تعاني النساء في عالمنا العربي من كونهن الحلقة الأضعف والأكثر هشاشة في السلّم المجتمعي، وتمتد معاناتهن في الحياة اليومية إلى فترات النزاع التي تلقي بظلالها على مجتمعاتهن.
إذ تتعرض النساء إلى سلسلة من الممارسات العنيفة، كالضرب والاعتداء والحرمان من الحقوق، وقد تأتي هذه الممارسات على عدة مستويات من عنف منزلي، أو عنف تمارسه السلطات التشريعية بقوانين غير عادلة، أو بتجاهل العنف الواقع عليهن.
تتسع رقعة العنف المسلح في أيامنا هذه فتزيد الطين بلة، إذ تدمر البنى والنظم المجتمعية، وتجعل من استباحة جميع الحقوق أمرًا واردًا ممكن الحدوث.
وتمثل النساء المدنيات النسبة الأكبر لضحايا عمليات القتال المسلح، إلا أن نسبة منهن ينخرطن في العمل المسلح كمقاتلات، سواء طواعية أو مكرهات. وقد أشارت المنظمات الدولية لحقوق الإنسان إلى أن النساء المقاتلات يتعرضن لامتحان مضاعف، نظرًا إلى طبيعتهن الجسدية. وذلك ما اختصره قائد قوات الأمم المتحدة السابق لحفظ السلام، بقوله: “في أوقات النزاع المسلح، يصبح الخطر المحدق بالنساء أكبر من الخطر المحيط بجندي في ساحة المعركة”.
أولًا: النساء كجزء من المدنيين
يدفع المدنيون الثمن الأكبر في حالات النزاع، إذ تفوق الإصابات بين المدنيين إصابات المقاتلين بـ 9 مرات، ففي العراق مثلًا حتى يومنا هذا، وبعد مرور وقت على انتهاء الحرب، ما زالت المرأة تتعرض للقتل والخطف والاستباحة الجسدية، وفي فلسطين تزيد مأساة الاحتلال الدائم من معاناة المرأة الفلسطينية، التي قد تفقد البيت والعائلة والأطفال في لحظة.
كما أفضت حالة القمع التي تزامنت مع ثورات الربيع العربي وتبعتها إلى سلسلة من النزاعات التي عصفت بالنساء، فأودت بحياة الكثير منهن وجعلت من الجزء الآخر ضحايا اعتداءات جسدية وجنسية ونفسية.
وقد جعل هشاشة وضعف موقف بعض النساء أكثر عرضة من غيرهن للاعتداءات، مثل: السيدات اللاتي يتحملن مسؤولية إعالة أطفال وكبار السن في ظل غياب الزوج، إما للمشاركة في النزاع وإما الاختفاء وإما المرض وإما الوفاة؛ النازحات داخليًّا والمهاجرات واللاجئات بالإضافة إلى الأرامل والمحتجزات، وكذلك السيدات المرتبطات بجماعة مسلحة -حيث تعاقب النساء على أنشطة أزواجهن وعائلاتهن-، وأيضًا المنتميات إلى عرق معين.
لا تعتبر مشاركة المرأة في الحروب والنزاعات أمرًا جديدًا، إذ شاركت المرأة في الحرب العالمية الأولى والثانية من خلال الجيش الاحتياطي.
لذا، وبالإضافة إلى الضمانات والقوانين المقررة لحماية المدنيين، يتم أخذ خصوصية المرأة وما يمكن أن تتحمله من تبعات بعين الاعتبار، وقد نصت اتفاقية جنيف على أن “تعامل النساء بكل الاعتبار الخاص إزاء جنسهن”، كما “يجب حماية النساء بصفة خاصة ضد أي اعتداء على شرفهن، لا سيما ضد الاغتصاب والإكراه على الدعارة وأي هتك لحرمتهن”، وأيضًا حظر استخدامهن كدروع بشرية أو رهائن.
ثانيًا: النساء المقاتلات في النزاعات المسلحة
لا تعتبر مشاركة المرأة في الحروب والنزاعات أمرًا جديدًا، إذ شاركت المرأة في الحروب العالمية والنزاعات الإقليمية والمحلية.
وتتنوع المهام التي قد تؤديها النساء في الحروب والنزاعات المسلحة، من المشاركة الفعلية في القتال إلى القيام بالهجمات الانتحارية، لكونهن أكثر قدرة على الوصول إلى الهدف، خاصة أنه لا يتم تفتيشهن عن قرب، بالإضافة إلى الاهتمام بتنظيف المعسكرات وتحضير الطعام وتوفير المياه وغسل الملابس والتطبيب وتقديم الدعم للقوات المسلحة.
