عندما تأسست النواة الأولى للحركة الإسلامية التونسية في مطلع السبعينات ، لم يكن أحد يتوقع بأن البلاد التي قطعت شوطاً في مجال التحديث والتي جعل منها الزعيم ” الحبيب بورقيبة ” نموذجاً لدولة عربية تتخذ من أوربا نموذجاً للتقدم وتجعل من الولايات المتحدة الأميركية حليفاً وسنداً ، ستصبح بعد أربعين عاماً من ذلك التاريخ بيد حكومة تقودها حركة النهضة التي حاربها النظام بشراسة ، وحاول الرئيس ” زين العابدين بن علي ” استئصالها طيلة فترات حكمه .
إنها دورة من دورات التاريخ التي لخصها القرآن في آية كريمة ” وتلك الأيام نداولها بين الناس ” ، لكن كيف كانت علاقة الإسلاميين بالسلطة في أول تجربة لهم مع دوائر الحكم ؟ وما هي الحصيلة الأولية التي أفضت إليها هذه التجربة ؟
النهضة لم تكن مهيأة
قبل الثورة ، لم يفكر الإسلاميون بمختلف تياراتهم ومشاربهم في شؤون الحكم ودوائره وتحدياته ، لقد كانوا مطاردين ، لا يسمح لهم بالحركة ولا بالوجود تحت أي عنوان أو غطاء ، وكانت حركة النهضة – باعتبارها العمود الفقري للإسلام الحركي في البلاد – تمر بأضعف مراحلها نتيجة المحاكمات المتتالية ، كما كانت كوادرها ملاحقة في الداخل والخارج ، ولهذا لم تتعد مطالبهم بعد الزلزال الذي أصابهم في العمق في مطلع التسعينات الدعوة إلى إطلاق سراح مساجينهم وتمكين عناصرهم المهجرة من العودة إلى البلاد ، كما استمرت المساعي الهادفة إلى فتح قنوات الحوار السري مع النظام إلى حدود أشهر قليلة من اندلاع الثورة التونسية ، وبالتالي ، فإن حركة النهضة بقيادتها وقواعدها لم تكن مهيأة إطلاقاً لإدارة الحكم في تونس ، ولم يكن ذلك وارداً في أجندتها ، ولا حتى مطروحاً في خيال أعضائها وأنصارها ، لا يعني ذلك أنها لم تكن تسعى إلى السلطة وأنها كانت تنتظر اللحظة المواتية لتحقيق ذلك الهدف ، غير أن ميزان القوى في السابق ليس في صالحها أو في صالح المعارضة ، ما دام نظام بن علي قوياً متماسكاً رغم توالي المؤشرات الدالة عن بدايات دخوله في أزمة هيكلية .
وكانت المفاجأة
عندما اندلعت الثورة ، كان الإسلاميون بعيدين عن إرهاصاتها الأولى ، ولم يلتحق بعض عناصرهم بالحراك الاحتجاجي إلا في الربع ساعة الأخير ، وعندما غادر بن علي السلطة : تنفست حركة النهضة الصعداء ، وانطلقت في مسعى سريع لجمع عناصرها وترميم صفوفها المبعثرة ، وتجاوز خلافاتها الداخلية ، وإعادة إحياء شبكاتها القديمة وخلاياها السرية ، وقد تمكنت الحركة في وقت قياسي من إعادة بناء هياكلها بشكل جعل منها أكبر حزب سياسي في تونس .
وبالرغم من ذلك : لم تكن الحركة تتوقع بأنها ستحصل على مليون وأربعة مئة ألف صوت ، و89 مقعداً بالمجلس التأسيسي ، وبناء عليه : وجدت الحركة نفسها بعد الإعلان عن النتائج مخيرة بين ملازمة الحذر في كيفية استثمار هذا الانتصار السياسي حتى لا تتورط في أعباء المرحلة الانتقالية وذلك بالدفع نحو قيام حكومة تكنوقراط ، أو الإسراع في استغلال هذا الفوز والدفع بالحزب نحو مرحلة جديدة من مساره .
تم تغليب السيناريو الثاني ، حيث سارعت قيادة الحركة في الإعلان عن ترشيح أمينها العام المهندس حمادي الجبالي لرئاسة الحكومة وتشكيلها ، وذلك بحجة أنها حصلت على أعلى الأصوات والمقاعد ، وهو ما قبلته المعارضة على مضض ، لأن المجلس المنتخب وظيفته الأساسية إعداد دستور ، وليس برلماناً عادياً .
