ترجمة وتحرير: نون بوست
في أحد أكثر المشاهد دلالة في فيلم “أوسلو” الجديد للمخرج بارتليت شير، قال أوري سافير، المدير العام السابق لوزارة الخارجية الإسرائيلية، مخاطبًا عضو منظمة التحرير الفلسطينية: “لقد قتلتم لاعبينا في ميونيخ، وقتلتم تلاميذ مدارسنا في معالوت، وقمتم بغزونا وسفك دمائنا في يوم الغفران”. فأجابه أحمد قريع، المدير العام لدائرة الشؤون الاقتصادية والتخطيط لمنظمة التحرير الفلسطينية: “لقد حرقتم منازلنا، وطردتم مليون شخص من فلسطين، وزعمتم حتى يومنا هذا أنه لا وجود لشيء اسمه فلسطين”.
طوال الفيلم، سلط كل من المخرج والكاتب المسرحي جي تي روجرز الضوء على الصراع الإسرائيلي الفلسطيني ضمن هذا الإطار الثنائي، وأكّدا أن طرفي الصراع ألحقا الضرر ببعضهما البعض بشكل متساوٍ من حيث الخطورة والتأثير. ولا يتحمل طرف واحد مسؤولية هذا الصراع – أو على الأقل هذا ما يظهره الفيلم – وهو ما يعني أن الرغبة في إحلال “السلام” ينبغي أن تكون مشتركة أيضًا. تروج لهذه الرواية وسائل الإعلام الغربية منذ سنة 1948، مما يُضفي انطباعًا مستمرًا بأن أحد أطول الصراعات في التاريخ الحديث هو صراع متكافئ تماما.
لقد أزاحت أعمال العنف الإسرائيلية الأخيرة ضد الفلسطينيين الستار عن هذه الأسطورة، واستوعب العالم حجم الظلم الذي تعرض له الفلسطينيون لأكثر من نصف قرن. افتقر خطاب فيلم “أوسلو” لفهم معمق لهذه القضية – وهو شعار هوليوود الرئيسي المسبط لمعالجة الصراع الإسرائيلي الفلسطيني الذي لم يعد يعكس الواقع أو يبدو حقيقيا.
استنادا إلى مسرحية برودواي للكاتب روجرز الحائزة على جائزة توني لسنة 2016 والتي تحمل الاسم نفسه، فإن فيلم “أوسلو” يعدّ بمثابة تجسيد درامي لمفاوضات القناة الخلفية التي أقامها الدبلوماسيان النرويجيان مونا جول (روث ويلسون) ورود لارسون (أندرو سكوت)، بين الإسرائيليين والفلسطينيين، والتي انتهت بإبرام اتفاقية أوسلو سنة 1993.
تسعى جول، التي خططت لعقد المناقشات، لجمع ممثلين إسرائيليين وفلسطينيين على طاولة المفاوضات لأول مرة بعد أن شاهدت استشهاد صبي فلسطيني رميًا بالرصاص على يد جندي إسرائيلي خلال الانتفاضة الأولى (والتي لم يقع الكشف عن أسبابها مطلقًا).
تكافؤ كاذب
لم يكن مشهد الفتى الفلسطيني القتيل الوحيد الذي يُطارد جول، بل كانت نظرات الخوف التي رمق بها الجندي الإسرائيلي الشاب تطاردها أيضا، والذي عجز هو الآخر عن سحب الزناد بنفسه. ليقوم أحد زملائه بالمهمة بدلا منه، ويُردي الصبي الفلسطيني قتيلا، الذي كان مسلحا بالحجارة فقط. وقالت جول لاحقا إن “كلاهما كانا يتشاركان نفس الخوف”، كما لو كان هناك تكافؤ بين شخص مسلح بحجر وآخر ببندقية هجومية.
مع قيام عصفور بشكل خاص بصب جام غضبه على العدو المحتل، وكان ينعتهم بالمحتلين كلما سنحت الفرصة
منذ المشاهد الأولى، حرص روجرز وشير على أن تعكس الصورة الحياد، لتتساوى الضحية بالجلاد، ولكنهما قدما حجة ضعيفة مفادها أن كلا الطرفين يريدان إحلال السلام لنفس الغايات النبيلة والسامية.
في البداية، كان التواصل بين طرفي النزاع مريبًا، وكانت الشكوك تساور الفلسطينيين أكثر من الإسرائيليين. ويظهر الإسرائيليون، الذين يمثلهم أساتذة جامعة حيفا يائير هيرشفيلد (دوف جليكمان) ورون بونداك (روتيم كينان) ولاحقًا سافير (جيف ويلبوش) والمستشار القانوني لوزارة الخارجية جويل سينغر (إيغال ناؤور)، وهم يعانون من عنف الانتفاضة وتأثيرها على الرأي العام العالمي للدولة اليهودية، لكنهم يحافظون على رباطة جأشهم.
