كثُر الحديث في الآونة الأخيرة عن احتمال تقارب في العلاقات السعودية والإيرانية، في ظل عودة أمريكية للمفاوضات مع إيران من أجل إعادة العمل بالاتفاق النووي الإيراني.
المسار التاريخي للعلاقات بين البلدين
بدأت العلاقة بين البلدين بعد توقيع معاهدة صداقة عام 1929، وبعدها عام 1930 بدأ البلدان بتبادل السفراء، لكن بسبب الخلافات السياسية والعرقية والمذهبية على مر التاريخ، اتسمت العلاقات بينهما بالاحتقان الشديد.
منذ اندلاع الثورة الإسلامية عام 1979 والإطاحة بنظام الشاه، حاولت إيران في البداية تصدير الثورة إلى دول الجوار، خاصة العراق ودول الخليج، ومن الأحداث المتأثرة بالثورة الإسلامية الإيرانية، ما عُرف بأحداث انتفاضة محرم في المنطقة الشرقية من المملكة العربية السعودية.
لكن وُصف مطلع التسعينيات وبداية الألفية بالفترة الذهبية للعلاقات بين البلدين، خاصة مع وصول الرئيسَين أكبر هاشمي رفسنجاني ومحمد خاتمي الذي زار السعودية عام 1997، واعتبرت زيارته أرفع زيارة لمسؤول إيراني للسعودية منذ قيام الثورة الإسلامية الإيرانية.
كما وقّعت اتفاقية أمنية بين البلدين عام 2001، وزار وزير الداخلية السعودية الأمير نايف بن عبد العزيز آل سعود إيران في العام نفسه، إلا أن التوتر بين البلدين عاد مع بداية عام 2005، وهو العام الذي وصل فيه الرئيس أحمدي نجاد إلى السلطة، وما رافقه من تطور للبرنامج النووي الإيراني الذي يمثل هاجسًا لدول الخليج العربي، وسيطرة الأحزاب الشيعية المتحالفة مع إيران على السلطة في العراق، الجار الشمالي للسعودية.
ثم أتى التدخل السعودي العسكري في البحرين بعد اندلاع الأزمة فيها مطلع عام 2011، بناءً على طلب حكومة المملكة البحرينية، تحت مسمى لواء قوات درع الجزيرة في البحرين، بمشاركة إماراتية، وإثر ذلك انتقدت إيران التدخل السعودي في البحرين، وبالإضافة إلى ذلك، يخوض الطرفان حروبًا بالوكالة في عدة جبهات مختلفة، خاصة في سوريا واليمن ولبنان.
توجد رغبة مشتركة بين الطرفين للتقارب والبدء في إعادة بناء علاقات جديدة مبنية على التعاون والتنمية التي تخدم المصالح المشتركة للبلدين والمنطقة
بقيت العلاقات بين البلدين متوترة حتى عام 2016، حين بلغت حالة التوتر ذروتها الأخيرة، ففي عام 2016 أعدمت السلطات السعودية نمر النمر، وهو عالم دين شيعي سعودي ذو نشاط سياسي معارض، وله روابط بالنظام الإيراني.
أثار إعدام النمر موجة ردود فعل بين الشيعة في الشرق الأوسط عمومًا، وإيران خصوصًا، فقد أدانت إيران عملية الإعدام، وتوعّدت السعودية بأن تدفع الثمن.
جراء ذلك هاجم المئات من المتظاهرين الإيرانيين مبنى القنصلية السعودية في مدينة مشهد، وأضرموا النيران في أجزاء منها، أما السفارة السعودية في طهران فقد اقتحمها المتظاهرون ونهبوا محتوياتها وهشموا الأثاث وزجاج النوافذ.
إثر ذلك أعلن وزير الخارجية السعودي السابق عادل جبر، قطع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، وطالب أعضاء البعثة الدبلوماسية الإيرانية بمغادرة السعودية.
مؤشرات التقارب
شهدت العلاقات بين البلدين في الآونة الأخيرة نوعًا من الانفراج، مع تبادل الرسائل الإيجابية بين المسؤولين، وهو ما قد يؤشر إلى بدء مرحلة جديدة، وهذه المؤشرات كالآتي:
أولًا: صرّح مستشار رئيس الوزراء العراقي حسين علاوي، في لقاء مع القناة العراقية الرسمية، بأن “الكاظمي يرعى وساطة بين المملكة العربية السعودية والجمهورية الإسلامية الإيرانية، تنهي صراعًا دام أكثر من 31 سنة، دفع العراق جزءًا منه”.
بالإضافة إلى ذلك نقلت وكالة “فرانس برس” عن مصدر حكومي عراقي، تأكيده أن وفدًا سعوديًّا برئاسة رئيس المخابرات خالد بن علي الحمدان، ووفدًا إيرانيًّا برئاسة مسؤولين مفوضين من الأمين العام للمجلس الأعلى للأمن القومي علي شمخاني، اجتمعا في بغداد مطلع أبريل/نيسان الماضي.
