“أنا في الثامنة والعشرين من عمري الآن، رغبت بالحياة المثالية في مراهقتي، لم أعد أرى الأشياء بهذه الطريقة، ببساطة، لا توجد ثمة حياة مثالية، يتعلق الأمر باختيار نوع الندم الذي تود التعايش معه”.
رد المخرج بو هو ـ Bo Hu على سؤال “ما الحياة المثالية بالنسبة لك؟” في حفل توقيع كتابه Huge Crack في أكتوبر/تشرين الأول 2016 الذي كان بمثابة نبوءة تستشرف موته الذي تحقق بعدها بعام واحد، كطريقة مثالية للهروب من الندم، كأنه قضى كل الوقت الممكن إمضائه، ولا يستطيع إمضاء وقت آخر في هذه الحياة، ليترك لنا ثلاثة أفلام قصيرة وفيلمًا روائيًا طويلًا حقق من خلاله مجدًا وضعه في مكانة مميزة كسينمائي موهوب.
ما الظروف المثالية للانتحار؟ كل ثانية من هذه الحياة هي وقت مثالي للانتحار على الأقل بالنسبة لبو ذي الطبيعة الكسولة، المحب للنوم وألعاب الفيديو، يطلق عليه أصحابه “إله النوم” sleeping god ويتأخر دائمًا على مواعيده، منطوي بعض الشيء ولا يحب الأماكن المزدحمة إلا موقع تصوير فيلمه الذي يشعر فيه براحة أكبر حتى لو كان مزدحمًا.
والحق أن كل أعماله الإبداعية كانت علامات على حالته النفسية، خصوصًا فيلمه الأخير الذي حشد فيه أكبر قدر من الطاقة السلبية ووضعها في شخصيات شابة من المفترض أن تعيش أيامًا مناقضة تمامًا لما نراه في الفيلم، أنا أفهم أن الأمور تأخذ منحى مختلفًا بالنسبة للمخرجين، بسبب طبيعة عملهم التي تجعلهم يتعاملون مع المادة القصصية كوسيلة أوصلهم لما يشبه الكمال السينمائي، وتتعدد القصص، يؤخذ منها ما يؤخذ ويتغير ما يتغير، فمن الطبيعي الدخول والخروج من الحالة القصصية بشكل سلسل، لكن عندما يصل الأمر للانتحار تختلف الأمور.
على الهامش “هو بو”
“هو بو” هو مخرج وروائي ومونتير، ولد في 20 من يوليو/تموز 1988، بمدينة جينان في الصين، ثم تخرج في أكاديمية بيجين للفيلم عام 2014 قسم الإخراج السينمائي، ليصنع بعدها ـ في نفس عام تخرجه ــ فيلمين قصيرين: فيلم Distant Father الذي حصل من خلاله على جائزة أفضل مخرج في مهرجان the Golden Koala، وفيلم Night Runner الذي اختارته أكاديمية the Taipei Golden Horse للفيلم.
في 12 من أكتوبر/تشرين الأول عام 2017 شنق هو بو نفسه على درج سلم شقته ببكين، ليغادر الحياة شابًا عمره 29 عامًا، تاركًا وراءه فيلمه الروائي الطويل الوحيد، الذي يبدأ بانتحار أحد الشخصيات وينتهي بانتحار آخر.
بعد انتحار بو هو بفترة قصيرة بحث طاقم الفيلم في حاسوبه الخاص، ليجدوا ملفًا يحمل اسم “موت المخرج الشاب ــ The Death of a Young Director” يشتكي فيه أن منتجي الفيلم كانوا يفكرون جديًا في إلغاء الفيلم أو تقليل الميزانية خلال التصوير، متهمين بو بعدم الحرفية، مطالبين بتقليص مدة الفيلم إلى النصف.
وأظن أن تلك الرسائل هي التحديقة الأخيرة في الهوة، المثير للدهشة أن شخصًا مثل بو اعتاد التحديق في الهاوية منذ زمن بعيد، بالتأكيد كان يترقب السقوط فيها، هذا ما يمكننا استنباطه من الفيلم.
التحديق في الهوة
قبل أيام من وفاته – حسب مجلة The Quietus الإلكترونية – أخبر هو صديقه أنه يرغب في أن يحفر على شاهد قبره جلادًا Hangman، هذه الكلمات تنقل لنا انطباعًا عن مدى التخبط الذي كان يشعر به، هل كان يرى موته قبل حدوثه، لكن إذا دققنا النظر، فمن العبث التطلع لإيجاد هدف للحياة في عالم منهار على نفسه سواء أخلاقيًا أم ماديًا أم حتى اجتماعيًا كما يحدث في أفلامه.