ولا نغفل معاناتهن حال الوقوع في الأسر، إذ تصمَّم مراكز الاعتقال غالبًا على أن تكون مخصصة للرجال، ويتم تخصيص أماكن ضيقة فيها على نحو عشوائي للنساء، اللواتي يعانين بدورهن من الاكتظاظ وعدم توفر أدنى المتطلبات التي تحفظ كرامة المرأة الإنسانية وخصوصيتها، كالحمّامات المنفصلة عن الرجال، أو سجّانات للإشراف عليهن، أو حتى أدنى ضرورات النظافة الشخصية، إضافة الى كل ما يمكن أن يتعرضن له من ضغوط وترهيب بالاغتصاب والانتهاك الجسدي.
وقد تقع الكثير من النساء عرضة للاستغلال لعدم درايتهن الكافية بحقوقهن، ولكونهن الفئة الأضعف والأكثر هشاشة، لذا تم سنّ مجموعة من بنود الحماية الخاصة التي تستفيد منها النساء، مثل: مراعاة ضعفها الجسدي وأخذ ما قد تمر به من حمل وأمومة بعين الاعتبار؛ والتأكد من توفير ظروف أسر لا تحطّ من كرامتها الإنسانية، بحيث تتوفر مهاجع خاصة ومرافق صحية نظيفة؛ ووجوب احتجازهن في أماكن منفصلة عن الرجال وأن يوكل الإشراف عليهن إلى سيدات، بالإضافة إلى تجنب إصدار أي حكم إعدام وتنفيذه على النساء الحوامل وأمهات الاطفال، بسبب جريمة تتعلق بالنزاع المسلح.
على الرغم من كل الجهود الدولية المبذولة، والأصوات المنادية بضرورة توفير كل السبل لحماية المرأة في مناطق النزاع المسلح، إلا أن النزاعات المسلحة دائمًا ما تتحول إلى حروب تخاض على أجساد النساء والأطفال.
النساء تدفع الثمن باهظًا
أبرزت الأوضاع العربية المشتعلة في سوريا، العراق، السودان، ليبيا وفلسطين مدى هشاشة موقف المرأة العربية التي تعاني الأمرَّين، فيفرض عليها لباسها، وتمنع من التعليم، وتحدّ حركتها، وترجم وتجلد وتقتل دون وجه حق، وتعتبر سبية حرب وتُباع -حتى إن أحداهن قالت إنها بيعت مقابل علبة سجائر-، وتعاني ويلات قلة الموارد الصحية والتهجير والتشريد والاختطاف، وشتى أنواع الاعتداءات البدنية والجنسية.
ويحل العنف الجنسي على قائمة الاعتداءات التي يمكن أن تلحق بالنساء في فترات النزاع المسلح، والذي كثيرًا ما يتم استخدامه كسلاح حرب لتطبيق أجندات سياسية على أرض الواقع، مثل التعذيب لانتزاع المعلومات، وكسر شوكة المعارضين، وبث الخوف في المجتمعات وتدميرها، وفرض السلطة على الأرض، والمعاقبة على أنشطة تنسب إلى المرأة أو أحد أقاربها.
كما تدفع النساء ثمنًا غاليًا لأعمال العنف المسلح، من ارتفاع نسب سوء التغذية، ووفيات الولادة لقلة المراكز الصحية التي تصبح هدفًا عسكريًّا في أوقات النزاع المسلح، إضافة الى تشوهات الأجنّة لما قد يتعرضن له خلال فترة الحمل من أسلحة وغازات سامة، كما تحرم الفتيات من التعليم إما لقلة الموارد، وإما لعدم ضمان سلامتهن الشخصية، وإما لاضطرارهن لتغطية مهام أخرى.
وتواجه النازحات واللاجئات وضعًا لا يقل سوءًا، إذ يتعرضن لظروف مزرية تتمثل في ازدحام أماكن السكن المؤقت، وغياب الخصوصية، وقلة المرافق الصحية وافتقارها للمعايير الإنسانية -إن توفرت-، ما يجعلها بيئة مواتية لانتشار الأمراض والأوبئة، خاصة مع قلة الموارد الصحية المتوفرة.
لا تنتهي معاناة الكثير من النساء بانتهاء أعمال العنف المسلح في بلادهن، بل تمتد إلى ما بعد ذلك، إذ تواجه الكثير من السيدات الرفض ووصمة العار بعد تعرضهن للاعتداء الجنسي.
كما تجد الكثير من السيدات -غير المؤهلات غالبًا- أنفسهن العائل الوحيد لأسرهن في ظروف استثنائية، لغياب رب الأسرة، وقد يكون هذا العبء مؤقتًا ينتهي بانتهاء الأعمال المسلحة، أو دائمًا لعدم عودة الرجال إما بسبب الموت وإما الاختفاء، إضافة إلى حالة القلق النفسي والترقب الدائم الذي تعيشه النساء، بانتظار عودة أفراد عائلتهن أو خوفًا من التعرض للاعتداء.
مرحلة ما بعد النزاعات
لا تنتهي معاناة الكثير من النساء بانتهاء أعمال العنف المسلح في بلادهن، بل تمتد إلى ما بعد ذلك، إذ تواجه الكثير من السيدات الرفض ووصمة العار بعد تعرضهن للاعتداء الجنسي، فتعاقَب الضحية ويفر الجاني.
