في شهر يونيو/حزيران من كل عام، تشهد الساحة المصرية عشرات المعارك الهلامية، إعلامية كانت أو عبر منصات التواصل الاجتماعي، بين أنصار الرئيس الراحل جمال عبد الناصر ومعارضيه، تقييمًا للهزيمة العسكرية التي تلقتها مصر على أيدي الجيش الإسرائيلي في الـ5 من الشهر عام 1967.
مريدو عبد الناصر يرون فيما حدث مؤامرة كانت تستهدف الإيقاع بدولة الرئيس الزعيم، مشددين تركيزهم على خروج الشعب المصري لمطالبة الرئيس بالعدول عن قرار التنحي الذي أقدم عليه بعد الهزيمة، معتبرين أن ذلك دليلًا على حب القائد والدعم الشعبي له.
أما المعارضون له فيصفون ما حدث بـ”المسرحية” في إشارة إلى واقعة التنحي، في محاولة للتغطية على الهزيمة النكراء التي كانت بمثابة الفضيحة للعسكرية المصرية، مشككين في تلقائية التظاهرات التي خرجت لمطالبة عبد الناصر بالبقاء في منصبه، وأنها كانت أحد فصول تلك المسرحية.
ورغم مرور 54 عامًا على النكسة كما يسميها الإعلام المصري، ما زال السجال دائرًا، وإن تصاعد في الآونة الأخيرة بعد خروج الكثير من الناصريين عن خط القومية الاشتراكية لحساب المستجدات الأخيرة، ليبقى السؤال: ماذا لو كان التنحي حقيقيًا؟ كيف كانت ملامح الدولة المصرية لو ترك عبد الناصر الحكم وقُدم والمسؤولون عن النكسة للمساءلة الحقيقية؟
النكسة في عيون الدولة
رغم المشاهد المؤلمة التي تناقلتها وكالات الأنباء عن حجم الخسائر التي خلفتها الهجمات العسكرية الإسرائيلية على مطارات وطائرات الجيش المصري في الـ5 من يونيو/حزيران، وعدد الضحايا والأسرى من الجنود المصريين الذين سقطوا في غمضة عين دون مقاومة تذكر، فإن الإنكار كان خطاب الدولة في التعامل مع تلك الواقعة.
المؤسسة العسكرية التي كانت تدير شؤون الدولة في ذلك الوقت ممثلة في شخص عبد الناصر ورفاقه من ضباط الجيش الذين سيطروا على كل دوائر الحكم في البلاد، كانت ترى فيما حدث انتكاسة وليست هزيمة، خطأ وليست خطيئة، بحسب الباحث المصري أحمد عابدين.
عابدين في مقال له أشار إلى أن أجهزة الدولة المصرية “لم تر فيما حدث هزيمة بالمعنى العسكري المتعارف عليه، وتم اعتماد لفظة “نكسة” كمعنى وحقيقة لما حدث، فهو “انتكاسة” للدولة وليس هزيمة، والنكسة معناها لغويًا: معاودة المرضِ بعد البُرْء، أو بُطْء وتوقُّف التقدُّم”.
وأضاف أن ما حدث بحسب الرؤية الرسمية كان “خطأ في الانحيازات والخيارات السياسية والعسكرية، وليست خطيئة وهزيمة تسببت فيها إدارة حكم وبنية نظام سياسي بالكامل، وهي – المؤسسة – لا ترى في نفسها وفي وضعها الداخلي قبل الهزيمة مسؤولية حقيقية عما حدث”.
تفاصيل اختيار كلمة “نكسة” تحديدًا دون غيرها وما تحمله من دلالات، ذكرها الكاتب محمد حسنين هيكل، في كتابه “الانفجار” الذي يسرد فيه خطاب التنحي وكواليسه، قائلًا: “استوقفني عبد الناصر وأنا أقرأ له مشروع الخطاب عند الجملة التي ورد فيها تعبير النكسة لأول مرة، وهي “لا نستطيع أن نخفي على أنفسنا أننا واجهنا نكسة خطيرة خلال الأيام الأخيرة”، وسألني: لماذا اخترت تعبير نكسة؟ وأضاف أنه مستريح مع الكلمة لكنه يريد أن يكون واثقًا من سلامة اختيارها، رد هيكل عليه قائلًا: “توقفت كثيرًا قبل أن أستقر عليها، كان أمامي أن أختار بينها وبين (صدمة) ووجدتها أقل من اللازم، و(هزيمة) ووجدتها أسوأ من اللازم، ثم (نكسة) وقد أحسست مثلك بأني مستريح معها”.
