عند الحديث عن فترة استباحة داعش للموصل، الممتدة لـ 3 سنوات ونيّف (2014-2017)، دائمًا ما تكرر وسائل الإعلام أشكال المضايقات التي ارتكبها عناصر التنظيم في الموصل، أكبر المدن التي سيطر عليها واتخذها عاصمة لخلافته الموهومة، مختصرة إياها بفرض إطالة اللحية للرجال، ومنع بعض أنواع الملابس مثل تقصير الثياب، وفرض لبس السواد والنقاب الكامل على النساء، وإغلاق المحلات أوقات الصلاة، ومنع السجائر.. إلى آخره من مقيدات الحرية، التي وإن كانت سمة من سمات حكم التنظيم، لكنها لم تكن المشكلة الأساسية مطلقًا.
التعاطي الإعلامي مع قضية الموصل خلال حقبة “داعش” السوداء، يقزّم المأساة للأسف، إما عمدًا أو نتيجة جهل وقلة وعي بحقيقة الفجيعة المروّعة التي عاشها أهالي الموصل والمدن الخاضعة للتنظيم، فتغرق القنوات والصحف و”الترندات” بظاهر الحالة وقشرها، فيما يختفي الحديث عن الفظاعات الكبرى التي بنى عليها التنظيم الإرهابي حكمه وأسست لدولته المزعومة.
تكمن المشكلة الأساسية لنا -كعراقيين وموصليين- مع داعش في منهجية التكفير واستباحة الدماء والأعراض والأموال، وهي ما ظهرت بشكل واضح في عدد من الأحداث التي مرت على الموصل خلال سيطرتهم عليها، نسرد لكم في هذا التقرير بعضها لنستعيد الذاكرة بشكل صحيح، ولا ننجرف تحت الرسالة الإعلامية الساذجة أو المتحيزة حول فترة حكم التنظيم، التي تختصر المشكلة بفرض اللحية والنقاب ومنع السجائر.
إجرام قبل سقوط الموصل وبعده
في الذكرى الأولى لسقوط الموصل بيده، أصدر التنظيم تسجيلًا مصورًا بعنوان “عام على الفتح“، فيه إدانة واضحة للتنظيم بقتل الأبرياء، حيث تظهر لقطات من اغتيالات كان يقوم بها التنظيم داخل مدينة الموصل، وصلت إلى حد اغتيالهم أفراد من شرطة المرور غير العسكريين المنظمين لحركة السيارات في المدينة، الأمر الذي يجعل الجميع يكتشف أن القتل لم يكن يطال جهة محددة، وإنما كان يصل للجميع بغرض زعزعة أمن المدينة ومنع سير الحياة فيها بشكل طبيعي.
في المقطع الأخير لإصدار داعش، يظهر مقاتلو التنظيم يسوقون آمر فوج شرطة طوارئ نينوى وهو بلباسه المدني، بعد أن أعطوه الأمان وأن التنظيم قبلَ “توبته” ولن يُقتله، ليأتي أحد الأطفال فيسبه ويتوعّده أن “الدولة الاسلامية” ستقوم بقتله، فيقوم أحد أفراد التنظيم بتنفيذ ما توعّد به الطفل؛ إذ يطلق مجموعة من الرصاصات تودي بآمر الفوج قتيلًا أمام عيون مجموعة من الأطفال، بينهم المتوعد له.
مجزرة 2070
سقطت الموصل بيد التنظيم في منتصف عام 2014، وتحديدًا في مثل هذا اليوم 10 يونيو/ حزيران. بعد دخول التنظيم المدينة بأشهر قليلة، بدأت حملة اعتقالات واسعة طالت موظفين، محامين، مرشحين انتخابات سابقين وخطباء مساجد، تجاوز عددهم الآلاف.
ولم يعرف مصيرهم حتى قيام التنظيم بتعليق قائمة بـ 2070 اسمًا على دائرة الطب العدلي في قلب مدينة الموصل، يعلن فيها مقتلهم فيها، وأن على ذويهم عدم مراجعة التنظيم لاستلام أجساد الضحايا، وقد تبين لاحقًا أنه قام بعمليات إعدام ميدانية بحقهم، وتم رمي جثثهم في منطقة الخسفة، منخفض أرضي يقع غرب مدينة الموصل.
كما أوغل التنظيم في القسوة لدرجة فرض منع إقامة عزاء للمغدورين، واصمًا إياهم بالمرتدين، ثم توالت قوائم التصفية لاحقًا، وإلى اليوم هناك أعداد غير محددة من أهالي الموصل قام التنظيم باعتقالهم، ولم يعرَف مصيرهم حتى لحظة كتابتي لهذا المقال بعد مرور سنوات على تحرير المدينة.
مجزرة المساجد والخطباء
في إحصائية مخيفة صدرت من ديوان الوقف السنّي، فإن أيمن الموصل فقط فقد 559 مسجدًا وجامعًا! غالبيتهم جرفهم أو فجرهم التنظيم تحت حجج مختلفة، حيث يقول أبو بكر كنعان مدير الوقف السنّي في نينوى: “في الجانب الأيمن لوحده تعرض نحو 559 جامعاً إلى الهدم بشكل كامل، إضافة إلى الأضرار التي لحقت بالجوامع الأخرى. هذا عدا الجانب الأيسر والأقضية والنواحي، إضافة الى الجوامع الأثرية والتاريخية التي فجرها التنظيم بدءًا من جامع النبي يونس وانتهاء بالجامع النوري الكبير ومئذنته الشهيرة منارة الحدباء”.
