لطالما احتلت مدينة القدس مكانة بارزة في قلوب الشعب التركي، وقد انعكس ذلك على أدبهم قديمًا وحديثًا، فمنذ أن دخلت تحت حكم الدولة العثمانية على يد يافوز سلطان سليم في 1516 وهي تشغل حيزًا بين سطور الأدب والشعر لقيمتها الروحانية وباعتبارها مكانًا يرمز للطمأنينة، أما في الأدب الحديث فترتبط القدس ارتباطًا وثيقًا بالقضية الفلسطينية وتذكر باعتبارها مدينةً صامدةً ومقاوِمةً رغم ما تعانيه من ألم وقهر بسبب الاحتلال.
القدس في الأدب الكلاسيكي
تناول العديد من شعراء الأدب الديواني – وهو واحد من أقدم تيارات الأدب في الثقافة التركية الذي ظهر في القرن الحادي عشر واستمر حتى القرن التاسع عشر – مدينة القدس من ناحية دينية باعتبارها تضم المسجد الأقصى كأولى القبلتين ومكان الإسراء والمعراج، ومن ناحية أخرى استخدمت في شعر الغزل للتشبيه بها.
يتحدث الشاعر والإمام سليمان شلبي (1351-1422) عن مدينة القدس كمحل لحادثة الإسراء والمعراج في منظومته الشعرية “وسيلة النجاة” التي كتبها عام 1409، متناولًا فيها سيرة النبي محمد:
“في طرفة عين
جاء سلطان الخلق
ووطأت قدماه القدس”
ويقول الشاعر رافدي في القرن السادس عشر:
“كنت تتضرع إلى الله،
كي تصلي هناك
فأخذك الله في نزهة إلى القدس”.
ويذكر الشاعر المعروف ذاتي (1471-1546) القدس في تلك الليلة أيضًا بقوله:
“في ليلة الإسراء
أصبحت إمامًا لجميع الأنبياء
وفي القدس، اصطفوا خلفك للصلاة”.
لم ترد القدس في أدب الرحلات على لسان أوليا شلبي فقط، فقد تحدث أيضًا نابي وهو واحد من أهم شعراء القرن السابع عشر في كتاب رحلاته “تحفة الحرمين” عن القدس
أما في الغزل، فيقول السلطان سليمان القانوني (1494-1566) الذي كان واحدًا من أهم شعراء غزل الأدب الديواني ويعرف باسم “محبي”:
“حاجبك كأنه المسجد الأقصى
ووجهك الكعبة”.
ويقول الشاعر رمضان بهشتي في القرن السادس عشر في وصف المحبوب:
“يا قدس يا قِبلة،
حاجبيك كأنهما محراب الأقصى
يرنو إليه كل إمام”.
لم يتوقف ذكر القدس في الأدب التركي القديم من الناحية الدينية أو في الغزل فقط، بل احتلت أيضًا مكانًا مهمًا في أدب الرحلات، فقد أفرد لها الأديب الرحالة أوليا شلبي (1611-1682) الذي قضى أربعين عامًا مرتحًلا في كل أنحاء الأراضي التي حكمتها الدولة من العثمانية وما جاورها من بلاد ثم توفي بالقاهرة، مجلدًا كاملًا في أثره الشهير “سياحت نامه” المكون من عشر مجلدات ويحكي فيه عن تلك البلاد التي زارها.
في هذا المجلد يرصد شلبي مدينة القدس التي زارها في 1671 ويذكر ملاحظاته الشخصية عنها، ويتحدث عن أهميتها بالنسبة للدولة العثمانية، كما أشار إلى المسجد الأقصى باعتباره من أهم ثلاثة مساجد في العالم يجب زيارتها، وبعد حديثه عن المسجد يحكي كيف دخل السلطان يافوز سليم القدس بلغة أدبية شديدة الحماس.
لم ترد القدس في أدب الرحلات على لسان أوليا شلبي فقط، فقد تحدث أيضًا نابي وهو واحد من أهم شعراء القرن السابع عشر في كتاب رحلاته “تحفة الحرمين” عن القدس حين مر بها في طريقه إلى الحج وأقام بها ثلاثة أيام.
القدس في الأدب الحديث
في بدايات القرن العشرين وحتى عام 1960 لم تشغل مدينة القدس حيزًا في الأدب التركي كما من قبل، ويعتقد أن السبب هو بعض المخاوف الأيديولوجية، وما حدث في بداية النظام الجمهوري من قطيعة للثقافة العربية وكل ما يخصها.
في نهايات الستينيات ومع استمرار الصراع العربي الإسرائيلي، وظهور عدد من الشعراء والأدباء الأتراك من ذوي النزعة الإسلامية، بدأت القدس تسترجع مكانتها في الأدب التركي مجددًا، لكن هذه المرة ليست من الناحية الروحانية فقط مثلما في الأدب القديم، بل باعتبارها المدينة المقدسة المحتلة، رمز الثورة والمقاومة.
