السياسة الروسية تعرف دائمًا من أين تؤكل الكتف، فلدى الروس مهارة فائقة في كيفية انتهاز أقل الفرص وإيجاد موضع قدم لهم من خلال اللعب على تناقضات النظام الدولي والإقليمي، إذ باتت لهم خبرة كبرى في هذا المساق، ويربحون منه ما لا يتوقعه ألد أعدائهم الذين يدفعون موسكو بالحماقة والغطرسة للتدخل عنوة لحماية مصالح جميع الأضداد مثلما يحدث الآن في لبنان.
حالة مثالية للتدخل
تسوق الأقدار روسيا للتدخل في لبنان، فالوضع المعقد الذي وصل إليه هذا البلد يمثل حالةً مثاليةً للدب الروسي للتدخل، إذ يتبادل الرئيس ورئيس الوزراء المكلف الاتهامات القاسية بإفشال لبنان في الوصول إلى حل ينقذ البلاد من عثرها وتشكيل حكومة قادرة على نيل ثقة اللبنانين والنخب والتكتلات السياسية والاجتماعية والطائفية.
يحدث هذا التلاسن رغم الأزمة الطاحنة غير المسبوقة، التي استدعت إصدار بيان صادم من البنك الدولي الأسبوع الماضي يؤكد من خلاله أن لبنان ماض نحو الغرق الكامل في الفشل وسط تقاعس متعمد عن العمل من أرفع المسؤوليين في البلاد.
وضع البنك الدولي تعريفًا للبنان، مؤكدًا أنه يقع في نطاق البلدان التي تشهد هشاشة وصراع وعنف، ولديه محفزات لا تنتهي لنشوب اضطرابات اجتماعية، ما يؤثر على الأوضاع الاقتصادية التي تهدد النظام السياسي بأكمله، وسينتج عن ذلك تداعيات ستصيب الإقليم بأكمله وربما العالم.
تقرير البنك الدولي أشار في طيات رسائله للجميع، أن النظام السياسي سينتهي حال الاستمرار على هذا الحال إلى سقوط وشيك، إما بسبب الصراعات الطاحنة بين جميع القوى السياسية وإما بسبب انزعاج “إسرائيل” من التقارب الأمريكي الإيراني، وتجاهل البيت الأبيض ندءات الكيان الصهيوني بالتدخل ـ وفق رؤيته للصراع مع إيران ـ لضمان أمن حدوده الشمالية التي تقترب من تل أبيب مباشرة.
وتمثل ترسانة حزب الله تهديدًا معنويًا لـ”إسرائيل” حتى لو التزم بالتهدئة والابتعاد عن استهدافها، وهذا سر تصريح رئيس الوزراء المنتهية ولايته بنيامين نتنياهو، بقوله إن الإسرائيليين مستعدون للاحتكاك بأمريكا وإغضاب حليفهم الأول من أجل درء ما يرونه “تهديدًا وجوديًا” قادمًا من الجمهورية الإسلامية.
وهو ما يشير إلى تدابير إسرائيلة يتم اتخاذها بالفعل، وأشارت إليها بعض أصابع الاتهام لاحتمال تورطها بحريق مصفاة نفط، وإغراق إحدى أكبر السفن الحربية الإيرانية في خليج عمان قبل أسبوعين.
تجاهل أمريكي
واحدة من الأسباب التي تمهد الطريق لروسيا للتدخل في لبنان، حالة الامتعاض الأمريكي، والرغبة في تقليل التدخل في الأزمة اللبنانية لأقل مستوى ممكن، وفقًا لعقيدة أكبر لإدارة بايدن، ترتكز على تقليل الوجود في الساحة العالمية والتركيز في المقابل على أساليب مختلفة لحل الأزمات الدولية، لكن التي تتعارض مباشرة مع المصالح الأمريكية أو التي تشكل خطرًا على النظام الدولي.
لهذا اكتفت الولايات المتحدة ببعض العقوبات والخطابات القاسية تجاه الساسة في البلاد، لكنها توقفت عند هذا الحد في الوقت الحاليّ، وتركز في المقابل على فك شفرة التعقيدات الإيرانية فيما يتعلق بقدراتها النووية.
يدعم الوجود الروسي أيضًا، فشل العنترية الفرنسية في حل الأزمة اللبنانية، فحتى الآن لا تجد مبادرة ماكرون أي استجابة، بعد أن طلبت باريس من السياسيين تشكيل حكومة من الخبراء لإجراء إصلاحات واشترطت أن لا تشمل الحكومة أي من الذين اعتبرتهم فسدة وفرضت عليهم المزيد من العقوبات، تلخصت حسب وزير الخارجية جان إيف لودريان في تقييد دخولهم فرنسا بجانب من تعتبرهم باريس يعرقلون العملية السياسية في لبنان.
لكن الواقع على الأرض، أثبت أن فرنسا ليست بالقوة التي تملك نفوذًا يمكنها من اتخاذ مثل هذه الخطوة، بل أثبت الساسة في لبنان أن لديهم اتصالات فاقت توقعات قصر الإليزييه، بعد أن تصدت بعض البلدان الأوروبية لقرار الاتحاد الأوروبي بفرض عقوبات على مسؤولي لبنان الذي حركته فرنسا وحاولت الحشد له بكل قوة.
