار، وجود تمشي لدى القضاة لتقليص إمكانات توظيفهم سياسيًا من السلطة التنفيذية سواء كانت الحكومة أم رئاسة الجمهورية، فهم يسعون إلى تكريس استقلال القضاء عن السلطة التنفيذية بعد ما شهده السلك من انزلاقات.
يقول السياسي التونسي رياض الشعيبي في هذا الشأن: “من غير المعقول أن يلجأ رئيس الجمهورية إلى استعمال قضاة، في صيغة الإلحاق، من أجل تجميع ملفات إدانة أو افتعالها ضد خصومه السياسيين، ونفس الأمر ينطبق على رؤساء الحكومات المتعاقبين”.
يشير الشعيبي في تدوينة له على صفحته الخاصة على موقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك” أن هذه البدعة بدأ بها رئيس الحكومة الأسبق يوسف الشاهد، ونهج على منوالها حاليًّا الرئيس قيس سعيد وأحيانًا بنفس الأسماء، ليوظفهم لمحاولة إخضاع القضاء لأجندته السياسية”.
استغلال القضاء التونسي لأغراض سياسية ليس وليد اليوم، فقد بدأ مع دولة الاستقلال، إذ عمل الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة على إخضاع القضاء لسلطته بهدف الانفراد بالحكم وإضعاف خصومه الذين تعددت توجهاتهم، بدءًا من الإسلاميين واليساريين وصولًا إلى القوميين.
نفس الأمر بالنسبة لزين العابدين بن علي الذي كرس القضاء لضرب خصومه السياسيين على رأسهم الإسلاميين، إذ سيطر النظام السابق وهيمن على القضاء بشكل كبير من خلال فرض وصايته على المحاكم بوسائل شتى ومن خلال تطويع القانون الأساسي المنظم للمهنة وفقًا لمصالحه.
ضرب استقلالية القضاء من شأنه ضرب الديمقراطية التونسية وإفشال هذه التجربة العربية الاستثنائية
تنوعت أشكال الهيمنة والتدخل في شؤون السلطة القضائية، فقد أنشأ بن علي محاكم استثنائية مثل محكمة أمن الدولة، ودجن عمل المجلس الأعلى للقضاء الذي كان يترأسه وجوبًا رئيس الدولة للتحكم في مصير القضاة إداريًا ومهنيًا (المجلس كان مسؤولًا عن نقل القضاة وترقيهم وتعيينهم، وإصدار العقوبات ضدهم).
أما بعد الثورة، فرغم الإصلاحات التي عرفها القطاع لتحريره من هيمنة السلطة التنفيذية، بقي العديد من السياسيين يسعون للسيطرة عليه بهدف استغلاله وظهر ذلك جليًا خلال عهد حكومة يوسف الشاهد الذي كرس القضاء لإقصاء بعض الخصوم من رجال الأعمال والسياسيين.
كما يُخشى أن يتدعم ذلك، في هذه الفترة أي خلال حكم قيس سعيد وهشام المشيشي، فكلاهما متهمان بمحاولة استغلال القضاء، لتلفيق بعض التهم لخصومهم أو تبرئة بعض المتهمين الذين يوالونهم قصد تقوية أحزمتهم والقوى الداعمة لهم.
تراجع ثقة التونسيين في القضاء
نهاية السنة الماضية، نظم البرلمان جلسة مطولة خصصت للحوار مع المجلس الأعلى للقضاء، بشأن سير المرفق القضائي والعدالة في تونس، إلا أنها تحولت إلى منبر لكيل التهم للقضاء بالتسييس والانحياز لخدمة أجندات حزبية وتوظيف القضاة لتصفية الخصوم السياسيين، ما يؤكد حجم التجاذب إزاء هذا الملف.
وغالبًا ما يتهم سياسيون تونسيون – منهم نواب في المعارضة وفي الحكم أيضًا – قضاة بتلقي رشاوى وآخرين بخدمة مصالح أحزاب كبرى وقيادات فيها، كما سبق أن كشفت بعض التحقيقات تورط قضاة في التلاعب بملفات قضائية وسوء استخدام السلطة القضائية وتوظيفها لتحقيق إثراء غير مشروع.
الاتهامات لم تصدر من السياسيين فقط بل من المواطنين أيضًا، فالعديد من الاتهامات يوجهها المواطنون للقضاة، فهناك من يشكك في نزاهتهم ومنهم من يتهمهم بالفساد والتغطية على السياسيين، وهو ما نسمعه أيضًا في بعض الوسائل الإعلامية.
فضلًا عن ذلك أدى سعي الأحزاب الكبرى والسلطة التنفيذية نحو استمالة بعض القضاة إلى جانبها، إلى مضاعفة حالة انعدام الثقة في القضاة، فاستمرار التداخل بين المجالين القضائي والسياسي من شأنه التأثير على استقلالية القضاء.
ضرب استقلالية القضاء من شأنه ضرب الديمقراطية التونسية وإفشال هذه التجربة العربية الاستثنائية، فلا ديمقراطية فعلية دون استقلالية القضاء، وإعمال القانون وضمان العدالة، لذلك على السياسيين التوقف عن التدخل في القضاء ومحاولات كسب ودهم والتسريع في إقرار الإصلاحات والمراجعات التي لم تكتمل بعد في هذا القطاع المهم.
يُحارب قضاة تونس منذ الثورة لتحقيق استقلاليتهم وتشكيل عناصر صورة جديدة للسلطة القضائية، تحققت بعض مطالبهم لكن العديد منها ما زال معلقًا، فالعديد من السياسيين ما زالوا في حاجة للقضاة لتحقيق أهدافهم السياسية، وهو ما يهدد صورة القضاة بالكامل ويضرب حبل الثقة بينهم وبين المواطنين.