شكّل حي الشيخ جراح ومستجداته منذ بداية عام 2021، أبرز قضايا مدينة القدس المحتلة، فقد أدى شره الاحتلال وأطماعه في السيطرة المباشرة على الحي من جهة، واستهدافه المسجد الأقصى المبارك من جهة أخرى، إلى اندلاع واحدة من أبرز المواجهات الشاملة مع الاحتلال منذ تأسيس دولته قبل 73 عامًا، ووحدت المعركة البطولية مع المقاومة في غزة، والهبّة الشاملة بين الفلسطينيين، فيما خلطت الأوراق على الصعد الإسرائيلية.
وفي سياق الإضاءة على أهمية الحي ودوره تاريخيًّا، نتناول في هذا المقال أهمية الحي وما جرى فيه من معارك بطولية، أجهضت محاولات عصابات الاحتلال الصهيونية ترحيل سكانه منه، والسيطرة على منازلهم إبان حرب عام 1948.
موقع الحي وأهميته
يقع حي الشيخ جراح فوق أرض تسمى “كرم الجاعوني”، شمال البلدة القديمة في القدس المحتلة، ويقطنه أكثر من 3 آلاف فلسطيني، يرتفع الحي عن سطح البحر نحو 706 أمتار، ويُنسب الحي إلى واحد من قادة السلطان صلاح الدين الأيوبي، وهو الأمير حسام الدين الحسين بن شرف الدين عيسى الجرّاحي (توفي عام 1201).
وتشير العديد من المصادر إلى أن للحي أهمية جيوسياسية كبيرة، إذ يقع إلى جانب “وادي النار”، ومنه يمكن التوجه إلى البلدة القديمة وإلى جبل المشارف، ويعد حي الشيخ جراح صلة الوصل بين الأحياء العربية في مركز المدينة وجنوبها، مع الأحياء العربية شمالها.
وشكّل الحي مركزًا سياسيًّا وثقافيًّا للفلسطينيين في القدس المحتلة، فقد ضم منازل وعقارات لنخبة من سكان القدس المحتلة، ففيه يقع قصر “كرم المفتي” الذي بناه الشيخ طاهر الحسيني، والد الحاج أمين الحسيني، عام 1840، ويضم الحي منازل ومباني للعائلات المقدسية المرموقة على غرار عوائل الحسيني والنشاشيبي وغوشة وجار الله.
ومن أشهر هذه المنازل منزل إسماعيل الحسيني الذي أصبح بيت الشرق، ومنزل سعيد الحسيني الذي تحول إلى متحف دار الطفل العربي، إضافة إلى منزل إسعاف النشاشيبي أحد أعلام العربية وعلومها.
وبناء على ما سبق، نجد أن الحي ضم في وقت لاحق أبرز المراكز الفلسطينية والدولية، منها مقر منظمة التحرير الفلسطينية في بيت الشرق والمؤسسات المختلفة التابعة له، أيضًا المسرح الوطني الفلسطيني والعديد من مقرات البعثات الدبلوماسية والممثليات الدولية، من بينها قنصليات بريطانيا وتركيا وبلغاريا وإسبانيا وفرنسا وإيطاليا.
وشكّل الحي نقطة جاذبة للمؤسسات الدولية، فقد ضم مكاتب عدد من المؤسسات الدولية، من بينها مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانيّة (OCHA)، مقر منظمة الصحة العالمية (WHO)، ممثلية الاتحاد الأوروبي، مكاتب الصليب الأحمر وغيرها من المؤسسات. إضافة إلى عدد من المؤسسات التربوية الفلسطينية، على غرار كلية البنات “هند الحسيني” التابعة لجامعة القدس، مركز إسعاف النشاشيبي التربوي، دار الطفل العربي وعدد من المدارس الأخرى.
العصابات الصهيونية
حاولت العصابات الصهيونية استهداف الحي في أحداث نكبة 1948، ولكن محاولاتهم باءت بالفشل، ويورد المؤرخ عارف العارف في كتابه “النكبة الفلسطينية والفردوس المفقود” سببين أساسيين لاستهداف العصابات الصهيونية لحي الشيخ جراح وسكانه عام 1948، هما:
الأول: موقعه الفاصل بين الأحياء اليهودية التي تضم مباني استيطانية، وهي الهداسا والجامعة العبرية، والطرف الشمالي من جبل الزيتون، إذ حاولت عصابات الاحتلال السيطرة على الحي لفصل البلدة القديمة عن امتدادها الفلسطيني في الشمال.
