تعاني مدينة الموصل، وهي تمر اليوم بالذكرى السابعة لاحتلالها من قبل تنظيم داعش، من هيمنة كبيرة للفصائل المسلحة التابعة لإيران، والتي أصرّت على المشاركة الفاعلة في معارك تحرير هذه المدينة من سيطرة التنظيم، لحسابات شاملة ومعقدة.
إرث داعش في الموصل
ورثت هذه الفصائل تنظيم داعش، بما كان يمتلكه من ميزات وثروات، واضطلعت في مرحلة ما بعد التحرير، بدعم وتأثير إيرانيَّين واضحَين، بممارسة أدوار سياسية واقتصادية وثقافية وأمنية. كما إنها فرضت سلطتها على الحكم والإدارة وتوزيع الوظائف والثروات والمشاريع والخدمات والبنى التحتية.
إن عقلية المنتصر التي مثلتها هذه الفصائل، عرقلت الجهود المستمرة لعودة النازحين وإعادة إعمار المدينة، فضلًا عن إن طبيعة المستجدات التي برزت بعد عمليات التحرير، أنتجت ظواهر جديدة على مستوى العلاقة مع الحشود العشائرية السنّية، وباقي الحركات والتجمعات داخل مدينة الموصل، إلى جانب صناعة حالة شعبية مؤيدة لأدوارها وممارساتها، ما خوّل هذه الفصائل القيام بأدوار واسعة في هذه المدينة بعد التحرير.
كان السبب الرئيسي وراء تشكيل الحشود العشائرية السنّية، هي المساهمة في تحرير مدينة الموصل من سيطرة تنظيم داعش، وكذلك التقليل من آثار سيطرة الفصائل المسلحة التابعة لإيران على المدينة، خصوصًا في ملف إعادة النازحين والإعمار وإيقاف الثارات الطائفية.
فضلًا عن ذلك، سعت الكثير من الشخصيات السنّية إلى استغلال الفراغ السياسي في مرحلة ما بعد داعش، وأن تكون جزءًا من صنع المرحلة الجديدة، ووجدت في الانتماء إلى الحشد الشعبي سبيلًا لتحقيق هذه الغاية.
أما بالنسبة إلى حشد الأقليات، فقد كان الهدف الأساس من تشكيلها هو فقدان ثقتها بالوسط السنّي الذي عاشت فيه قبل بروز داعش، ولذلك سعت لتشكيل كانتونات طائفية وقومية محمية بقوة السلاح، كما إن قيادات حشد الأقليات وجدت في تشكيل هذه الفصائل فرصة لإزاحة قياداتها القديمة، وأن تكون جزءًا من المعادلة السياسية الجديدة التي رسمتها الفصائل المسلحة التابعة لإيران، في مرحلة ما بعد التحرير الموصل.
هيمنة بوجه جديد
جاءت السطوة الأمنية التي فرضتها الفصائل المسلحة التابعة لإيران، من خلال مشاركتها الرئيسية في معارك تحرير مدينة الموصل، التي كانت خاضعة لسيطرة داعش، إذ نجحت هذه الفصائل في إعادة رسم الخارطة الأمنية للمدينة، بالشكل الذي يخدم استراتيجيتها المتوائمة مع استراتيجية إيران حيال سوريا، وتحديدًا في دير الزور والحسكة، ولذلك ربطت هذه الفصائل بين أدوارها الأمنية في مدينة الموصل، واستراتيجية إيران الإقليمية، كون أغلبها يقاتل في سوريا، أو متمركز على الحدود معها.
مارست هذه الفصائل العديد من الأدوار الأمنية في المدينة، وبالإطار الذي جعل منها قوة لإنفاذ القانون، بعيدًا عن الأجهزة الأمنية الأخرى، إذ أقامت سجونًا خاصة بها، وقاضي تحقيق يزوّدها بالأوامر القضائية الخاصة بالاعتقال والتفتيش، فضلًا عن تجاوز صلاحيات الشرطة وقيادة العمليات الوطنية في كثير من الأحيان، كما تمارس الفصائل دور الأمن والدفاع في المدينة، بسلطات غير محدودة ومتجاوزة للقانون.
أنتجت الأدوار التي مارستها وما زالت الفصائل المسلحة التابعة لإيران في المدينة، العديد من التداعيات والآثار الخطيرة على واقع المدينة، إذ لم تستثنِ الحالة الإيرانية عبر الفصائل المسلحة التابعة لها أي جانب من جوانب هذه المدينة.