كذلك تعاني الكثير من السيدات من فقدان أوراقهن الرسمية، إما نتيجة تعرض منازلهن للتدمير بكل ما فيها، وإما أثناء رحلة النزوح واللجوء القاسية، ما يقلص فرص وصولهن للمساعدات ويجعل من مطالبتهن بحقوقهن أمرًا شبه مستحيل.
بالإضافة إلى فقدان المرأة لأي فرصة عمل قد حظيت بها في مرحلة النزاعات، إذ كان هذا تمكينًا آنيًّا نتيجة غياب الرجال وتفرغهم للقتال، وحالما ينتهي النزاع تعود المرأة للتهميش والقيام بالأدوار التقليدية فقط، فيغيب صوتها عن أي مرحلة اتخاذ قرار، أو عملية سلام وإعادة إعمار.
كما لا تستفيد المقاتلات من الخدمات والرعاية الصحية ومبادرات دعم الإسكان، التي تقدم في إطار عمليات نزع السلاح والتسريح وإعادة الدمج.
أما المشكلة الكبرى فتتمثل بزيادة مستوى العنف الذي قد تتعرض له، حتى عن فترة ما قبل اندلاع الأعمال المسلحة، وذلك بسبب ما واجهه الرجال من عنف وتشويه وتعوّدهم على مستوى مرتفع من العنف، إضافة إلى الخراب والاضطرابات النفسية التي لحقت بهم ويجدون منفسًا لها في تعنيف زوجاتهم.
لذا نادت العديد من المؤسسات الحقوقية والمنظمات المعنية بحقوق الإنسان، بضرورة تبنّي مناهج تعليمية ترسخ فكرة المساواة والعدالة الاجتماعية بين جميع أفراد المجتمع، لمنع تصاعد أحداث العنف وسلب حقوق الفئات المهمشة، بالإضافة إلى ضرورة تكاتف المؤسسات النسوية والحقوقية لدعم ضحايا العنف، وتوفير المأوى والدعم اللازم لهن.
كما يجب التركيز على زيادة الدعم المالي والاقتصادي، للمؤسسات والمشاريع التي تعمل على دعم النساء ضحايا العنف.
مشاركة المرأة في مرحلة ما بعد النزاعات
تؤدي النزاعات إلى ما يمكن اعتباره تغييرًا في الأدوار الاجتماعية، إذ قد تتمكن النساء من إحداث التغيير في واقعهن والوصول إلى بعض الوظائف، وتحصيل جملة من الحقوق في فترات النزاع، إلا أن الأوضاع سرعان ما تنتكس إلى سابق عهدها بعد انتهاء النزاعات، وسرعان ما يتم إنكار ما وصلت إليه تحت ذرائع سياسية واجتماعية ودينية مختلفة. وبسبب غياب صوتها عن عملية السلام وإعادة الإعمار، غالبًا ما يتم تجاهل معاناتها وحقوقها.
تضمن مشاركة النساء في العملية السياسية تمثيل شريحة النساء، والتركيز على الحقوق الاجتماعية والاقتصادية والعدالة الاجتماعية والأمن السياسي لهذه الشريحة.
وتتمثل أهمية مشاركة المرأة في الحياة السياسية، بما له من بالغ الأثر على دفع عملية السلام وتعزيز التطور في العملية السياسية، فعلى سبيل المثال قبل إبرام اتفاقة السلام بين الحكومة الكولومبية وحركة القوات المسلحة “فارك”، وقفت النساء في الجبهة يتفاوضن على اتفاقات أمن محلية، لإنشاء مناطق سلام لضمان وصول المساعدات إلى المناطق المتضررة.
أيضًا في ليبيريا استطاعت حركات نسوية حشد الآلاف من النساء، في إطار حملة “نساء ليبيريا، كتلة العمل من أجل السلام”، ونجحت في جلب أطراف النزاع الى طاولة المفاوضات، حتى إن النساء حاصرن بأجسادهن الغرفة التي تجري فيها مفاوضات السلام، حتى توصلوا إلى اتفاق سلام.
كما يمكن للمرأة المساهمة في بناء الثقة بين الأطراف المتعادية، والإسهام في إعادة التعايش السلمي في مجتمعاتهن، فمثلًا في أفغانستان والكونغو والعراق استخدمت النساء الأنشطة كأداة لجمع النساء معًا على اختلاف معتقداتهن.
وكذلك تضمن مشاركة النساء في العملية السياسية، تمثيل شريحة النساء والتركيز على الحقوق الاجتماعية والاقتصادية والعدالة الاجتماعية والأمن السياسي لهذه الشريحة، وضمان جعل صوتها مسموعًا وقضاياها مطروحة مرئية، وبالتالي المحافظة على أي تقدم تم إحرازه وضمان استمراريته وإمكانية تطوره.