لذا قرر بو أن يمنح العالم كله تحديقة مجانية في الهوة عبر فيلمه الأخير، يعرف أن العالم يتلصص عليه من الخارج، لكنهم لم يعرفوا أنه في أسفل الهوة، ولا يحتاج إلا للتحديق خارجها كي ينجو، بيد أنه فضل المكوث في الهوة حتى إذا حاول خلق أي عمل إبداعي استبقى فيه رائحتها، والهوة في سينما هو بو ليست مجرد تقنية سردية أو محاكاة يونانية أو حتى مزاج لوني يضفي على الشاشة شيئًا من الكآبة، إنه عالم كامل الأركان، يطول الشاب والعجوز ويسلب منهم مصائرهم ويسيرهم نحو الفيل المقعد في السيرك.
في فيلمه An Elephant Sitting Still، مبتعدًا تمامًا عن الجيل الخامس من مخرجي الصين، يصف لنا بو الكشافات على جانبي الطريق نحو الهوة، في رحلة تأملية أكثر من كونها بطيئة، بين المباني الخرسانية والسكك الحديدية والغرف المغلقة، إذا نظرنا بينهم سنلاقي عددًا لا نهائيًا من خيبات الأمل التي لا ترى طريقًا للخلاص إلا المدينة التي يقطن فيها الفيل الذي لا يتحرك أبدًا.
هذا هو الانعكاس الواضح على الذات، فالفيل الذي لا يتحرك، يشاهده الجميع من الخارج، يرمون له الطعام حتى يبقى مكانه، بيد أن البشر حتى مع مكوثهم في أماكنهم قسرًا بسبب الكثير من العوامل، لا يجدون من يرمي لهم فتات اليوم.
صور الفيلم في أقل من شهر تقريبًا، بميزانية ضئيلة ولقطات طويلة وإضاءة طبيعية تمامًا إلا من بعض العاكسات للضوء وأشياء أخرى متعلقة بتقليل حدة الضوء الطبيعي.
عمد المخرج إلى الاعتماد على اللقطات الطويلة والدوران بالكاميرا بنسبة 360 درجة، وهذا بالضرورة يضطر المخرج إلى بذل مجهود في الإسكربت الحركي للمثلين ودراسة الموقع بالنسبة لحاملي الكاميرا لإخراج المشهد بشكل يجعل اللقطة تنطلق ولا تنقطع إلا وقد أوصلت الصورة المطلوبة.
هذا البطء المتعمد ثبت على مفهوم اليومي الذي رغم رتابته وتحركه البطيء من خلال السرد يضيع في ديمومة من العبث، ولا يتيح فرصة للتفكير في المستقبل، فتشابه الحكايات واشتراكها في عنصر المعاناة ينضح بتفتت البيئة المحيطة، وبالتبعية تفكك الحياة الاجتماعية المقدسة والانهيار الأخلاقي، وهذا يتضح من خلال تفكك العلاقة الأسرية بالكامل في حيوات الأبطال، التي من المفترض أن تكون علاقة مقدسة في ذاتها، بيد أنه في مختلف المواقف ومع كل الشخصيات تظهر الأسرة كظاهرة متفسخة أو كموتيفة لطرد الشخص بدلًا من تفهمه.
وهذا التفكك الأسري نابع من تفكك اقتصادي عارم، أصاب المجتمع بلوثة الخوف من الحياة ذاتها، كحياة مادية تنعكس على ضيق المنازل وارتفاع ثمن السكن والانحطاط في مستوى التعليم والانهيار في البنية القيمية واستوحاش البلطجة، بالإضافة لارتفاع معدل الانتحار.
فالفيلم يحتوي على ثلاث جثث، اثنتين أنهيا حياتهما بالانتحار، لينقلب الفيلم إلى بكائية كونية، تتلامس مع كل شخص حسب ما يرى في نفسه وبيئته، والجدير بالذكر أن الفيلم يأخذ مزاجه اللوني من الأفلام الديستوبية وأفلام نهاية العالم، والطقس الغائم والوجوه الشاحبة، محاولة إقصاء الفرد عن بنية العائلة والفردانية المتفشية في محاولات ذاتية للبحث عن الحرية والهدف تحور العمل الفني من فيلم يقارب الأربع ساعات إلى مرثية حزينة لشباب اليوم أو سخرية تضمر كل خوف من المستقبل، وتنبئ بكارثة تشتبك مع المحلي، ليس كواقع يقحم في مقارنات مع مجتمعات أخرى، بل كواقع له حضوره القبيح ومرونته العبقرية في استيعاب هذا الكم من الموت والاكتئاب، مثل مقبرة كبيرة.