في حين تمثلت أهم مسارات الدور الاقتصادي للفصائل المسلحة في مدينة الموصل، عبر المكاتب واللجان الاقتصادية التي تنتشر فيها، إذ تمارس هذه المكاتب نشاطاتها عبر فرض رسوم جباية وضرائب على أصحاب المتاجر والصرافة والمحلات وغيرها، حيث ينتشر في نينوى وحدها أكثر من 60 مكتبًا اقتصاديًّا.
أدت هذه المكاتب الاقتصادية دورًا كبيرًا في السيطرة على كل مجالات العمل الاقتصادي والتجاري في هذه المدن، وبالشكل الذي خلق ثروات مالية كبيرة لقيادات هذه الفصائل، فضلًا عن دورها في تهريب الأموال إلى إيران، ومساعدتها لتخفيف ضغوط العقوبات الأميركية المفروضة عليها.
كما استأثرت الفصائل المسلحة التابعة لإيران، بحالة الفراغ السياسي الذي شهدته مدينة الموصل بعد تحريرها من سيطرة تنظيم داعش. ونتيجة عدم تمكن أغلب الكتل والأحزاب السياسية من ممارسة دورها في مرحلة ما بعد التحرير، تمكنت هذه الفصائل من استمالة العديد من الشخصيات السياسية والاجتماعية في المدينة، ودعمها سياسيًّا وإعلاميًّا لتكون جزءًا من الطبقة السياسية الناشئة في مرحلة ما بعد داعش.
تمّت ترجمة ذلك بصورة فعلية في انتخابات مجلس النواب عام 2018، إذ دخلت العديد من الشخصيات والحركات الاجتماعية السنّية في قوائم تحالف الفتح، الذراع السياسي للفصائل المسلحة التابعة لإيران، وحصلت على العديد من المقاعد النيابية في مجلس النواب العراقي، إلى جانب ذلك أصبحت الفصائل المسلحة التابعة لإيران الضلع الثالث في المعادلة السياسية في مدينة الموصل، بعد الحكومة المركزية والحكومة المحلية، وذلك بفعل سيطرتها الأمنية على مجمل المقدرات الاقتصادية في هذه المدينة.
وفضلًا عن كل ما تقدم، يأتي التأثير الثقافي بدوره كأحد الأبعاد المهمة، في الدور الذي تمارسه الفصائل المسلحة التابعة لإيران في مدينة الموصل، والذي جاء مكملًا للأدوار السياسية والاقتصادية والأمنية.
وقد أنتجت الأدوار الثقافية تأثيرات كبيرة، بدأت تفرض نفسها على واقع المدينة وسكانها، ومن ذلك ترويج النموذج الثقافي الإيراني في هذه المدينة، عن طريق افتتاح العديد من المراكز الثقافية والدينية، فضلًا عن افتتاح معاهد تعليم اللغة الفارسية، بدعم من الملحقية الثقافية الإيرانية في بغداد، وأيضًا عن طريق افتتاح العديد من المدارس في مدينة الموصل.
بالإضافة إلى ذلك، تم إعلان السفارة الإيرانية في بغداد، رغبتها بافتتاح قنصلية إيرانية في مناطق سهل نينوى، وذلك للإشراف المباشر على التحركات السياسية والعسكرية للفصائل المسلحة القريبة من إيران في مدينة الموصل وأطرافها، هذا إلى جانب انتشار صور للرموز الإيرانية في المدينة، من قبيل رفع صور لقائد فيلق القدس السابق قاسم سليماني.
إجمالًا، أنتجت الأدوار التي مارستها وما زالت الفصائل المسلحة التابعة لإيران في المدينة، العديد من التداعيات والآثار الخطيرة على واقع المدينة، إذ لم تستثنِ الحالة الإيرانية عبر الفصائل المسلحة التابعة لها أي جانب من جوانب هذه المدينة، وسيطرت على جميع مقدراتها ومنافعها، ما جعل منها خطرًا أكبر من تنظيم داعش على مستقبل المدينة.
فقد نجحت الفصائل المسلحة التابعة لإيران في الاستحواذ على ميراث تنظيم داعش في هذه المدينة، وشرعنة وجودها قانونيًّا وإداريًّا، عبر العديد من القرارات والقوانين، ما انعكس سلبًا على حياة السكان في المدينة.
ويشكّل هذا الاستحواذ بدوره فرصة لاختراق المدينة من قبل عناصر تنظيم داعش من جديد، مستغلًّا حالة التذمر الشعبي من أدوار هذه الفصائل، فنشاطات التنظيم تصاعدت في الآونة الأخيرة على تخوم مدينة الموصل، ما يهدد بدوره حالة الاستقرار الأمني في المدينة.