لا تملك حركة النهضة الأغلبية داخل المجلس الوطني التأسيسي ، وبالتالي لم تكن قادرة على تشكيل حكومة بمفردها ، وهو ما جعلها تتجه نحو البحث عن شركاء في السلطة ، ومما يحسب للحركة أنها دعت منذ البداية إلى حكومة ائتلافية واسعة ، إلا أن معظم أطراف المعارضة العلمانية رفضت الاشتراك في حكومة تقودها ” النهضة ” وهو ما جعل الائتلاف الحاكم يقتصر على حزبين آخرين هما ” حزب المؤتمر من أجل الجمهورية ” الذي يقوده دمنصف المرزوقي ، وهو حزب ليبرالي ذو توجه قومي ، إلى جانب حزب ” التكتل من أجل العمل والحريات ” الذي يتزعمه د مصطفى بن جعفر ، وبذلك تشكلت أول حكومة ائتلافية في تاريخ البلاد التونسية بعد الاستقلال .
الترويكا تجربة فريدة .. ولكن
يعتبر الائتلاف الحاكم أهم تجربة يخوضها الإسلاميون في تونس بعد انتقالهم من المعارضة الى السلطة ، إذ ليس من اليسير أن يشترك حزب إسلامي مع آخرين في إدارة شؤون الدولة ، خاصة إذا كان الشركاء لهم مسارات مختلفة ، وينهلون من مرجعيات مغايرة ، لقد قلل ذلك من فرص انفراد حركة النهضة بالقرار ، وجعلها – سواء داخل الحكومة أو على صعيد هيئة التنسيق الثلاثية – مضطرة لمشاورة الحزبين الآخرين في كل المسائل والخطوات التي تريد القيام بها ، وحتى عندما تقدم على إجراءات أحادية، فإنها تفاجئ بانتقادات تكون حادة أحياناً من قبل حليفيها ، ولهذا تعددت الخلافات بين النهضة وحزبي المؤتمر والتكتل ، وفي أكثر من مناسبة هدد رئيس الجمهورية المؤقت أو رئيس المجلس الوطني التأسيسي بالاستقالة أو الانسحاب من الائتلاف بسبب اتساع رقعة الخلاف ، أو نتيجة شعورهما برغبة النهضويين في الانفراد بالقرار ، كما خاضت حركة النهضة معارك سياسية وأيديولوجية ضد أطراف عديدة من خارج السلطة دون تنسيق مع شريكيها ، وهو ما دفعهما الى التبرؤ من تلك المعارك ، بل وأيضاً الانخراط في توجيه النقد لها وتحميلها وحدها مسؤولية النتائج السلبية التي ترتبت عن تلك المعارك .
كذلك كشفت التجربة عن وجود تباينات عميقة بين حلفاء السلطة حول مسائل أساسية ، وهو ما جعلهم يقرون بأن تحالفهم ظرفي وينحصر فقط داخل الإطار الحكومي ، ولا يشمل مجالات أخرى وفي مقدمتها كتابة الدستور ، ولهذا تباينت مقترحات الأحزاب الثلاثة داخل المجلس التأسيسي حول عديد القضايا الجوهرية مثل الشريعة وطبيعة النظام السياسي والهوية ، كل ذلك أضعف من مبدأ التضامن داخل الحكومة الذي يعتبر من المبادئ الأساسية في بناء التحالفات والمحافظة عليها.
مخاوف من الرغبة في الهيمنة
بقدر ما أشرت مبادرة تشكيل الحكومة عن وجود توجه وفاقي لدى حركة النهضة كثمرة لتطور خطابها السياسي ودخولها في حوارات معمقة مع التيارات العلمانية قبل انهيار نظام بن علي ، إلا أنه في المقابل كشفت هذه التجربة عن رغبة جامحة لدى قيادتها في أن استثمار موازين القوى العددية التي مالت لصالحها بعد الانتخابات من أجل إدارة الحكم بشكل تهيمن فيه الحركة على معظم مؤسسات الدولة وقد ظهر ذلك من خلال أربعة مؤشرات:
- المؤشر الأول: حصول الحركة على القدر الأكبر من الحقائب الوزارية وفي مقدمتها وزارات السيادة ، حيث كان من نصيبها الخارجية والداخلية والعدل ، متخلية عن حقيبة الدفاع لشخصية مستقلة ، في إشارة إلى إبقاء المؤسسة العسكرية بعيداً عن المحاصصة الحزبية ، كما تسلمت الحركة وزارات عديدة لا تقل حساسية مثل : التنمية الجهوية والاستثمار والتعليم العالي والهجرة والصناعة والزراعة وحقوق الإنسان والعدالة الانتقالية ، وهو ما جعل المعارضة تصف الحكومة بكونها نهضوية .