وتعد المجلات التي أسسها شعراء مثل نجيب فاضل وسزاى قراقوتش ونوري باكديل، واحدة من أهم العناصر التي ساهمت في إحياء مدينة القدس مرة أخرى في الأدب التركي، لما أفردته من صفحات تضم أشعارًا وكتابات عن القضية الفلسطينية بشكل عام ومدينة القدس بشكل خاص، فأول شعر يتحدث عن القدس في الأدب الحديث كان في 1969 حين تم إحراق المسجد الأقصى على يد الصهاينة، ونشر في عدد أكتوبر/تشرين الأول من نفس العام بمجلة البعث التركية.
كتب الشاعر والمفكر سزاي قراقوتش الذي ولد عام 1933 هذه القصيدة التي تسمى “أيها اليهودي”، ويقول فيها:
“أيها اليهودي! حرقت المسجد الأقصى
بالأحرى اعتقدت أنك حرقته، أيها اليهودي!
ما حرقته هو مجرد ظل المسجد الأقصى الذي بالسماء، أيها اليهودي!
ليس روح المسجد الأقصى هو الذي احترق،
فقط، جسد من حجر وشجر وثرى، أيها اليهودي!”.
في عام 1979 كتب سزاي قراقوتش قصيدة “ساعة القدر” التي تتكون من 13 جزءًا، ويتناول فيها الجزء الأول مدينة القدس، ومن الجدير بالذكر أنها نشرت بعد كتابتها بعشر سنوات في مجلة البعث بعدد يوليو/تموز عام 1989، ويقول فيها:
مدينة القدس،
مدينة بنيت في السماء ثم أنزلت الأرض
إنها مدينة الرب وجميع الإنسانية
مدينة تخفي تحتها فوهة بركان!
الآن يتحطم شيء ثقيل في قلبي
ماذا تقول لي القدس الآن، ماذا تقول:
الم تكن ستحضر قنديلاً من دمشق،
وتعلقه على قبر النبي سليمان؟
ليضيء الأرواح،
ويحول العفريت إلى إنسان
ليطفئ عين الوحش،
ويحول العفريت إلى إنسان”.
كان يرى سزاي أن القدس تحمل أهمية من الناحية الجيوسياسية إلى جانب أهميتها الروحانية، كما يقول في مقالة بعنوان “فاجعة القدس “من يجلس على عرش القدس فقد جلس في قلب الشرق الأوسط، ما يعني أنه بدأ التسلل للمنطقة من أهم وأجمل مكان”.
أما الشاعر المعروف جاهد ظريف أوغلو (1940-1987) فيقول في قصيدته “الوقت الضيق” التي يدين فيها تجاهل المسلمين ما يحدث في العالم العربي:
“دموع بيروت تُزرف في القدس..
أما المسلمون فكأنهم في عالم آخر،
لا يمكن الوصول إليه”.
وقد اشتهر الباحث والكاتب محمد عاكف إنان (1940-2000) بقصيدته “المسجد الأقصى” التي نشرت عام 1979، ويقول فيها:
“رأيت المسجد الأقصى في حلمي،
كان يبكي كما الطفل،
وكأن تحته نهر هادر..
ذهبت ووضعت جبيني على عتبته.
رأيت المسجد الأقصى في حلمي،
وقال لي أبلغ المسلمين السلام
قال لي، لا أتحمل تلك الفرقة”
“أحمل القدس كساعة يدٍ”.
ولعل أكثر من كتب عن القدس في الأدب المعاصر حتى لقب بـ”شاعر القدس” الكاتب والشاعر نوري باكديل الذي توفي عام 2019 عن عمر يناهز 85 عامًا.
كان باكديل الذي ترك 45 كتابًا، مهمومًا بالقدس طوال مسيرته ليس فقط كمدينة لكن أيضًا كفكرة، فكان يرى أنها رمز للمقاومة ضد الإمبريالية والفاشية، وقد ذهب باكديل لزيارة القدس التي كتب عنها عشرات القصائد والمقالات قبل وفاته بأربعة أعوام، وكان أول ما نشره عنها عام 1972.
بالنسبة لنوري باكديل الذي ورث حب القدس من والدته التي درست العربية بمدينة حلب، فإن القدس مدخل الإنسانية فيقول في إحدى مقالاته: “لن تكون إنسانًا دون أن تحب القدس، فالقدس لها مكانة خاصة، إن الدفاع عن القدس بمثابة الدفاع عن الاستقلال في المطلق”، ويقول في إحدى قصائده “لا حب دون القدس وإسطنبول”.
أما في قصيدته الأشهر فيقول:
“أحمل القدس كساعة يدٍ..
إذا لم تنضبط الساعة على القدس
فسوف يضيع وقتك هباء،
سيتجمد،
وتصبح أنت أعمى”.
هناك أيضًا العديد من شعراء العصر الحديث الذين انشغلوا بالقدس وأفردوا لها مكانًا في كتاباتهم مثل علي أقباش ويوسف قبلان وعثمان صاري وعارف آي.