فيما أعلن كنعان عن قتل التنظيم لـ 66 عالمًا وخطيبًا داخل مدينة الموصل خلال فترة سيطرته على المدينة، خاصة الأشخاص الرافضين لفكره والمفنّدين لتصرفاته.
تهجير المسيحيين
في يوم 12 يوليو/ تموز 2014، أصدر ديوان القضاء التابع لداعش بيان خاص بأحوال المسيحيين من أهالي الموصل، بالمنشورات الورقية وعبر مكبرات الصوت، ومنحهم التخيير ما بين الدخول في الإسلام أو دفع الجزية أو الخروج من المدينة بأنفسهم!
ولاحقًا تم تبديل البيان ببيان آخر جديد في يوم 17 يوليو/ تموز، يخيّر فيه المسيحيين بين مغادرة المدينة أو القتل، وسبب ذلك نتيجة رفض البيان الأول، حيث تم تحديد مدة 24 ساعة لخروجهم ومصادرة أملاكهم في مدينة الموصل، وإن لم يخرجوا فسوف يتعرضون للقتل.
ليخرج المسيحيون من المدينة، ويقوم عناصر التنظيم بعملية سلب ونهب واسعة للدور والممتلكات التي تركوها، بعد أن فرض عليهم التنظيم المغادرة دون اصطحاب أي من مقتنياتهم، لتخلوا المدينة من مكوّن أساسي فيها في يوم كان من أقسى الأيام على الموصليين المسلمين فيها قبل المسيحيين، حيث فقدَ كل منا صديقًا أو جارًا أو زميل عمل أو دراسة.
نهب الأموال والممتلكات
نزح ما يقارب نصف سكان مدينة الموصل بعد سيطرة التنظيم عليها، موزعين بين الخيام وإقليم كردستان العراق والعاصمة بغداد أو لاجئين خارج العراق، واعتبر التنظيم الأشخاص المغادرين للمدينة مغادرين من دار الإيمان إلى دار الكفر، مانحًا لنفسه الحق بمصادرة أموالهم وممتلكاتهم داخل المدينة، في عملية نهب واسعة تمّت تحت مسمى “عقارات الدولة الإسلامية”.
وتفنن عناصر التنظيم في اختيار التهمة، للصقها على منازل المغادرين للمدينة لغرض مصادرتها. فحرف “ن” يرمز إلى منزل المسيحي وحرف “ر” إلى الشيعي، وإذا كان صاحب المنزل مسلم وسنّي ولا تصلح عليه تلك الحروف، فالحرف الأسهل والأكثر شهرة هو “م” أي مرتد.
وتحت هذه الذريعة، صادر التنظيم عشرات الآلاف من المنازل والممتلكات والمحال التجارية والسيارات الشخصية، ومنع مغادرة المدينة تحت أي سبب كان، لتتحول الموصل إلى سجن كبير يضيق يوم بعد آخر على الأهالي الذين لم يتمكنوا من الخروج.
مجزرة معمل البيبسي
لم يترك التنظيم فرصة لتأكيد إجرامه ومنهجه الدموي، حتى في آخر أيام سيطرته على الموصل منع الأهالي المدنيين من مغادرة المناطق التي يسيطر عليها وتتعرض للقصف.
فقد أقدم عناصر التنظيم على مجزرة مروعة بقتل 200 مدني، بينهم نساء وأطفال وشيوخ، خلال محاولتهم الهرب من المناطق التي يسيطر عليها التنظيم باتجاه القوات العراقية.
يقول علاء بشار، وهو أحد الناجين من المجزرة، إن “المجزرة تمّت حين حاول عدد كبير من الأسر المحاصرة في حي الزنجيلي بالموصل القديمة، والذي كان تحت سيطرة داعش، الهرب باتجاه مناطق سيطرة القوات العراقية التي كانت تسيطر على حي النجار المجاور”.
وأضاف أن “الأسر استخدمت شارع البيبسي، الذي يحمل هذا الاسم لاحتوائه على معمل لشركة المشروبات الغازية. عند وصول العوائل التي كانت تضم عددًا كبيرًا من النساء والأطفال قرب معمل البيبسي، قام عناصر تنظيم داعش الذين كانوا يسيطرون على البنايات العالية في الجانب الآخر من الشارع من جهة حي النجار، بفتح نيران أسلحتهم بشكل عشوائي تجاه الأسر الفارة”.
في الختام، ما ذكرته أعلاه هو منهج كرره التنظيم بشكل يومي، طوال فترة حكمه التي لم يكد يمر يوم دون تجميع الناس في وسط المدينة، لمشاهدة أحد طرق إعدامه الوحشية لضحاياه، بالإلقاء من أعلى بناء أو قطع رؤوس بالسيف أو بالتفجير.
رغم جسامة فاتورة داعش الوحشية التي دفعتها الموصل بالدماء وليس بفرض اللحية والنقاب، إلا أنه لا يمكن نسيان ما فعله هذا التنظيم الإرهابي على كل أرض خضعت له، من مجازر بحق الإيزيديين إلى مذبحة سبايكر وصولًا للمجازر التي ارتكبها في جنوب الموصل بحق أهالي قرى ناحية حمام العليل، حينما استخدم الأهالي دروعًا بشرية ثم غدر بهم في مجازر إلى اليوم لم تلملم جراحها، ولم يجد بعض مغدوريها قبورًا تكرم أجسادهم أو شواهد يزورها ذويهم للدعاء وقراءة الفاتحة.
فهل يبصر الإعلام حقيقة نكبتنا، ولا يختزل أوجاعنا بفرض اللحية والنقاب أو بمنع السجائر وبناطيل الجينز؟