- المؤشر الثاني: على وجود هذه الرغبة في مسك دواليب السلطة التنـفيذية هــو : دفاع حركة النهضة في وثيقة ” التنظيم الوقتي للسلط العمومية ” – التي أصبحت تعرف بـ ” الدستور الصغير ” – دافعت عن تعزيز صلاحيات رئيس الحكومة على حساب رئيس الدولة الذي لم تمنح له في البداية سوى صلاحيات محدودة ، وهو ما دفع بالمعارضة إلى الاحتجاج وممارسة الضغط ، وقد ترتبت عن ذلك مجموعة من الأزمات المتتالية بين رئيس الحكومة ورئيس الدولة ، وهو ما جعل تجربة الترويكا مهددة بالانهيار في أكثر من مناسبة بسبب الصراع على الصلاحيات واختلالها.
- المؤشر الثالث: يتعلق بالتعيينات التي طالت مختلف الأجهزة والمؤسسات الإدارية والسياسية والدبلوماسية ، وهو ما دفع بمعظم الأطراف الحزبية – بما في ذلك حليفي حركة النهضة في السلطة – إلى اتهامها بمحاولة الهيمنة على مفاصل الدولة ، جاء ذلك على لسان رئيس الجمهورية المؤقت ، وردده وزراء من حزب ” التكتل ” ، أما المعارضة فقد شنت حملة واسعة على الحركة ، وطالبت بضرورة وضع وزراء غير منتمين إلى أي لون سياسي على رأس وزارات السيادة ، خاصة الداخلية والعدل ، وذلك ضماناً لتنظيم انتخابات نزيهة.
- المؤشر الرابع: الذي أثار كثيراً من الجدل ، يخص ضخامة حجم الحكومة التي بلغ عدد أعضائها بين وزير وكاتب ومستشار أكثر من سبعين حقيبة ، وهو ما أثقل ميزانية الدولة دون أن يرتق بأداء الحكومة ، كما فتح ذلك المجال لاتهام حركة النهضة بانتهاج أسلوب ترضية أعضائها على حساب المصلحة العامة ، وقد فوجئت قيادة الحركة بطلب رئيس الجمهورية بتعويض الحكومة الحالية بحكومة مصغرة ، تتشكل من كفاءات ولا تخضع للمحاصصة الحزبية ، وهو ما دفع بالنهضة إلى التهديد بسحب الثقة منه واستبداله برئيس آخر ، وكاد بذلك أن ينهار الائتلاف الحاكم.
مشكلات عويصة وخبرة محدودة
يتعلق الجانب الآخر الذي تجلى في ممارسة الإسلاميين للحكم بمدى قدرتهم على معالجة المشكلات الحادة التي تفجرت بعد الثورة ، وإنصافاً لحركة النهضة وكوادرها : لابد من الإشارة إلى أن مرحلة حكم بن علي قد خلفت وراءها كماً هائلاً من المشكلات المعقدة ، حيث اكتشف التونسيون أن النظام السابق قد زور الحقائق والأرقام لتقديم صورة مغلوطة عن الأوضاع ، كما أن هذه التركة الثقيلة الموروثة لا يمكن معالجتها وتصفيتها في وقت وجيز ، وإنما تتطلب فترة زمنية لا تقل عن عشر سنوات إلى جانب توفير موارد مالية هامة .
لكن مع ذلك ، فإن حجم المشكلات ليس عاملاً كافياً لتعليل الأداء الضعيف للحكومة ، وهو ما يفسر تصاعد الاحتجاجات الاجتماعية وتواتر الاشتباكات السياسية بشكل جعل الأوضاع العامة بالبلاد غير مستقرة ، ولا يعني ذلك أن السنة الأولى من هذه الحكومة التي تقودها حركة النهضة قد خلت من إنجازات ، ولكن المسافة بين ما تحقق على أرض الواقع وبين ما كان بالإمكان تحقيقه لا تزال شاسعة ، فالحكومة أعادت تنشيط الدورة الاقتصادية مما جعل نسبة النمو تصل إلى حدود 3,3 بالمائة بعد أن كانت 2 تحت الصفر ، كما تحسنت الأوضاع الأمنية قليلاً مقارنة بما كان عليه الأمر خلال سنة 2011 ، واجتهدت الحكومة لتطوير علاقات تونس مع معظم الدول الغربية والعربية ، ومحاولة جلب الاستثمار الخارجي ، كما عملت على توفير نسبة من مواطن الشغل ، لكن في المقابل تعثرت الحكومة في معالجة ملفات عديدة من بينها :
الملف الاقتصادي الذي يعتبر من أهم التحديات التي تواجه كل الثورات العربية ، كما أنه هو الذي سيحدد مصيرها ، قبل الثورة ، لم يكن لحركة النهضة برنامج اقتصادي ، وإنما كان لها خطاب احتجاجي ، يطغى عليه انتقاد المرحلة السابقة ، وترديد جملة من الشعارات العامة ، التي تلتق فيها الحركة مع بقية أحزاب المعارضة .