في المقابل، يظهر الفلسطينيون الذين يُمثلهم أحمد قريع (سليم ضو) وزميله المفاوض حسن عصفور (وليد زعيتر) حادي المزاج وغير عقلانيين في بعض الأحيان، مع قيام عصفور بشكل خاص بصب جام غضبه على العدو “المحتل”، وكان ينعتهم بالمحتلين كلما سنحت الفرصة.
كما هو الحال في معظم إنتاجات هوليوود المبسّطة، يتعلم الطرفان ترك خلافاتهما جانبًا والتعرف على البعد الإنساني لبعضهما البعض. وسرعان ما يتلاشى إحساس عدم الثقة والشك تدريجيا ليسود الاحترام وتقبّل الآخر وتُؤجل المصالح الوطنية، مما يفسح المجال أمام الرغبة الجماعية المُلحة في السلام. وهكذا، فإن الوعود بإلقاء نظرة مُعمّقة على المناورات السياسية المعقدة التي أدت إلى التوصل إلى اتفاق فاشل، تتحول بسرعة إلى دراما كوميدية ودية محيرة وخالية من أي تعقيد أو عمق.
تصوير إشكالي
ليست هوليوود غريبة عن التاريخ الإسرائيلي الفلسطيني. فقد تجسّدت معالم الصراع بالكامل لأول مرة على الشاشة في فيلم المخرج الأمريكي أوتو بريمنغر المشين بعنوان “الخروج” (1960)، من بطولة بول نيومان وإيفا ماري سانت. واستنادا إلى رواية ليون يورس لسنة 1958 التي تحمل الاسم نفسه، يسرد الفيلم والكتاب تاريخ تأسيس إسرائيل من وجهة نظر المهاجرين اليهود غير الشرعيين الفارين من الهولوكوست إلى الأرض الموعودة.
يتفادى الفيلم بدهاء تصوير العرب باعتبارهم الأشرار المعادين (رغم حوادث الاختطاف والتعذيب والقتل)، ليكونوا مجرد شخصيات هامشية مجهولة الهوية ترحب بالمستوطنين اليهود بأذرع مفتوحة لجلب التحضر إلى الأرض ويكونوا حلفاء محتملين بدلا من المستعمرين البريطانيين المتوحشين. وكما لاحظ العديد من المؤرخين، فإن فيلم “الخروج” صور فلسطين باعتبارها دولة بلا شعب – أرضًا منسية متلهفة لاستقبال مقاتلي التحرير اليهود الأبطال.
مع تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية في سنة 1964، تحول الفلسطينيون من سكان أصليين مجهولي الهوية لدولة إسرائيل المزدهرة إلى إرهابيين عرب وجيران معادين – وهو الدور الذي ستنسبه لهم هوليوود حتى بداية القرن الجديد.
إن الأمثلة على ذلك كثيرة ومن بينها فيلم “في ظل العمالقة” للمخرج ملفيل شافيلسون (1966)، وفيلم المخرج بريمنغر الذي أنتجه في سنة 1975 بعنوان “روزبند”، وفيلم “الرجل التالي” (1976) للمخرج ريتشارد صرافيان، وفيلم “مداهمة عنتيبي” (1976) للمخرج إيرفين كيرشنر، وفيلم “رأس حربي” (1977) للمخرج جون أوكونور، وفيلم “الأحد الأسود” (1977) للمخرج جون فرانكنهايمر، وفيلم “الموت قبل العار” (1987) للمخرج تيري ليونارد – وذلك على سبيل الذكر لا الحصر.
إن جميع هذه الأفلام قائمة على نفس النمط تقريبا: الفلسطينيون يحرضون على العنف ومتوحشون ومتعطشون للدماء وعازمون على زعزعة الاستقرار الهش في الشرق الأوسط، ثم العالم بأسره حسب ما صورته أفلام لاحقة.
تؤكد أفلام الحركة والإثارة من السبعينات تدخل الولايات المتحدة في المنطقة، وتضع القوة العظمى في دور الحكم المتوازن والحامي لإسرائيل من المخاطر التي يشكلها العرب.
وُجدت استثناءات قليلة، فمثلا يصور فيلم “دوبل إيدج” للمخرج عاموس كوليك (1992)، بطولة فاي دوناوي، قصة مراسلة أمريكية تكشف عن موجة من الفساد والانتهاكات التي ترتكب في حق الفلسطينيين في القدس. وكان فيلم “حنا ك” (1983) الأكثر شهرة، الذي تناول فيه المخرج كوستا غافراس العنصرية الواضحة لنظام المحاكم العسكرية الإسرائيلية. ويُذكر أن الفيلم تعرض لهجوم شديد من قبل الجماعات الصهيونية في ذلك الوقت.
