تمر التجربة الديمقراطية التونسية باختبار قاسٍ جدًّا يمكن وصفه بالمزلزل.
لقد وصلت القطيعة بين المؤسسات حدًّا غير قابل للجبر، وكل حركة تكشف مقدار الفرقة بين الرؤساء، ما ينعكس مباشرة على سير المؤسسات ويمس مستقبل الدولة نفسها.
راجت في شهر مايو/ أيار أخبار عن نصائح الأصدقاء الخارجيين، وعن خطاب حاد موجّه إلى الرئيس من الإدارة الأميركية نفسها، وهي الإدارة التي تقدم نفسها للعالم ما بعد ترامب كراعية للديمقراطية، ولكن لم يظهر أي أثر لهذه الرسائل على سلوك الفرقاء، خاصة على سلوك الرئيس وفريقه غير المرئي.
هناك جهات ثلاث مستفيدة من الوضع الحالي، نراها كامنة خلف الأزمة، تحركها بشكل مباشر ومكشوف ومن خلف الستر: رأس المال الفاسد أو طبقة الفاسدين، وهي التسمية الأصوب، هذه تمول الأزمة وتصنع إعلامها؛ ومعهم في حلف غريب طوائف الحداثيين الاستئصالية التي صوتت ضد الرئيس “الداعشي”، ثم مالت إليه كأنما تلقت أمرًا بالنصرة، وهذه تبرر وتحرض على تعميق الأزمة؛ وخلف هؤلاء أرى فرنسا تخطط وتدعم وتوجه، فهي الخاسر الأكبر من نجاح التجربة الديمقراطية في تونس والمعدية لكل المنطقة.
الرئيس واجهة لحلف شرّاني
نحصر النقد في الرئيس ونتتبع زلاته، وهي كثيرة وظاهرة، لكن أرى الرئيس واجهة للأطراف الثلاثة التي سميتها أعلاه.
ليس لهذا الرئيس رأي يعتد به فينسب إليه (خيرًا كان أو شرًّا)، فمنذ ظهوره لم يتقدم بخارطة فعل سياسي أو مدني، وحتى برنامجه الانتخابي حول الديمقراطية المباشرة لم يقدم فيه غير تلك الجمل الأولى التي لم تتحول إلى مشروع قانون، فقط بقي في خطاب الحملة الانتخابية، وكلما ظهر مارس معارضة الحكم وهو في قلبه، لكنه تحول بوعي منه أو من دونه، ما جعله أداة في يد غيره، وهذ الغير معروف للتونسيين.
أولهم طبقة الفاسدين، التي ملكت المال والسلطة منذ زمن بن علي وما قبله، تعمل على البقاء والاغتنام من الوضع الجديد، واستقرار الحكم يفتح على محاسبتها مهما تأخر الحساب.
وسواء كان في الحكم حزب إسلامي أو غيره، فالاستقرار السياسي يعني نهايتها (هذه الطبقة ليست معنية بشكل مباشر بحرب حداثية ضد الإسلام السياسي، ولكنها وجدت في هذه المعركة فائدة فحرضت عليها)، ولذلك الوضع الأمثل هو الإبقاء على قدر عالٍ من التوتر الذي يعيق كل من يحكم.
تستفيد قوة الاحتلال الفرنسي المرعوبة من الاحتمال الديمقراطي، أي لحظة استقرار سياسي تعني بدء الاستثمار في الثورة، ومنها محاسبة المحتل على جرائمه القديمة وقطع أثره من البلد.
هنا يبرز تحالف غريب بين الفاسدين والنقابات اليسارية، وهي العصا الغليظة التي تضرب الحكومات منذ الثورة.
تقود النقابات حربها الاستئصالية ضمن خطة اليسار القديمة (تونس بلا إسلاميين)، وقد وظّفت قوتها في تعطيل المرافق العامة دون أن تمس بسوء المؤسسات الخاصة، فتعطيل المرافق العامة هو اليد التي تؤلم الحكومات (والتي كان فيها منذ الثورة مكون إسلامي ثقيل الوزن، يستفيد من الاستقرار أكثر من غيره).
لقد استنزفت الميزانية في زيادات غير متوازية مع الإنتاج، فوضعت البلد على حافة الإفلاس، لكن المؤسسات الخاصة حيث تنهار الأجور تواصل عملها. هنا يتجلى التحالف.
يكمل دور اليسار المتغلغل في النقابات تيار الحداثة بكل شقوقه، والذي يلتقي معهم في نقطة واحدة (تونس بلا إسلاميين) فتكتمل الدائرة.
يحتاج هذا العمل إلى جهاز دعاية فعّال، فاستولى المال الفاسد على الإعلام الخاص، وسيطر اليسار والحداثيون على الإعلام العمومي للقيام بالمهمة نفسها، أي التحريض ضد الحكومة وضد مكونها الإسلامي (رغم أنه لا يشارك فيها بحقائب)، لكن الحكومة باقية بإسناد منه.