الثاني: كان معظم سكان الحي قبيل النكبة من الوجهاء والأثرياء، وسعت العصابات الصهيونية إلى القضاء عليهم وتشريدهم، لحرمان القدس المحتلة من “مورد كان من المستطاع أن يغذيها بالعقل والمال” بتعبير العارف، وهذا ما دفع المقاومين إلى الدفاع عن الحي في وجه المخططات الصهيونيّة.
صمود الحي بين عامَي 1947 و1948
بدأ سكان الحي الاستعداد لمواجهة أطماع العصابات الصهيونية، فعمدوا إلى شراء بعض قطع السلاح، واستعانوا بعدد من القرويين ليساعدوا سكان الحي على الحراسة والقتال.
وشهد الحي أولى العمليات القتالية في 30 نوفمبر/ تشرين الثاني 1947، في اليوم التالي لإصدار قرار التقسيم، حيث ألقيت في الحي أول قنبلة على باص يهودي كان يمر في الحي في طريقه إلى الجامعة العبرية، ما أدى إلى جرح يهوديَّين.
واستمر استهداف الباصات والسيارات الصهيونية التي تمر في الحي طوال شهر ديسمبر/ كانون الأول 1947. ففي 18 ديسمبر/ كانون الأول 1947، استهدف شابان باصًا آخر أدى إلى مقتل أستاذَين في الجامعة العبرية، وجرح 6 مستوطنين.
وجرت في الحي معارك عديدة خلال أحداث 1948، ففي بداية العام قام قائد حامية الشيخ جراح محمود جميل الحسيني، مع مجموعة من المناضلين، بنسف أول بيت يهودي قريب من الحي، وفي 10 يناير/ كانون الثاني قامت معركة بالحي أسفرت عن مقتل 3 مستوطنين، وجرح 7 آخرين.
وبحسب المؤرخ الفلسطيني عارف العارف، استعمل الفلسطينيون في هذه المعركة لأول مرة الرشاشات المعروفة بـ”البرن”. وفي 13 يناير/ كانون الثاني اندلعت معركة أخرى دامت ساعتين، فتضرر 20 منزلًا في الحي جراء قصف العصابات الصهيونية.
ولم تكن العمليات في الحي لمواجهة قوافل العصابات الصهيونية فقط، فقد شهد محاولات قطع الإمداد عن الهداسا والجامعة العبرية. ففي 19 يناير/ كانون الثاني 1948، دمر الفلسطينيون أنابيب المياه التي تمر من الشيخ جراح، والمتوجهة إلى الأحياء اليهودية، فتدخلت قوات الاحتلال البريطاني لإصلاح شبكة المياه، ولكن المقاتلين الفلسطينيين في الحي رفضوا ذلك. وعلى أثر هذا الهجوم، تحول كل الموجودين في الجامعة العبرية من طلاب وأساتذة إلى مقاتلين في صفوف عصابة الهاغاناه.
وانتهج الفلسطينيون استراتيجية القنص منذ بداية شهر فبراير/ شباط 1948، على أثر تلقي العصابات الصهيونية دعمًا بريطانيًّا كبيرًا، وتدخل عشرات من الجنود والمصفحات البريطانية، فكانوا يقنصون المستوطنين قرب الحي والمناطق المجاورة.
وفي 13 أبريل/ نيسان 1948، اندلعت بحسب العارف “أكبر المعارك التي حدثت في بيت المقدس”، فقد هاجمت مجموعة من المقاومين من جيش الجهاد المقدس قافلة صهيونية لعصابة الهاغاناه، كانت في طريقها إلى مستشفى الهداسا، وسقط من العصابات الصهيونية عشرات القتلى على أثر الانتصار الفلسطيني في هذه المعركة، واستطاع الحي الصمود حتى احتلال الشطر الشرقي من القدس عام 1967.
إن تاريخ مواجهة أطماع الاحتلال في حي الشيخ جراح لا تعود إلى عقود قليلة ماضية، ولا تتعلق بقضايا وادعاءات رفعتها أذرع الاحتلال، بل هي مواجهة شاملة تعود إلى اللحظات الأولى من تأسيس هذا الكيان الاحتلالي الغاصب، وأن المقاومة الفلسطينية اليوم بأدواتها البسيطة هي جزء من معركة شاملة استخدم فيها الفلسطيني المدفع والبندقية والقنبلة، كما يستخدم المقاوم اليوم الموقف والاعتصام ووسائل التواصل الاجتماعي والصاروخ والطائرة المسيّرة، في سياق إبقاء المواجهة الشاملة مع الاحتلال دائمة التوقد والاستمرار.