امتنع سبيلبرغ عن شيطنة الفلسطينيين وفضح أسطورة الجندي الإسرائيلي الشجاع الذي يتمتع بقوات خارقة
مع عمل المزيد من صانعي الأفلام الفلسطينيين على الكشف عن وجهة نظرهم بشأن الصراع، لم تعد القضية الإسرائيلية الفلسطينية تصورًا دراميًا مُجديا يمكن لهوليوود استغلاله بعد الآن.
يعد فيلم ميونيخ (2005) للمخرج ستيفن سبيلبرغ، الذي سلط الضوء على صراع هذا القرن، من أبرز إنتاجات هوليوود المثيرة للجدل، وهو فيلم جوسسة مثير يتتبع جهود الموساد في تعقب الإرهابيين الفلسطينيين الذين قتلوا مجموعة من الرياضيين الإسرائيليين خلال دورة الألعاب الأولمبية الصيفية لسنة 1972.
امتنع سبيلبرغ عن شيطنة الفلسطينيين وفضح أسطورة الجندي الإسرائيلي الشجاع الذي يتمتع بقوات خارقة، ولم يحاول تقديم تفسير شامل لدوافع المهاجمين فيما يتعلق بالإجراءات التمييزية المنهجية التي ينفذها المحتل الإسرائيلي. وسلط سبيلبرغ الضوء على معاناة الفلسطينيين، لكنه لم يشرح معالم الفقر والتهجير والاضطهاد التي تدفعهم للجوء إلى العنف.
“لا شيء سوى الخيال”
بالمقارنة مع الأفلام السابقة، يجسّد فيلم “أوسلو” تحوّلا في تمثيل الفلسطينيين في هوليوود بشكل كبير: باعتباره فيلما مرموقًا يعترف جزئيا بمسؤولية إسرائيل في الصراع. كان من الممكن اعتبار فيلم “أوسلو” تقدمًا ملحوظًا في تعامل هوليوود مع الصراع لو عُرض قبل 20 عامًا. ولكن اتباع منطق الحياد الآن يقوّض القضية الفلسطينية بدلاً من تحقيق العدالة.
لتجنب إثارة أسئلة صعبة حول ديناميات القوة التي أدت إلى توقيع المعاهدات، والهفوات الرئيسية التي سمحت للإسرائيليين بإحكام قبضتهم في العقود اللاحقة، قام فيلم “أوسلو” بتبسيط الاتفاق واختزاله في سلسلة من التنازلات التي قبلها كل طرف لوضع حد للعنف وتحقيق التعايش السلمي في النهاية. لكن هذا التصور لم يكن سوى ضربا من الخيال.
لا يمكن إنكار حقيقة أن اتفاقية “أوسلو” خدمت منظمة التحرير الفلسطينية بشكل جيد في ذلك الوقت، مما سمح لياسر عرفات – الذي تضررت مصداقيته بسبب دعم صدام حسين خلال حرب الخليج التي أشار إليها الفيلم – بالعودة إلى فلسطين ومنح الضفة الغربية وقطاع غزة حق الحكم الذاتي لأول مرة. لم تحكم منظمة التحرير الفلسطينية مطلقًا داخل فلسطين من قبل، وبالتالي مثلت اتفاقية أوسلو بالتأكيد نقلة نوعية بالنسبة للمنظمة – وهي خطوة ضرورية لحل الدولتين.
يقرّ الفيلم بأن بعض القضايا الرئيسية، وأبرزها وضعية القدس، وُضعت جانبًا للتفاوض بشأنها في المستقبل. وكما هو الحال مع معظم القضايا المتنازع عليها، التي تشمل أيضًا سيطرة إسرائيل على أمن الحدود، يرسم روجرز بسذاجة جدية إسرائيل المزعومة في التفاوض وكأنها أمر مفروغ منه.
من خلال قيامه بذلك، يعتبر المخرج هذه القضايا جزءا لا يتجزأ من التنازلات الصعبة ولكنها ضرورية لتحقيق السلام، بدلا من أن تكون حيلة متعمدة من قبل الإسرائيليين لمواصلة سيطرتهم على الأرض. من خلال التعامل مع الاتفاقية الأصلية بمعزل عن الانتهاكات الإسرائيلية اللاحقة ومحاولات استخدام المعاهدة لصالحهم، جعل روجرز الشكوك تخدم وجهة نظر الإسرائيليين.
تحقيقا لهذه الغاية، تم تجاهل عدد من الانتهاكات والتجاوزات الإسرائيلية مثل توسيع المستوطنات، سيطرة إسرائيل على أكثر من 80 بالمئة من المياه الجوفية في الضفة الغربية مقابل 17 بالمئة للفلسطينيين، والاستقلال الاقتصادي لفلسطين وعلاقته بالسيطرة الإسرائيلية على الأرض والمياه.