وينص القانون الأوروبي على ضرورة موافقة كل الدول الأعضاء بالاتحاد على أي عقوبات خارجية تجاه دول أم أفراد، لكن هنغاريا عارضت هذا القرار وكان لوزير خارجيتها موقف لافت من بيروت، بعد لقائه رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل.
نفس الأمر تكرر من بلجيكا التي رفضت فرض أي عقوبات على مسؤولين لبنانيين، خصوصًا أنها عاشت أزمة مماثلة استمرت سنة وثمانية أشهر لتشكيل حكومة، فضلًا عن انقسام أوروبي بشأن حقيقة الدوافع الفرنسية للتنمر على الدولة اللبنانية بهذا الشكل اللافت مهما كانت مشكلاتها، لدرجة أن البعض أصبح يعتبر الهجوم الفرنسي تدخلًا في شؤون دولة أخرى، ومحاولة من ماكرون لاستعراض عضلاته على أمل تحصيل مكاسب خاصة له على أنقاض اللبنانيين.
حظوظ روسيا
يرفع من حظوظ روسيا في الدخول بقوة إلى الملعب اللبناني، أنها لا تتقيد بأي أسس أخلاقية أو ثقافية واضحة خلال تدخلها بأي أزمة عالمية ولا تنحاز للديمقراطية، بل تمارس دورًا معروفًا، إذ تدعم دائمًا الحكومات مهما كانت مرجعياتها والملاحظات الدولية عليها ومستوى قسوتها على الشعب.
بمجرد تدخل روسيا وإيجاد الغطاء اللازم، تبدأ على الفور في توسيع قواعد تحالفاتها حتى لو مع أضداد يحاربون بعضهم البعض بشرط أن يكونوا مناسبين لسياستها، على أن تمنحهم الضمانات المناسبة في المقابل، وهو ما يؤهلها للعب دور مع أغلب الأطياف المتحاربة وبصفة خاصة حزب الله، لهذا استقبلته أولًا في موسكو، ثم رئيس تيار سعد الحريري انتهاءً برئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل.
تعرف روسيًا جيدًا أن مفتاح الحل والتعاطي مع الأزمة يبدأ بإيجاد حوار ومصالح متبادلة مع الحزب صاحب المرجعية الشيعية، والذراع الأقوى لإيران في المنطقة، وبخلاف الغالبية العظمى من دول العالم التي تدعو لتفكيك الترسانة العسكرية للحزب ووضعها تحت سيطرة الجيش الوطني، ستعمل موسكو على إيجاد ضمانات لحزب الله، بعدم مس أسلحته أو السعي لنزعها خلال التوسط لإيجاد حل للأزمة اللبنانية.
يدرك الكرملين جيدًا أن حزب الله يشارك بالأساس في الحكومة اللبنانية من أجل إيجاد الغطاء السياسي المناسب لحماية أسلحته وإضفاء الشرعية اللازمة لها، وبالتالي التدخل المطلوب على الطريقة الروسية سيكون بانتزاع بعض المزايا منه للمجتمع الدولي، مثل الحصول على وعود بعدم التوسع في ترسانة الأسلحة والوقوف عند هذا الحد.
كما ستحاول إبعاد الحزب عن المشاركة بأي طريقة ممكنة في الحكومة القادمة، حتى تسمح لشخصية مستقلة بتشكيل حكومة من المتخصصين التكنوقراط بما يمكنها من عقد صفقات مناسبة مع المؤسسات الاقتصادية العالمية، وخاصة صندوق النقد الدولي، وبهذا تلعب بحرفية شديدة على مصالح كل الأطراف، وفي مقدمتهم جميعًا مصالحها.
أرباح سوريا
يمكن القول إن مستوى النفوذ الروسي الذي يتعاظم في لبنان الآن، يستمد قوته من تعاظم نفوذ موسكو في سوريا التي تعتمد في جانب كبير منها على علاقة موسكو الوثيقة مع طهران رغم بعض الاحتكاكات بينهما في هذا الملف، إذ تحتاج إيران باستمرار لإبقاء العلاقة مع روسيا على متانة جيدة في ظل توتر علاقاتها بالغرب.
في ظل هذه العلاقة لن تعجز روسيا وإيران عن إيجاد تفاهمات مناسبة، حال قررت موسكو تنفيذ مخططها الذي استدعى وجودها بالأساس في لبنان وهو النشاط داخل ميدان التنقيب وإدارة المنشآت النفطية في جنوب لبنان.
إذ تعمل شركاتها بعقود رسمية مع دمشق للتنقيب في المنطقة الاقتصادية الخالصة على ساحل محافظة طرطوس المتنازع عليها مع لبنان، وبهذا ستتقاسم كل من موسكو وطهران ثروات لبنان وسوريا، ولا عزاء للعرب الذين تواجدوا شرفيًا في الأزمة، وتركوا الحبل على الغارب للقوى الدولية، دون دور حقيقي، كما هو الحال في أغلب أزمات المنطقة .