ثانيًا: من المؤشرات الأخرى التي تدل على التقارب بين البلدين، التصريحات التي صدرت عن مسؤولي البلدين، فقد صرح ولي العهد السعودي محمد بن سلمان خلال حوار تليفزيوني، أن “إيران دولة جارة”، وأنه لا يريد أن يكون وضع إيران صعب، على العكس يتمنى أن تكون إيران مزدهرة وتنمو، و”يكون لدينا مصالح فيها ولديهم مصالح في السعودية، لدفع المنطقة والعالم للنمو والازدهار”.
وفي السياق ذاته صرح المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية سعيد خطيب زاده “إيران ترحب بتغيير السعودية لنبرتها”، وأضاف قائلًا: “من خلال الآراء البناءة والنهج المبني على الحوار، يمكن لإيران والسعودية كدولتين مهمتين في المنطقة والعالم الإسلامي، الدخول في فصل جديد من التفاعل والتعاون لتحقيق السلام والاستقرار والتنمية الإقليمية من خلال تجاوز الخلافات”، ما يشير إلى اهتمام البلدين ببدء حقبة جديدة من التفاعل والتعاون.
دوافع التقارب
توجد رغبة مشتركة بين الطرفين للتقارب والبدء في إعادة بناء علاقات جديدة مبنية على التعاون والتنمية التي تخدم المصالح المشتركة للبلدين والمنطقة، وتجاوز خلافات الماضي، وبناءً على ذلك يوجد عدد من الدوافع التي من خلالها يمكن تفسير التقارب بين البلدين:
أولًا: من الدوافع التي فرضت على السعودية إعادة التفكير في موقفها من إيران، الحرب على اليمن التي أصبحت مصدر تهديد لأمن المملكة ومصادر ثروتها النفطية التي باتت أهدافًا لصواريخ الحوثيين وطائراتهم المسيّرة، لذلك تدرك السعودية أن قرار وقف الحرب بالنسبة إلى الحوثيين، مرتبط بشكل أساسي بجلب إيران للحوثيين إلى طاولة المفاوضات.
تعتمد إمكانية التقارب السعودي الإيراني إلى حد كبير على الإرادة السياسية عند قادة الجانبين
ثانيًا: دفع التحول الكبير في سياسة الإدارة الأمريكية الجديدة تجاه منطقة الشرق الأوسط، السعودية إلى إعادة النظر في مواقفها على مستوى سياستها الخارجية، إذ أصبح تركيز الإدارة الأمريكية الجديدة بعيدًا عن الشرق الأوسط، ولم يعد من أولوياتها بشكل أساسي.
فبمجرد وصول الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى سدة الحكم، تحرك لإنهاء الدعم الأمريكي للجانب السعودي في الحرب على اليمن، وأعلن الانسحاب الكامل للقوات الأمريكية من أفغانستان، وبدأ مفاوضات العودة إلى الاتفاق النووي الإيراني، وبات من الواضح أن الولايات المتحدة ستواصل تقليل الأعباء وعدم أداء مزيد من الأدوار في الشرق الأوسط.
ثالثًا: تعي إيران المكانة والتأثير اللذين تتمتع بهما السعودية في محيطها العربي والإسلامي، إذ تعتبر السعودية قائدة العالم الإسلامي، بحكم الرمزية الدينية، بوصفها حاضنة مكة والمدينة، واستعادة العلاقات مع السعودية من شأنه أن يساعد إيران على تحسين علاقاتها مع دول الإقليم، خاصة القوى المؤثرة فيه وعلى رأسهم مصر.
رابعًا: يمثل إعادة إحياء الاتفاق النووي الإيراني، دافعًا إيرانيًّا إلى الانفتاح على السعودية وإعادة العلاقات معها، في حين تعطي كل مراكز القوى في إيران، أهميةً قصوى لرفع العقوبات الصارمة التي فرضتها إدارة ترامب على إيران، وشملت كل القطاعات الاقتصادية والصناعية ومصادر الطاقة، كما عزلتها عن النظام المالي العالمي، فقد ألحقت العقوبات الاقتصادية أضرارًا بالغة بالاقتصاد الإيراني.
أخيرًا.. يمكن القول إن إمكانية التقارب السعودي الإيراني تعتمد إلى حد كبير على الإرادة السياسية عند قادة الجانبين، لكن بات كل طرف على قناعة تامة أن فرص التعاون أفضل بكثير وأقل تكلفة من استمرار الصراع، ولن يستطيع أي طرف حسم الصراع بشكل كامل لصالحه، خاصة في ظل ما تشهده المنطقة من صراعات أهلية تجتاح عددًا كبيرًا من دول العالم العربي، وكذلك ما تشهده الساحة الدولية من تغيرات وتطورات.