رغم أن مساحة قطاع غزة 365 كيلومتر مربع، فإن تلك البقعة الصغيرة منذ آلاف السنين تعتبر ميدان تطاحن الأمم و”دهاليز الملك”، فشهدت على صولات وجولات الملوك لموقعها الجغرافي، فهي “بوابة آسيا ومدخل إفريقيا” كما وصفها نابليون، ومع تعاقب الحضارات عليها: الرومانية واليونانية والبيزنطية وحتى الإسلامية بقيت المدينة الوحيدة التي حافظت على اسمها ولم تغيره.
هذه المدينة الصغيرة التي شهدت الكثير من المعارك الطاحنة والحضارات المختلفة حتى يومنا هذا، تدفع المهتمين بتفاصيلها للتنبيش عن شكل الحياة فيها، فسعى المؤرخون والكتاب إلى رصد تاريخها وحكايتها عبر كتب توثيقية وروايات اجتماعية تروي حياة الغزيين منذ آلاف السنين.
“نون بوست” يرصد بعضًا من الكتب المهمة التي دونت معالم الحياة الاجتماعية والاقتصادية والتعليمية في غزة في مختلف الأزمنة، لا سيما أنها تعد مرجعًا لكثير من المؤرخين حتى إن أصدر بعضها حديثًا.
“غزة وقطاعها” لـ سليم المبيض 1987
تناول الكاتب والمؤرخ الغزي سليم المبيض في كتابه حكاية خلود المكان وحضارة السكان من العصر الحجري الحديث حتى الحرب العالمية الأولى في قطاع غزة، ووصف الحياة الاجتماعية والاقتصادية عبر 500 صفحة، واصفًا غزة بأنها تلك البقعة الجغرافية الفريدة والتاريخية العريقة، بقعة الصراعات وأرض الثورة الحقيقية.
“العملات المعدنية” كانت دليلًا اهتدى من خلالها الكاتب المبيض في رواية تاريخ قطاع غزة، حيث الأماكن القديمة والإسلامية الحديثة، بالإضافة إلى المعارك التي دارت على البقعة الصغيرة وأوضاع الناس المعيشية.
يحكي المبيض لـ”نون بوست” أنه دون في كتابه أن موقع غزة الجغرافي حولها إلى موقعة عسكرية، ما جعلها غنية وثرية في الآثار”، مشيرًا إلى أن كل نقود الكرة الأرضية القديمة منذ القرن السادس قبل الميلاد موجودة في المدينة، فقد صكت حينها 13 دولة نقودها بغزة.
وأكد أن النقود المعدنية التي عثر عليها مكنته من قراءة تاريخ غزة والحضارات التي مرت عليها، متمنيًا لو أعيد نشر كتابه من جديد ليضيف إليه بعض الصور والمعلومات الجديدة.
يقول في كتابه: “معرفة ما حولنا غريزة هكذا يقول أصحاب نظرية المعرفة ويسمونها بالاستعداد الفطري للتاريخ، ويقال أيضًا بأن الإنسان يولد جغرافيًا منذ اللحظة التي يحاول فيها التفريق بين الاختلافات المكانية، وحقيقة لسنا هنا بإزاء قطاع متفرد بخصائص ومزايا معينة بل أمام مدينة داخل إقليم برزت في ملامحه قسمات ميزته بقدر كبير من الخصائص والصفات”.
“تاريخ غزة” لعارف العارف 1943
حين شغل الكاتب العارف منصب قائم مقام لواء غزة في الفترة (1940- 1944) أصدر كتابه الذي يحتوي على 356 صفحة تناول فيها تاريخ غزة متسلسلًا زمانيًا، فبدأ بالحديث عن موقعها وأهميتها التاريخية وأسمائها التاريخية المختلفة ومعنى كل اسم منها، ثم انتقل للحديث عن بناة غزة الأولين والشعوب التي سكنتها منذ القدم والعصور التاريخية التي مرت عليها والدول التي حكمتها حتى الفتح الإسلامي.
كما أورد الكاتب عبر سطور كتابه “تاريخ غزة” الأوضاع في العصور الإسلامية المختلفة، وتحدث بإسهاب عن فترة الحكم العثماني حتى الانتداب البريطاني وسقوط غزة تحت الحكم الإنجليزي، فقد عايش هذه الفترة وكتب عنها.
وأفرد العارف فصلًا كاملًا عن غزة حتى عام 1943، مخصصًا للحديث عن طباع أهلها وأخلاقهم وملابسهم وأعيادهم ومواسمهم، وعن أحوال غزة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
ولا يزال كتاب “تاريخ غزة” مرجعًا، بل وأحد أهم الكتب التي وثقت تاريخ غزة بشكل دقيق ودون مبالغة استنادًا إلى الوثائق والآثار وكل ما كان يمتلكه الكاتب من أدلة تحكي عن الحقب التي مرت بها غزة.
“قطاع غزة 1948-1967: تطورات اقتصادية وسياسية واجتماعية وعسكرية” لحسين أبو النمل
أصدر الكاتب أبو النمل كتابه سنة 1979، وثق به الأحداث التي شهدتها غزة إبان حرب 1948، فقد سلط الضوء على مشاركة الجيش المصري والمتطوعين العرب إلى جانب قوات الجهاد المقدس، وسياسة الحكومة المصرية التي أدت إلى تصفية هذه القوى جميعًا.
