هناك في جنوب تونس، بمدينة جرجيس المطلة على البحر الأبيض المتوسط والقريبة من الحدود الليبية، تجتمع آمال آلاف الأفارقة وأحلامهم للوصول إلى أوروبا وتحقيق مبتغاهم، ولكن منهم من تُقبر أحلامهم هناك، في مقبرتي “الغرباء” و”حديقة إفريقيا” وينتهي بهم المطاف مدفونين بإحدى تلك المقابر لحفظ كرامة الضحايا المجهولين.
“حديقة إفريقيا”
فقد الخطاط والفنان الجزائري رشيد قريشي قبل فترة من الزمن شقيقه غرقًا في البحر، كان ألمه كبيرًا عليه، فقرر إنشاء مقبرة حتى تكون مأوى لأحلام العديد من الأفارقة الذي انقطعت بهم السبل وماتوا غرقًا في البحر المتوسط، خاصة بعد أن ظهرت العديد من العراقيل في عملية دفن الجثث التي يتم انتشالها من البحر في مدينة جرجيس.
صمم باب المقبرة بأسلوب هندسي تونسي يعود للقرن السابع عشر ويؤدي إلى مسالك صغيرة أرضها مغطاة ببلاط سيراميك مزخرف باليد، تعلوها قبة بيضاء وقاعة صلاة لمختلف الأديان، على أمل أن تتم التوسعة ويتم بناء قاعة للتشريح هناك.
بين ثنايا القبور المطلية باللون الأبيض، توزعت أشجار الزيتون، عل رائحتها ورائحة زهر الياسمين المنتشرة هناك تغلب رائحة الجثث المتعفنة التي يلفظها البحر لأولئك المهاجرين القادمين من مناطق متفرقة في إفريقيا وجمعتهم مقابر جرجيس.
يستغل تجار البشر حاجة الناس الحالمين بالوصول إلى سواحل أوروبا الجنوبية، فيخصصون لهم قوارب متهالكة، أغلبها ينقلب في عرض البحر
تعتبر مدينة جرجيس على الساحل الجنوبي التونسي من أكثر المدن التي يجتاز عبرها المهاجرون غير النظاميين الحدود نحو سواحل أوروبا الجنوبية، فبعد أن كانت قوارب الهجرة تنطلق من سواحل ليبيا أصبحت تخرج من جرجيس نظرًا لتشديد القبضة الأمنية على السواحل الليبية.
أراد قريشي أن يمنح هؤلاء المهاجرين القادمين في أغلبهم من إفريقيا جنوب الصحراء مكانًا يحفظ كرامة جثثهم عوضًا أن تلقى في مكان مجهول أو تبقى عرض البحر، فلا بد أن يأتي يوم ويتعرف أهلهم عليهم ويبكوهم.
في سبيل إنشاء هذه المقبرة التي سميت “حديقة إفريقيا”، باع الفنان الجزائري عددًا من أعماله الفنية، وتمكن نهاية سنة 2018 من شراء قطعة أرض في مدينة جرجيس، يحيط بها شجر الزيتون، ودشنت المديرة العامة لليونسكو أودري أزولاي التي تزور تونس المقبرة رسميًا أمس الأربعاء.
برع قريشي في استخدام وسائل تعبير مختلفة في أعماله بما فيها الزخرفة العربية والنسيج والشعر والخط العربي بكل تجلياته الجمالية وغيرها من الفنون البصرية الإسلامية، وتتسم أعماله بالتحرر والحيوية، وتجمع بين التقاليد القديمة والحداثة.
أسست المقبرة على مساحة نحو 2500 متر مربع، وتضم 500 قبر، وتم بالفعل استغلال 200 منها، ويخشى القائمون عليها أن تمتلئ خلال هذه الصائفة، خاصة أن موجات الهجرة غير النظامية تزداد عادة خلال هذا الوقت من السنة.
مقبرة الغرباء
فضلًا عن حديقة إفريقيا، يوجد في جرجيس أيضًا مقبرة أخرى للمهاجرين غير النظاميين يطلق عليها اسم “مقبرة الغرباء”، ويعود تاريخ إنشائها إلى أكثر من 14 سنة، بعد تزايد أعداد الجثث المنتشلة على سواحل تونس الجنوبية.