ويبرر هيكل اعتماده تلك الكلمة خصيصًا، مخاطبًا عبد الناصر: “لو أنني استعملت كلمة هزيمة، فذلك سوف يكون خطرًا لعدة أسباب، فهي تعني الاستسلام كما فعلت ألمانيا وإيطاليا واليابان في الحرب العالمية الثانية، كما أنها تؤثر على معنويات قوات ما تزال تشكيلاتها تقاتل في سيناء، وعلى ضفتي قناة السويس، فكيف يتأتى أن نقول لهم (هزيمة) ثم نطلب منهم أن يقفوا ويعطوا أرواحهم فداءً للوطن وهم يعلمون أنه الوقت الضائع؟ إذا كنا لا نريد الاستسلام فلا بد أن تترك مجالًا للرجل الذي سيأتي بعدك ليقدر الموقف ويحدد ما إذا كانت نكسة أو هزيمة أو كارثة”.
ساعد على تعزيز تلك الرؤية في ذلك الوقت غياب أدوات التواصل وسيطرة الدولة على المعلومة وفقدان الشفافية وخضوع الآلة الإعلامية لقبضة المؤسسة العسكرية، فكانت الرسالة الإعلامية تمر بمرحلة فلترة مسبقة على إدارة الشؤون المعنوية بالجيش قبل أن تخرج من الإذاعة في ماسبيرو أو مطابع الصحف في وسط البلد.
إنكار الهزيمة بهذا الشكل، كان سببًا رئيسيًا في الإبقاء على مرارتها حتى اليوم، فعبور أي أزمة لا بد أن يمر بمرحلتين، الأولى: الاعتراف بها والتعاطي معها وتحمل مسؤوليتها، بداية من قمة الهرم حتى أسفله، الثانية: وضع خطة ممنهجة لعلاج أسباب الأزمة ومحاولة تخطيها مع وضع أسس لتجنب تكرارها مستقبلًا.
لكن ما حدث من الدولة المصرية في التعامل مع النكسة كان نكسةً في حد ذاته، فلا اعتراف يذكر، ولا مسؤولية تم تحملها، ومن ثم لا علاج لها، وعليه ظلت تداعيات الأزمة حتى الساعة، المخطئ لا يُحاسب، والمقصر ربما يتم ترقيته، فالعقيدة العسكرية في معظمها لا تعترف بالخطأ، إذ ترى فيه إنقاصًا من شأنها وهو ما يجب ألا يكون.
التنحي.. بين التمثيل والإعداد المسبق
كان عبد الناصر ذكيًا في فهمه لعقلية المصريين المقيدة بسلاسل العاطفة والمشاعر، لذا التزم سياسة “الهجوم أفضل وسيلة للدفاع” في الهروب من مسؤولية الهزيمة، فبدلًا من المواجهة والمحاسبة وانتظار ردود الفعل السلبية، كانت إستراتيجية “الصدمة” حيث الإعلان عن التنحي، وهنا بحكم سيطرة المكنون العاطفي للشعب المصري كان الرفض لهذا القرار، فكان يتعامل قطاع كبير من الفقراء مع القائد من منطلق أبوي بحت.
فليس من المعلوم سياسيًا ولا المقبول منطقيًا، أن يعلن قائد تنحيته بعد هزيمة عسكرية نكراء، تلت دعاية إعلامية مكثفة تبشر بالنصر، وبدلًا من أن يخرج الجميع لانتقاده والمطالبة بمحاسبته، إذ بالجماهير تهتف باسمه ويطالبون ببقائه في منصبه كأنه فتح تل أبيب ولم يسلم القاهرة وسيناء للعدو.