وقبل انتخابات المجلس التأسيسي بأشهر قليلة ، شكلت الحركة مجموعة من اللجان التي تولت في فترة وجيزة إعداد برنامج سياسي تضمن 365 وعداً ، ومن بين هذا الكم الهائل من الوعود ، بلورت مجموعة من الخبراء ” رؤية اقتصادية ” عاجلة ، أثارت اهتمام الرأي العام ، ووجه لها المختصون عديد الانتقادات والملاحظات الأساسية ، لكن المهم، أن الحركة بعد نجاحها في الانتخابات ، وتوليها قيادة الحكومة ، وجدت نفسها تنفذ سياسة لا علاقة لها بالاختيارات التي تضمنها برنامجها السياسي ، لقد التزمت بتنفيذ الميزانية التي وضعتها الحكومة السابقة ، وحتى الميزانية التكميلية التي أضافتها حكومة الترويكا لم تستجب لمطالب معظم التونسيين، ولم ترتق إلى مستوى احتياجات الفقراء والجهات المحرومة.
ضعف الفكر الاقتصادي
كشفت ممارسة السلطة عن وجود قصور في الفكر الاقتصادي لدى حركة النهضة، وهو في الحقيقة ليس بالأمر المفاجئ ، حيث نادراً ما أظهر الإسلاميون إبداعاً في هذا المجال ، نظراً لانشغالهم التاريخي بالقضايا العقائدية والتربوية ، واعتبارها الأساس والمدخل للإصلاح ، وبالرغم من أن حركة النهضة تجاوزت في أطروحاتها المنظومة الإخوانية الكلاسيكية ، إلا أن انشغالها بالصراع مع النظام المستبد جعلها توجه كل طاقاتها في معركة البقاء التنظيمي والسياسي ، ولم توفر الحد الأدنى من الجهد للبحث عن بدائل اقتصادية واجتماعية رغم نضالها الطويل من أجل الوصول إلى السلطة .
لا يعني ذلك خلو ساحات الإسلام الحركي من حاملي شهادات عليا في العلوم الاقتصادية ، ولكن هؤلاء لم تتوفر لهم الفرصة لاختبار ما تلقوه من مفاهيم حول ” الاقتصاد الاسلامي ” الذي اتخذه الإسلاميون والقريبون منهم شعاراً كجزء لا يتجزأ من الاعتقاد بشمولية الإسلام ، كما أن المعارك الصاخبة التي خاضها الإسلاميون عموماً ضد الشيوعيين والحركات اليسارية بشكل عام جعلتهم أميل في تناولهم للمسألة الاقتصادية إلى تبني الرؤية الليبرالية ، رغم إيمانهم بمبدأ العدالة الاجتماعية ، ولا شك في أن هذه المسألة قد ساهمت في قبول البنك الدولي وغيره من مؤسسات التمويل العالمية دعم الحكومات ذات التوجه الإسلامي التي قامت بعد الثورات العربية .
ومما زاد في إرباك الحكومة التي تقودها النهضة أنها وجدت نفسها بين فكي كماشة ، لقد تعرضت من جهة إلى ضغوط شديدة من شرائح واسعة في المجتمع تطالب بتحسين أوضاعها الاجتماعية ، خاصة توفير الشغل لمئات الآلاف من العاطلين ، إلى جانب احتجاج المحافظات المهمشة التي تفتقر للبنية التحتية والخدمات الأساسية ، وفي المقابل عانت الحكومة من قلة الموارد وضعف المساعدات الخارجية ، حيث كانت الوعود كثيرة لم يعقبها التزام جدي من قبل الحكومات سواء العربية أو الغربية ، إذ تزامنت الثورات العربية مع دخول الاقتصاد العالمي ، وبالأخص الأوروبي في أزمة هيكلية ، يضاف الى ذلك الحذر الذي لازم مواقف معظم هذه الحكومات العربية والغربية تجاه صعود الإسلاميين الى الحكم سواء في تونس أو في مصر ، وذلك رغم الترحيب الظاهري بالثورات العربية .