هذه المقبرة الكائنة في منطقة الكتف بجرجيس عبارة عن مساحة ترابية مطوقة بأشجار الزيتون والورود التي تخفف من وطأة الحزن، تضم قبورًا في شكل متواز على طول المساحة، ويبعد القبر عن الآخر مسافة تقارب نصف المتر، في تلك القبور ينام المئات من المهاجرين الأفارقة الذين هربوا من جحيم واقعهم نحو جحيم أكبر في البحر.
أنشأ هذه المقبرة كهل من جرجيس يدعى شمس الدين مرزوق يبلغ من العمر 55 عامًا، خلال السنوات الماضية دفن قرابة 400 جثة، باستعمال معداته خاصة، فبشكل منتظم تواجه سفن الموت مخاطر كبرى في البحر المتوسط، يصل بعضها إلى سواحل أوروبا فيما يكون مصير بعضها الآخر الغرق.
عندما تقف على تلك القبور المنتشرة تحت أشجار الزيتون، تسمع قصة كل فرد تقطعت به السبل على شواطئ شرق تونس
في كل مرة ينتقل العامل التطوعي في منظمة الهلال الأحمر التونسية إلى شاطئ البحر عله يجد جثة مهاجر غير نظامي هناك، إن صادف ووجد جثة ينقلها للمصالح الصحية والأمنية لاتخاذ بعض الإجراءات ومن ثم ينقلها للمقبرة، أين تواري الثرى.
ويعتبر البحر الأبيض المتوسط أكبر المقابر الجماعية للمهاجرين غير النظاميين، إذ غرق فيه قرابة 40 ألف شخص وهم يحاولون الوصول إلى شواطئ أوروبا خلال الـ20 سنة الأخيرة، وتعتبر الحدود الأوروبية في البحر المتوسط أكبر منطقة من حيث عدد الوفيات في العالم.
يستغل تجار البشر حاجة الناس الحالمين بالوصول إلى سواحل أوروبا الجنوبية، فيخصصون لهم قوارب متهالكة، أغلبها ينقلب في عرض البحر الذي تحول إلى مقبرة جماعية لآلاف المهاجرين الفارين من النزاعات والحروب والفقر المدقع، والآملين في الظفر بمستوى عيش أفضل يضمن لهم الحد الأدنى من الكرامة الإنسانية.
كلُ قبر له قصة
غالبًا ما يدفن شمس الدين مرزوق والقائمين على “حديقة إفريقيا” جثة المهاجر كاملة في القبر، لكن يحصل في بعض الأحيان أن يتم دفن أجزاء من جثث أو جثث متحللة بشدة، بقيت لفترة طويلة في البحر الأبيض المتوسط.
لا يعرف القائمون على المقبرتين معظم أسماء الموتى وأصولهم، لكنهم متيقنون أن لكل جثة أو قبر قصة خاصة به، فمنهم من غادر بلاده نتيجة تعرضه للاضطهاد الجسدي والقمع من حكومته أو طرف مدني تسلط عليه.
منهم أيضًا من خرج من بلاده نتيجة حالة الفقر المدقع الذي يعيشه ورغبته في تحقيق أحلامه في إحدى البلدان الأوروبية، فهو يسمع من أقاربه الذين وصلوا هناك أخبارًا جميلةً عن رغد العيش ويشاهد ذلك في المحطات التليفزيونية أيضًا.
منهم كذلك من يريد الالتحاق بأحد أفراد عائلته سبقه إلى أوروبا، ورغم يقينه أن الوضع هناك لم يختلف كثيرًا عن الوضع في بلاده بل أشد بؤسًا، فالعنصرية في كل مكان، فإنه أبى إلا أن يغامر ويعبر الصحراء للوصول لليبيا ثم تونس.
عندما تقف على تلك القبور المنتشرة تحت أشجار الزيتون، تسمع قصة كل فرد تقطعت به السبل على شواطئ شرق تونس، اختلفت قصصهم لكن مصيرهم كان واحدًا، بعض الحفنات من التراب دفنوا تحتها وكُتب فوقها رقم يدل على هويتهم لعل بعض من أهلهم يسألون عليهم يومًا ما وإن كان ذلك شبه مستحيل.