الكاتب الصحفي المصري الراحل محمد علي إبراهيم، رئيس تحرير صحيفة الجمهورية المصرية الأسبق، كان قد تساءل في مقال سابق له عما إذا كان التنحي حدثًا حقيقيًا أم مجرد تمثيلية خدع بها عبد الناصر ورفاقه الشعب المصري للبقاء في الحكم؟ لافتًا إلى أن الناصريين حولوا خيبة النكسة إلى شيء آخر يحتفلون به سنويًا وهو رفض الشعب المصري ترك الرئيس للحكم والتمسك به قائدًا وزعيمًا ملهمًا.
إبراهيم في مقاله أشار إلى أن “تركيبة عبد الناصر السياسية والاجتماعية لم تكن تميل أبدًا إلى ترك السلطة طواعية كما حاول هو وكاتبه الأثير محمد حسنين هيكل ترويج وترسيخ هذا الإحساس للناس”، وتابع “لا أستطيع الجزم أن التنحي كان تمثيليةً متفق عليها مع أركان الحكم، لكن من المؤكد أنه كان تحركًا محسوبًا بدقة ومخططًا بحنكة واعتمد على معرفة شبه يقينية بردود فعل المصريين وعواطفهم الجياشة وتلاحمهم وقت الأزمات”.
وعن خروج المصريين للتمسك بناصر وما إذا كان هناك اتفاق مسبق مع الاتحاد الاشتراكي، أشار الكاتب أن لا أحد يجزم بإجابة محايدة ومحددة في هذا الأمر، لكنه ذهب إلى أن “الظن الغالب أن التنحي كان متفقًا عليه إلا أن المظاهرات بهتافاتها وزخمها كانت طبيعية، وما يؤكد هذا الاستنتاج أن المظاهرات تكررت مرة أخرى في الخرطوم والسودانيون يهتفون لعبد الناصر والملك الراحل العظيم فيصل رحمة الله عليه الذي تجاوز كل الخلافات مع ناصر ودعم مصر وجيشها بكل ما طلبته لتتمكن من بناء نفسها مرة أخرى”.
مشهد التأييد الشعبي للرئيس ومطالبته بالبقاء في الحكم، كشفه بصورة أكبر المخرج الراجل حسام الدين مصطفى، الذي أشار إلى أن الخروج بهذا الشكل كان متفقًا عليه بين النقابات وقوى المجتمع المدني والقوة الناعمة (فن ورياضة وإعلام) والاتحاد الاشتراكي آنذاك.
المخرج الشهير كشف في تصريحات سابقة له أن تعليمات جاءت لنقابة الممثلين بالاحتشاد من أجل دعم ناصر وإجباره على التراجع عن قرار التنحي، وهو الأمر الذي صدر لبقية النقابات والكيانات الأخرى، الأمر الذي دفع مصطفى إلى وصف ما حدث بـ”التمثيلية” المتفق عليها سلفًا.
ماذا لو تنحى؟
رغم مرور أكثر من نصف قرن على السجالات السنوية بين الأنصار والمعارضين لعبد الناصر إزاء تلك الواقعة التاريخية، فإن أحدًا لم يتطرق إلى السؤال الأبرز والأكثر أهمية: ماذا لو تنحى ناصر فعلًا عن الحكم ولم يخرج المصريون للمطالبة بعودته؟ كيف سيكون شكل الدولة المصرية لو تمت محاسبة الرئيس ورفاقه الجنرالات عن فضيحة يونيو/حزيران؟
الدبلوماسي المصري، السفير فوزي العشماوي، يستبق الإجابة عن تلك الأسئلة بقوله “بمناسبة 9 و10 من يونيو 1967، التي عاصرتها بل وخرجت فيها طفلًا واعيًا سياسيًا يعتبر نفسه ابن ثورة يوليو، فإن البعض يراها دليلًا على تمسك الشعب بقائده ورفضه للهزيمة، لكنني بعد خبرة الأيام والسنين أراها فوتت فرصة تاريخية لتأسيس مصر جديدة”.