كل هذه المعطيات جعل الحكومة تلجأ من جهة الى التداين لتغطية العجز في الميزانية دون أن تتجاوز الخطوط الحمراء ، وأن تتخذ من جهة أخرى عدداً من الإجراءات غير الشعبية ، وهو ما أدى على سبيل المثال إلى ارتفاع معدلات غلاء المعيشة ، وزاد في حدة الاحتقان الاجتماعي ، خاصة في المناطق الفقيرة والمحرومة التي تمردت في مناسبات عديدة على السلطة المركزية ، بدءً من مناطق الشمال الغربي للبلاد وصولاً إلى مدينة سيدي بوزيد التي انطلقت منها شرارة الثورة ، وهكذا وجدت حركة النهضة نفسها في صدام مباشر مع فئات واسعة من الفقراء وأبناء الطبقة الوسطى الذين صوت الكثير منهم لمرشحيها خلال انتخابات المجلس التأسيسي ، وهو ما يفسر تراجع نسبة الرضا عن الحكومة من 70 بالمائة في الثلاثية الأولى لينخفض إلى حدود 30,9 بالمائة مع اقتراب نهاية السنة الأولى من حكم الترويكا.
الحكومة وتناقضات النهضة
عامل آخر انعكس سلباً على أداء الحكومة ، ويتمثل في التناقضات التي تشق حركة النهضة ، هذه التناقضات التي كانت موجودة قبل الثورة ، لكنها طفت على السطح بعد أن تحولت الحركة إلى حزب حاكم ، لقد كان ذلك أمراً طبيعياً ومتوقعاً مرت به كل الأحزاب والحركات التي انتقلت من المعارضة إلى السلطة ، هذا الانتقال ينجر عنه في الغالب التحاق أعداد كبيرة من المنتسبين الجدد الباحثين عن المواقع والمكاسب ، والمستعدين لخدمة الحكام الجدد مقابل التمتع بالحظوة والوجاهة ، لكن إلى جانب التوسع العددي القائم على تغليب الكم على النوع تسهم الخلافات السياسية والفكرية والتنظيمية والشخصية والزعاماتية في تغذية حالة الإرباك الحزبي الذي ينعكس بدورها على أجهزة الدولة والأداء الحكومي .
لا ينكر النهضويون وجود اختلافات داخلية، مع تمسكهم بوحدتهم ، لكنهم يصرون على القول بأن ” الصراع الداخلي هو صراع أفكار وبرامج وتنوع وليس صراع أشخاص ” ، ويعلل ذلك رئيس الحركة الشيخ راشد الغنوشي بقوله ” حركة النهضة كبيرة وواسعة ، لا يمكن أن تستمر الا بأمرين :
أولاً : أن يكون فيها مجال للرأي واسع جداً يتحمل وجود أمزجة متعددة ورؤى كثيرة تتحاور وتتناقض حتى تتصارع داخلها ، وثانياً : وجود أرضية فكرية مشتركة تتمثل في أن الإسلام هو سقف للجميع ، ماذا نطبق ؟ هذه مسائل فقهية متعلقة بالواقع وما يطيق هذا الواقع ” ، ويضيف الغنوشي : ” لا أحد في النهضة يقر العنف سبيلاً للوصول إلى السلطة أو للبقاء فيها ، بحيث تجد من هو قريب لليبرالية ومن هو قريب للسلفية ” .
لا شك في ان هذه الخلافات تعكس حالة تنوع يمكن اعتبارها مظهر ثراء ، كما أنها تبرز وجود قدر لا بأس به من الديمقراطية الداخلية خلافاً لحركة الاخوان المسلمين التي ضيقت كثيراً من حرية الأعضاء المختلفين مع القيادة ، وهو ما يفسر اضطرار الكثير منهم – خاصة من الشباب – إلى هجرها والخروج عليها ، لكن مع ذلك فإن بعض هذه التباينات في الرؤى والقضايا الاستراتيجية قد تؤثر سلبياً على سياسات السلطة وأداء الحكومة ، وقد تعددت في الحالة التونسية مظاهر التداخل والتشابك بين مشكلات التنظيم ومشكلات الدولة ، وهو ما قيد حركة الحكومة ، على الأقل في بعض المسائل ، من بينها تعيين الوزراء أو استبدالهم ، أو في كيفية معالجة بعض الملفات المعقدة ، مثل : ملف إدارة العلاقة بالسلفيين ، وملف الفساد ، وملف التعويضات لضحايا المرحلة السابقة من الإسلاميين ، كما أن هذا التداخل وضع حركة النهضة في اختبار صعب وذلك لأول مرة في تاريخها السياسي ، فالحزب الحاكم سابقاً تمكن منذ استلامه السلطة أن يهيمن على مؤسسات الدولة بشكل أدى إلى حالة تماه وتطابق بين الحزب والدولة ، مما نتج عنه الاستبداد المطلق الذي عاشته البلاد طيلة نصف قرن ، ولهذا كان في مقدمة المطالب للقوى المعارضة طيلة تلك المرحلة فصل الحزب الحاكم عن الدولة .