في مناخ عدم الاستقرار، تستفيد قوة الاحتلال الفرنسي المرعوبة من الاحتمال الديمقراطي، أي لحظة استقرار سياسي تعني بدء الاستثمار في الثورة، ومنها محاسبة المحتل على جرائمه القديمة، وقطع أثره من البلد ولو بعد حين، لذلك يجب تعطيله بكل السبل.
كانت العمليات الإرهابية تشير إلى اليد الفرنسية، وكان توسيم النقابيين بجائزة نوبل وسيلة أخرى، وكانت مساندة حفتر في ليبيا ورقة مفيدة ضد تونس وضد ليبيا. لقاء المصالح هذا وجد غنيمته في الرئيس الفاقد لكل خطة وطموح.
الواجهة يلعب ضد مرماه
بلغة شباب الملاعب، هذا الرئيس يسجل في مرمى فريقه رغم أن الناس وضعوه في قلب الهجوم. لقد وجد في تأويل النص الدستوري نصره الخاص، فتمتع بتمزيق النص وقطع طريق المحكمة الدستورية، فأخرج البرلمان من معادلة الحكم.
ندع جانبًا هنا حديثه عن أن التطبيع خيانة عظمى، فقد أتيحت له فرصة إثبات ذلك فهرب من الاستحقاق، ما كشف نفاقه وجبنه السياسيَّين. لكن الكشف الأكبر كان في اتضاح صورته داخل الحلف التطبيعي الحقيقي، وهو تيار الحداثة الموالي للمحتل. إنه واجهة للاحتلال. ونعرف موقف فرنسا مع الكيان الصهيوني منذ التأسيس.
نظير الإسناد من الخارج ومن الداخل، باع الرجل موقفه الانتخابي، وهو يعرف أن حلفه يوضّح له (إذ صرنا نشك في ذكائه) أن الاستقرار السياسي سيؤدي إلى محاسبته. مثلما أن وجود محكمة مختصة في تأويل الدستور، ستفقده ما استولى عليه من حق التأويل الدستوري.
يدفع الرجل، ولأقُل فريقه الظاهر والخفي، البلد إلى حافة الأزمة ولا يمكن إيقافه، فهو يعرف كلفة الخروج الآن في ظرف وبائي واقتصادي مدمر.
يشبه فعله السياسي، خاصة هذه الأيام، فعل الفيروس كوفيد-19، إنه يعشش في الأزمة ويمنع البلد من التنفس، وهو يعرف أكثر من الفيروس بعدم وجود تلقيح مضاد.
الرئيس باقٍ في مكانه بالوباء وبخطر الإفلاس، وليس بقوته الذاتية وبأفكاره الفذة، أو بحركاته الرمزية كرئيس منتخب شعبيًّا.
هل نتوقع الزلزال؟
تتحدث الحكومة وحزامها السياسي، خاصة حزب النهضة، عن صفقات تمويل صديقة (قطر وليبيا)، ويكبّرون احتمال الحصول على قروض ميسّرة ستخرِج الحكومة من أزمتها النقدية، لتبدأ في تنفيس الوضع الاجتماعي.
لكن هذا الحديث يغفل الاتفاقات الممضاة مع النقابات نظير بعض الهدوء في القطاعات الحساسة، أي أن المال الوافد في الطريق قد صُرف كزيادات في الأجور، ولن يكون له الأثر المرجو على استثمار قريب، بحيث ستجد الحكومة نفسها في وضعها نفسه في بداية السنة. دورة عدمية تخرج كل من ليس نقابة من دائرة الفائدة، وهم الأكثر عددًا.
ثمن إنقاذ الديمقراطية هو دفع هذا الوضع إلى نهايته وبسرعة، ليعرف كل فاعل حجمه ومكانته. ثمن مكلف جدًّا لكنه قابل لتقدير الزمن والكلفة.
خطاب التطمين، وأغلبه صادر عن حزب النهضة في السوشال ميديا، هو خطاب صب ماءً قليلًا على نار تستعر، لذلك سيكتشف الحزب والحكومة أنهما حرثا البحر، فالفاعل الحقيقي هو من يصنع الأزمة لا من يحاول حلها، وعندما يتفطنون إلى ذلك، سيكون الوقت قد تأخر كثيرًا، وسيكون ثمن الحقيقة موجعًا.
إن الإعلام الموجه فرنسيًّا، مهما أنكر ذلك الإعلاميون، قد حمّل حزام الحكومة كل المسؤولية عن الوضع الحالي، وبرّأ الرئيس والنقابات وحمى التدخل الفرنسي السافر في شؤون الحكم.
هل يوجد حل أم أن المفتاح قد صار في البحر؟ ثمن إنقاذ الديمقراطية هو دفع هذا الوضع إلى نهايته وبسرعة، ليعرف كل فاعل حجمه ومكانته. ثمن مكلف جدًّا لكنه قابل لتقدير الزمن والكلفة، والصبر على الوضع الحالي لا يستنزف الحكومة وحزامها فحسب، بل يستنزف التجربة الديمقراطية برمتها، فيوصلها إلى حالة إفلاس مادي ورمزي تجعل كل وضع عداها مقبولًا.