بالإضافة إلى ذلك، إن ادعاء قريع المتواصل في الفيلم بأنه لن يتم الاعتراف بإسرائيل من قبل جيرانها العرب البالغ تعداد سكانهم 350 مليون نسمة يبدو بعيد المنال وغير قابل للتصديق حتى في التسعينيات. يأتي هذا الاقتباس في أعقاب اتفاقية كامب ديفيد للسلام لسنة 1978 بين مصر وإسرائيل، ومجزرة صبرا وشاتيلا في لبنان سنة 1982، حيث أظهرت ردة فعل العرب أن دول الجوار تخلت عن القضية الفلسطينية بشكل نهائي.
بعض المشككين مثل إدوارد سعيد، الذي أطلق على الاتفاقية اسم “مقامرة حمقاء تسببت بالفعل في ضرر أكبر بكثير من نفعها”، رأوا العيوب القاتلة في تصميم الاتفاقية منذ البداية – التي تغاضى عنها روجرز.
بينما يترك المزيد والمزيد من الموهوبين الفلسطينيين بصماتهم في هوليوود على غرار الممثلين هيام عباس (مسلسل رامي، الزائر)، وعلي سليمان (برج يلوح في الأفق، جسد الأكاذيب) ووليد زعيتر (الجنس والمدينة 2، الرجال الذين يحدقون في الماعز)؛ شيرين دعيبس (أمريكا، إمبراطورية) والمرشح مرتين لجائزة الأوسكار هاني أبو أسعد (الجنة الآن، الجبال بيننا) – لا تزال هذه الصناعة غير مستعدة لإعطاء مجال للرواية الفلسطينية. ربما تقلصت المساحة الممنوحة لإسرائيل لدعم أسطورتها التي روجت لها على مر السنين، لكن أي عمل يشكك في أسسها الأساسية يبقى من المحظورات، لتظل بذلك النكبة والنكسة مواضيع محرمة لا تزال هوليوود تتجنب طرحها.
لا يحمل فيلم أوسلو بعدا راديكاليا ولا تصادميًا، بل مجرد عمل درامي يعكس وجهة نظر معتدلة ظهرت في البداية للتأكيد على قضية شوهتها هوليوود على مدى عقود
من المفارقات أن فيلم “أوسلو” يجسد النطاق الذي تسمح به هوليوود لإيصال صوت الفلسطينيين، فقد كان مدروسا بعناية من كل الجوانب بشكل لم يترك مجالا لانتقاد أي طرف. لكن ذلك لا يعني أن اللوم لم يوجه لمنظمة التحرير الفلسطينية، التي التزمت باتفاق أضعف موقفها وزاد من الألم الفلسطيني في الوقت نفسه.
وتمثل التفصيل الوحيد الصحيح الذي نقله شير وروجرز في هذا الفيلم في أن الإسرائيليين كانوا مصرين منذ البداية على أن تكون منظمة التحرير الفلسطينية في الحكم، مما أجبر المنظمة على التخلي عن أهدافها التحررية الوجودية لتعلق في متاهة من المؤامرات الداخلية وشبكة الفساد.
أريقت الدماء من كلا الجانبين، وتعتبر حادثة ميونيخ ومذبحة معالوت (التي قامت فيها الجماعة الماركسية اللينينية “الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين” بقتل 25 تلميذا ومعلما في سنة 1974) شاهدا على المنعرجات التي اتخذها الفلسطينيون لوضع حد للاحتلال.
بالنظر إلى تشديد إسرائيل للإجراءات الأمنية وبروزها كقوة نووية عظمى، فإن احتمال تكرار مجزرة ميونيخ أو معالوت مستبعد للغاية. ومنذ البداية، لم يكن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني الذي دام لعقود متكافئًا.
تتسم الفنون التحويلية ببعدها الراديكالي وتشجيع المواجهة والتحدي. ومع أن فيلم أوسلو يعكس في جانب منه النوايا الحسنة من خلال إيمان صريح بإمكانية تحقيق السلام وفضيلة السلام. يظل السؤال المطروح: كيف يمكن الحديث عن سلام يمليه ويصوغه المحتل؟
لا يحمل فيلم “أوسلو” بعدا راديكاليا ولا تصادميًا، بل مجرد عمل درامي يعكس وجهة نظر معتدلة ظهرت في البداية للتأكيد على قضية شوهتها هوليوود على مدى عقود، لكنها في نهاية المطاف تضفي نوعًا من الخطاب الاختزالي المتواطئ في تقويض معاناة الفلسطينيين.
المصدر: ميدل إيست آي