لا يعني هذا أن حركة النهضة قد أعادت استنساخ التجربة السابقة ، إذ هناك فروق هامة بين المرحلتين ، من بينها أن الإسلاميين لهم شركاء في الحكم ، لكن مع ذلك فإن احتمال الانزلاق في نفس المسار يبقى قائماً ، فالسلطة تغري أصحابها وتدفع بالأحزاب القوية نحو تركيز أعضائها والموالين لها في جميع المواقع أو أغلبها وذلك لضمان الولاء وتفويت الفرصة أمام الخصوم وتأمين موازين القوى لصالحها ، ولهذا السبب تعالت احتجاجات المعارضين وكذلك المتحالفين على ما اعتبروه نزوعاً من قبل حركة النهضة نحو الانفراد بتعيين المرتبطين بها في كل المواقع الحساسة بهدف وضع يدها على مفاصل الدولة ، أما الحركة فقد اعتبرت ذلك من حقها ، وهو جزء من تقاليد الأنظمة الديمقراطية ، حيث يتولى كل حزب ينجح في الانتخابات إلى استقدام سياسييه وكوادره الإدارية ووضعهم على رأس المواقع المرتبطة بالسلطة التنفيذية ، كما تضيف حركة النهضة بأنها لن تستطيع تنفيذ سياساتها بالاعتماد على أجهزة محكومة برجال المرحلة الماضية .
في مقابل ذلك : يقدم المعارضون بعض الحجج ذات الوجاهة ، من بينها قولهم بأن البلاد لا تزال تمر بمرحلة انتقالية ، وهو ما يقتضي حماية المؤسسات من هزات قوية عبر تغييرات ارتجالية وغير مدروسة ، كما يطالب هؤلاء بضرورة الاعتماد على مبدأ الكفاءة وليس منهج الولاء .
بين هذا وذاك يتدخل العامل الأيديولوجي ليفسر جانباً هاماً من الصورة ، فالشريط الذي تم تسريبه على المواقع الاجتماعية والذي يحتوي على جزء من جلسة خاصة جمعت رئيس حركة النهضة وبعض السلفيين ، حاول الشيخ راشد الغنوشي إقناع هؤلاء بضرورة الصبر وتجنب العنف والتسرع ، قائلاً لهم بأن حركة النهضة – رغم وجودها في السلطة – إلا أنها لا تتحكم في مؤسسات الدولة ، حيث لا يزال العلمانيون حسب اعتقاده يتحكمون في الجيش والأمن والإدارة والإعلام ، وبقطع النظر عن الملابسات الخاصة بهذا الشريط ، إلا أنه فتح باب التأويل أمام القول بأن حركة النهضة – أو على الأقل طرفاً هاماً من قيادتها – يعمل على ” أسلمة ” الدولة من خلال تسليم مفاصلها إلى أبناء الحركة ، أو إسلاميين يوثق في ولائهم الأيديولوجي والتنظيمي ، وهي المسألة الأكثر إشكالاً في المشروع الحركي الإسلامي.
الاستقطاب الأيديولوجي وتعدد جبهات الصراع
البعد الآخر من هذا المشهد يتعلق بعودة الاستقطاب الأيديولوجي الذي يكاد يهيمن على شؤون الدولة والفضاء العام ، هذا الاستقطاب ليس وليد اللحظة ، وإنما تعود جذوره إلى ثمانينات القرن الماضي ، حينما شهدت الجامعة التونسية ولادة التيار الإسلامي الطلابي الذي اصطدم منذ اللحظة الأولى باليسار الماركسي الذي كانت تهيمن عليه المجموعات الراديكالية ، وقد استمر ذلك الصراع فترة طويلة ، وزاد حدة وعمقاً عندما تورطت بعض هذه الأطراف في تأييد قمع الإسلاميين مع مطلع التسعينات ، لكن خلال المواجهة مع نظام بن علي : حصل تقارب لافت للنظر بين حركة النهضة وبين عدد من الأطراف السياسية بما في ذلك حزب العمال الشيوعي التونسي الذي كان في صراع طويل مع الإسلاميين ، وقد توج ذلك التقارب بتشكيل هيئة تنسيق مشتركة أدارت التحالف الذي تأسس تحت عنوان حركة 18 أكتوبر ، وقد ظن الكثيرون بأن الصراع الاسلامي العلماني مرشح للتراجع ، غير أنه بعد أشهر قليلة من الثورة انتكست العلاقة بين الطرفين بشكل تراجيدي ، ورغم التحالف الذي أقامته حركة النهضة مع حزبين علمانيين والذي كان من بين أهدافه تجاوز منطق الصراع الأيديولوجي الثنائي العلماني الإسلامي ، إلا أن المواجهة – خاصة بين عموم الإسلاميين واليسار – سرعان ما هيمنت من جديد على المناخ العام ، وعاد خصوم الأمس ليستأنفوا معاركهم الأيديولوجية القديمة ، رغم اختلاف الأوضاع والتحديات .