كما تطرق إلى سنوات الجوع التي عانى منها القطاع، وكان حينها كل شيء قابلًا للاحتمال سواء بضمه إلى مصر أم الأردن، كما غطى الكاتب حقبة مهمة وحافلة بالأحداث وهي عدوان 1956 ومحاولة ابتلاع القطاع وخطر تدويله الذي أسقطه الشعب عنوة.
كما عرض الكتاب الحالة الاقتصادية والزراعية والتجارية للغزيين، ورسم صورة الأوضاع والعلاقات الاجتماعية ومراحل تطورها، فهو رغم ندرة المعلومات القديمة لمقارنتها مع الأحداث التي كتبها وعايشها، استند إلى المقابلات الشخصية لمن عاصروا تلك الاحداث من أجل تدقيق البيانات المتوافرة، ولم يبدأ بكتابته إلا بعد تطابق المعلومات.
“التطور الثقافي في غزة من عام 1914 إلى 1967” لـ أحمد الساعاتي
في الوقت الذي انصرف الكتاب الفلسطينيون لتوثيق الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في قطاع غزة عبر مختلف الحضارات التي شهدتها البقعة الصغيرة، كان لا بد من تسليط الضوء على التعليم والثقافة خاصة أن الاحتلال الإسرائيلي يحاول بكل الطرق التشويش وتشويه الحضارة الفلسطينية وسرقتها.
الكاتب الساعاتي وثق في كتابه أثر الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية على الحياة الثقافية والأحوال التعليمية في غزة منذ عام 1914 حتى 1917 فترة الانتداب البريطاني، فتناول وضع التعليم في تلك الفترة وانعكاس الحياة السياسية عليه، ثم عرض الوضع التعليمي بين عامي 1948- 1967 أي زمن الإدارة المصرية.
كما عكس في كتابه وضع المؤسسات التعليمية والمكتبات والصحف والجمعيات الثقافية والاتحادات الشعبية والنوادي في تلك الفترة وحالة الازدهار والخفقان التي شهدتها، وخصص في كتابه فصلًا كاملًا للحديث عن التراث الشعبي في جوانبه المختلفة: المادي والفكري والفني، وكل ذلك وثقه بالصور والوثائق.
“غزة التاريخ الاجتماعي تحت الاستعمار البريطاني” لـ أباهر السقا
بطريقة مختلفة يسرد الكاتب التاريخ الاجتماعي لمدينة غزة عبر منظور سوسيولوجي، فيعرض الحياة فيها إبان الاستعمار البريطاني حتى نكبة 1948.
الكاتب السقا شرح التركيبة الاقتصادية والسياسية للمدينة وسكانها وعائلاتها، عبر آليات صناعة الوجاهة الاجتماعية، كما تناول عمليات تحديث المدينة والعلاقات المعقدة بين سياسات الأهالي من جهة والمستعمر من جهة أخرى.
وسرد في كتابه الذي أصدره سنة 2018 التغيرات الاقتصادية والاجتماعية المرتبطة بها والتغيرات الحضرية الاجتماعية المرتبطة بخدمات المياه والإنارة وإقامة منشآت المدينة ومرافقها ووسائل النقل وميناء المدينة ومطارها ومحطة القطارات، وسعى لتمحيص أشكال التحديث المدنية، وكذلك عرض البنى الاقتصادية للمدينة وحرفها وصناعاتها وأسواقها ومواردها وتجارتها.
ويغوص الكتاب في تفصيلات الحياة اليومية والتعبيرات الاجتماعية والثقافية للأهالي ومؤسساتهم وطبيعة العلاقات الاجتماعية والأنماط الاستهلاكية على نحو غير مألوف، وأيضًا العلاقات بين العائلات والتشكيلات الحضرية بين مدينة غزة ومدن فلسطينية أخرى.
لم يقتصر توثيق الحياة في قطاع غزة عبر مختلف الحضارات على كتب ثقافية، بل تميز الكتاب الغزيون بتدوين الحياة عبر روايات دمجت بين السياسة والتفاصيل الاجتماعية مثل الروائي عبد الكريم السبعاوي صاحب رباعية “أرض كنعان” الذي تنقل بين أزقة القطاع ليوثق قصصًا واقعية وتتبع الشخصيات الحقيقية التي بقيت على قيد الحياة حتى لو اضطر للسفر إليهم بمدن وقرى في الداخل المحتل فكان ينصت للتفاصيل التي عايشوها.
ودومًا يحرص الكتاب والرواة الغزيون على عدم تجاوز الخطوط الحمراء، لكن الكاتب الشاب يسري الغول كسر الطريقة النمطية بروايته “غزة 87” التي توثق أحداثًا واقعيةً سمعها من أصحابها، تحدث فيها عن أهل المخيم وحياتهم وكيف يبحث الشباب عن لقمة الخبز، ووصف المشاهد الرومانسية بدقة متناهية وجريئة تجعل القارئ يعايش اللحظة.
وفي الآونة الأخيرة أبدع الشباب الغزي في إخراج عشرات الروايات سنويًا التي توثق تناقضات الحياة بتفاصيلها في قطاع غزة حيث الحصار وإغلاق المعابر والحروب والفقر والموسيقى والفرح.