ويضيف أن حزمة من المؤشرات هي التي قادت لتلك الهزيمة النكراء، أبرزها انغماس الجيش وقيادته في كل مناحي الحياة المدنية وهي ما أثرت سلبًا على جاهزية المؤسسة العسكرية وقدرتها على أداء واجباتها الحقيقية دفاعًا عن تراب الوطن وليس التغلغل في مفاصله السياسية.
هذا بخلاف سوء تقدير عبد الناصر وقياداته للموقف بحكم أنها جنرالات في المقام الأول وليس لديهم خبرات سياسية، فكان التقدير بأنه لا حرب رغم أن كل الشواهد كانت تذهب في هذا الاتجاه، تزامن ذلك مع لغة خطاب دعائية شعبوية كان الهدف منها تعزيز الشعبية على المستوى الداخلي بصرف النظر عن ردود الفعل الخارجية.
السفير المصري يعتبر أن مساءلة عبد الناصر عن تلك الهزيمة، وتقديم المتورطين فيها للمحاكمة، وإعلان ذلك على الملأ وأمام الشعب، مع طرح قضية الزعامة الأبدية للاستفتاء الجماهيري، كان سيغير وجه مصر حينها بشكل كبير، وعليه كانت الخريطة السياسية للمنطقة العربية تغيرت بصورة مختلفة تمامًا عما هي عليه اليوم.
المدقق للألفاظ التي استخدمها ناصر في خطاب التنحي لوصف ما حدث في 5 من يونيو/حزيران، يخرج بنتيجة واحدة، أنها لا اعتراف بالهزيمة مطلقًا
لو سقط صنم عبد الناصر وتقديس الجنرالات كنتيجة منطقية وعادلة لنكسة 1967، عبر محاكمة عادلة، لا تنظر لعدد النجوم وحجم السيوف والنسور فوق الأكتاف، لكان ذلك إيذانًا بوضع أول حجر في دعائم الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة، التي كان من المتوقع أن تنتقل عدواها للدول العربية الأخرى التي اتخذت النظام المصري نموذجًا في هذا الوقت.
غير أن المكابرة والقفز على الحقائق وتشويه التاريخ وتغذية العقل المجتمعي بشعارات مزيفة والاقتتال من أجل الاستمرار في السلطة، وضرب المدنية بالقاضية، والسيطرة على خريطة القوى الناعمة، كل ذلك ساعد نظام عبد الناصر في عبور خطيئته التي تحولت تدريجيًا إلى ساحة للتباهي والمديح والتعبير عن تمسك الشعب بقيادته.
المدقق للألفاظ التي استخدمها ناصر في خطاب التنحي لوصف ما حدث في 5 من يونيو/حزيران، يخرج بنتيجة واحدة، أنها لا اعتراف بالهزيمة مطلقًا، حيث كرر مصطلح “النكسة” 4 مرات كما تم الاتفاق مع هيكل، ومصطلح “أزمة” مرتين، ومصطلح “محنة” مرة واحدة، ومصطلح “مؤامرة” مرة واحدة، ومصطلح “ظروف عصيبة” مرة واحدة، وهي مصطلحات لا تتناسب وحجم الكارثة وقتها.
ورغم طي صفحة الحقبة الناصرية بوفاة صاحبها، فإن التجربة نفسها لا تزال باقية، إذ توارثتها المؤسسة العسكرية التي وضعت ضمن أولوياتها أن الحكم لا بد أن يكون عسكريًا أيًا كان الثمن، فكان الإرث الممتد من أنور السادات مرورًا بحسني مبارك وصولًا إلى عبد الفتاح السيسي.
وعليه تحول الحكم المدني في مصر إلى خط أحمر، وهو ما اتضح خلال العام الاستثنائي الذي خضعت فيه مصر لحكم غير عسكري، فقد جيش العسكر وأذرعهم في الداخل والخارج لإنهاء تلك الوضعية بأي ثمن، وقد كان، لتعود مصر مجددًا إلى أحضان أحفاد عبد الناصر مرة أخرى.