هذا التناقض الحاد بين النهضة واليسار ، والذي قد يتسع أحياناً ليشمل شرائح أوسع من النخب التي توصف عادة بالعلمانية : أوقـع الحركة في سـلسـلة من الصراعات السياسية والأيديولوجية ، وجعلها – في ظرف وجيز ودقيق – تخوض معارك ضد جبهات متعددة ، فبعد تشكيل حكومة الترويكا بفترة وجيزة تم تبادل إطلاق النار مع معظم مكونات المعارضة التي تم وصفها بجماعات ” صفر فاصل ” أو ” جرحى الانتخابات ” ، وهو ما جعل المشهد السياسي الانتقالي يصبح منذ البداية محكوماً بثنائية أخرى قائمة على أغلبية واثقة من نفسها وبين أقلية سياسية مطعون في ولائها للشرعية .
كما امتدت ساحة الاشتباك لتشمل أيضاً الإعلاميين الذين نفذوا إضراباً هو الأول من نوعه في تاريخ البلاد احتجاجاً على ما اعتبروه محاولة من الحكومة – وتحديداً حركة النهضة – للهيمنة على الإعلام ، كما اتسعت رقعة الاشتباك لتضم عدداً واسعا من المثقفين والعديد من منظمات المجتمع المدني ثم القضاة وجانب هام من رجال الأعمال الذين ارتبطوا بالنظام السابق ، كما تأزمت العلاقة مع الاتحاد العام التونسي للشغل الذي يمثل أكبر تنظيم نقابي في تونس ، إلى درجة بلغت حد التهديد بشن إضراب عام كاد أن ينفذ على إثر اعتداء على النقابيين واقتحام المقر المركزي للاتحاد لولا التوصل إلى تسوية سياسية في اللحظات الأخيرة .
لقد هيمنت على المرحلة الانتقالية الثانية – بقيادة حركة النهضة – أزمة ثقة حادة بين معظم الأطراف ، وساد اعتقاد لدى حكومة الترويكا بأن هناك مؤامرة تستهدف الإطاحة بالائتلاف الحاكم والعمل على تعجيز الحكومة ومنعها من إنجاز برنامجها ، وتكثف في هذا السياق الحديث عن قوى الثورة المضادة ليشمل إلى جانب بقايا النظام السابق وسائل الإعلام وقوى أقصى اليسار وجزء من النقابيين والحقوقيين وذلك بدعم من جهات أجنبية فرنسية.
بسبب كل هذه المعارك الصاخبة ومتعددة الأطراف : اتسمت هذه المرحلة بالاضطراب الشديد وعدم الاستقرار الاجتماعي والسياسي ، وهو ما جعل عموم التونسيين يعيشون حالة قلق عالية الوتيرة ، خاصة في غياب خارطة طريق واضحة بسبب تأخر صياغة مشروع الدستور ، وعدم تحديد مواعيد ثابتة ونهائية لتنظيم الانتخابات البرلمانية والرئاسية إلا بعد ضغوط سياسية شديدة .
الخلاصة
في ضوء هذا الاستعراض الموجز لأبرز الجوانب المتعلقة بهذه الحقبة الصعبة من مسار الثورة التونسية ، والتي تتولى حركة النهضة قيادتها ضمن ائتلاف ثلاثي، يمكن تسجيل الملاحظات التالية :
- تعتبر سنة واحدة غير كافية لتقييم أداء تجربة حركة النهضة في السلطة ، وبالرغم من أنه قد جرت العادة بالشروع في قياس أداء الحكومات في البلدان الديمقراطية بعد مرور 100 يوم من انطلاق أعمالها ، إلا أن الظرف الاستثنائي الذي تمر به تونس يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار عند الحكم على هذه التجربة .
- إن حجم التركة الموروثة عن مرحلة الدكتاتورية والتي زادتها تعقيداً تداعيات الثورة وسقوط النظام السابق، قد أسهما بشكل واضح في إنهاك الحكومة وتشتيت قواها وبعثرة جهودها ، لقد نجح بن علي في تقديم صورة مغلوطة عن الوضع الاقتصادي والاجتماعي تختلف إلى حد كبير عن الحقيقة التي اكتشفها التونسيون بعد فراره ، ولهذا سيكون من الصعب إعادة البناء في وقت قصير ، سواء حكم الإسلاميون أو غيرهم .
- بذلت الحكومة جهوداً واضحة في عديد القطاعات ، غير أن المحصلة كانت مع نهاية سنتها الأولى ضعيفة ودون انتظار التونسيين ، الحركة لدى الرأي العام قد تضررت بشكل واضح ، وهو ما عكسته عمليات سبر الآراء التي توقع بعضها أن الحركة قد تخسر في الانتخابات القادمة حوالي الربع من قاعدتها الانتخابية .
- يأتي عامل عدم الخبرة في مقدمة العوامل التي تفسر تعثر نشاط الحكومة وضعف أدائها ، وهو ما كان له تداعياته السلبية على رصيد حركة النهضة النضالي والشعبي ، والخبرة في هذا المجال لا تقاس أساساً بالشهادات الجامعية ، وانما في قدرة المسؤول السياسي على معالجة المشكلات وإشراك الآخرين في تذليل الصعوبات ، كما يعتبر العمق الثقافي والقدرة على الإقناع والتواصل مع المواطنين من بين شروط نجاح القادة ، خاصة في المراحل الانتقالية التي تبحث خلالها الجماهير عن شخصيات كارزمائية تجمع ولا تفرق ، وتعيد الأمل في المستقبل وتؤسس للمصير المشترك .
- أضفت المشاركة في السلطة على خطاب حركة النهضة الكثير من النسبية وجعلها أكثر واقعية ، إلى درجة أن خصوصيتها الدينية كادت أن تختفي نهائياً ، ولم يعد يميزها عن بقية الأحزاب الأخرى إلا بعض الشعارات وعدد من المسائل المحدودة ، وهو ما دفع بالتيارات السلفية إلى اتهامها بكونها قد تخلت عن ” المشروع الإسلامي ” مقابل ترضية خصومها السياسيين وكذلك الجهات الغربية ، ولا شك في أن الحركة وجدت نفسها مدعوة إلى مراعاة الأشواط الهامة التي قطعها المجتمع التونسي في مجال التحديث ، إلى جانب الأخذ بعين الاعتبار الإطار الدولي الضاغط ، بحكم قرب تونس من أوربا ، وارتباطها اقتصادياً وثقافياً بفرنسا وبالاتحاد الأوروبي ، إلى جانب الدور الأساس للولايات المتحدة الأميركية في تونس وفي كامل المنطقة ، كل هذه الجوانب الجيوسياسية لم يكن بإمكان قادة الحركة أن يتجاهلوها أو يقللوا من أهميتها ، ولهذا وجدت النهضة نفسها تتجاذبها تيارات مختلفة ، فالبعض يذكرها بهويتها الدينية التي كانت في البداية مبرر وجودها ، وفي المقابل تيار آخر يدفع بها نحو الاستجابة لمقومات اللعبة الاقليمية والدولية ، وذلك بالتمسك بخطاب سياسي معتدل وواقعي .
- أكدت الحالة التونسية أن ممارسة السلطة – خاصة في المراحل الانتقالية الصعبة – يستهلك بسرعة الرصيد الرمزي للحكام الجدد ، ويجعل شعبيتهم مهددة بالتآكل والتراجع ، نتيجة عدم القدرة على معالجة المشكلات ، ففي آخر استطلاع للرأي حول رصيد الثقة في صورة تنظيم انتخابات تم نشر نتائجه قبل نهاية سنة 2012 : كشف عن انتكاسة ملحوظة لرموز أحزاب الائتلاف الحاكم ، وخاصة الشخصيات القيادية لحركة النهضة ، فالسيد حمادي الجبالي رئيس الحكومة وجد نفسه في المرتبة الرابعة بنسبة 3,6 بالمائة ، أما الشيخ راشد الغنوشي فقد احتل المرتبة السادسة بنسبة 3،4 بالمائة ، وما حصل لرموز حركة النهضة تعرض له أيضاً الرئيس المؤقت منصف المرزوقي الذي تراجعت شعبيته إلى النصف مع نهاية السنة الأولى من الحكم ، وكذلك الشأن بالنسبة للحليف الثالث د. ابن جعفر رئيس المجلس التأسيسي ورئيس حزب التكتل من أجل العمل والحريات.
وقد سبق لرئيس حركة النهضة أن أقر في تصريح له لصحيفة الحياة بأن السلطة “عامل تهرئة ، وهناك فرق بين من يبشر بالمثل ومن يمارسها ، هناك فرق بين من يطلب منه إلقاء خطاب فيه تنكيت ، وبين من هو مطلوب منه أن يوفر الشغل للناس وأن يوفر الغذاء والأمن والدواء “
المصدر: مركز صناعة الفكر للدراسات والأبحاث