هو بو كفنان
عندما سئل هو بو عن أن بعض الناس يقولون إن أعماله تثير الكثير من المشاعر السلبية أجاب بو: “يمكنك أن تطلب من صاحب هذه الادعاءات أن يفكر في نفسه لثانية واحدة كل يوم عندما يستيقظ من النوم أو قبل أن يذهب للفراش أو عندما يجلب كوبًا من الماء في العمل، وسيدرك أنه ينظر فقط إلى حياته من خلال نظارات وردية”.
نستنبط من تلك الكلمات ومن أفلام بو القصيرة أنه ليس مدعيًا، فهو يصنع عالمًا يعايشه حقًا، وبمشاهدة فيلمه الأخير سنجد أنه كان بمثابة رسالة انتحاره، كإنسان ناقم على المجتمع يسلط الضوء على آلاف الشباب الصينين الذين يكافحون ضد مجتمع وحشي يحاول عصرنة الرأسمالية بطريقة تخدم طموحات الدولة ككيان أعظم، بيد أنها على الجهة الأخرى تنبذ الفرد.
لكن على النقيض عندما سئل والده عن الفيلم، أجاب أنه شاهد الفيلم أربع مرات، وما زال لا يفهم لماذا لم تضحك أي شخصية خلال الفيلم، ويكمل أن اليأس الوجودي الذي طبع الفيلم ليس معقدًا إلى هذا الحد، ويشير إلى أن ابنه من خلال الفيلم كان يؤمن أن المجتمع لن يتغير أبدًا، ويجب على البشر أن يتعلموا العيش مع الألم.
في 2017 كتب هو بو على موقع ويبو الصيني: “طوال هذه السنوات، لم أفكر أبدًا في ماهية السينما، إنه إذلال، يأس، عجز، مجرد مزحة”.
هذا الاضطراب الذي يطبع سينما بو يتحرك من سؤال مهم عن ماهية الحياة، فبالنسبة له الحياة هي السينما والعكس صحيح، لذلك تطور هذا السؤال ليصبح عن ماهية السينما ومدى تأثيرها، لذلك تبدو أفلامه كمادة مفرطة في الواقعية، كإذلال ويأس وعجز ليس له حدود عن امتلاك المصير، والافتقار التام لشبكة اجتماعية صحية، ورغم ذلك فشخوصه تكافح ضد فساد الحياة بما تملك، بحيث يمكن أن يبيع أحد الشخوص شبابه مع أحد الأساتذة في مدرسته لكي يحصل على حياة آمنة بعض الشيء خالية من الضغط، ليشعر ببعض الحب، وإذ حاولنا تفكيك طبقات الفيلم فسنجد العتة الأخلاقية تنخر في قلب المجتمع، وسمية العلاقات تصل إلى كل شيء وتصنع جوًا مشحونًا مليئًا بالكراهية.
تواجه السينما الصينية المستقلة خطر الانقراض والرضوخ القسري للمؤسسات الحكومية، وشركات الإنتاج التابعة للدولة تضيق الخناق على الفنانين المستقلين، يشعر هو بو بمسؤولية مقدسة في نقل تلك الأجواء الكئيبة إلى العالم، ولا يحاول أن يحيد عن تلك النظرة.
وحسب كلام والده فبو لم يعايش ذلك العالم بشكل محسوس ومادي، ربما كان يعيش في داخله هو وحده، بيد أن كلنا نعلم مدى قسوة النظام الصيني المنغلق على نفسه من خلال حديث الكثير من المخرجين في الجيل الخامس، لذلك فالحكم بشكل مطلق شيء يفقد الفيلم قيمته كوجهة نظر أحد مواطني الصين.
وعلى الجهة الأخرى فالاقتصاد الصيني من أقوى الأنظمة الاقتصادية في العالم، بيد أن الفيلم يظهر بنية تحتية مهترئة ووضع مادي رث، ما يناقض البروباغندا التي يتم تصديرها للعالم، بيد أننا لسنا هنا للحكم على الدولة، بل لمحاولة وضع الفيلم في سياقه الاجتماعي والتاريخي كشيء له أهميته.
في فيلمه القصير Man In The Well، يتحرك بو من المكان كلعنة، كشاهد على الحدث لا يمكن تكذيبه، ويشحذ نفس الشعور الأبوكليبسي الذي لاحقه في فيلمه الأخير، بيد أن ذلك الشعور ظهر في فيلمه القصير بشكل أعظم من خلال تكثيف اللون الأسود والرمادي، من خلال صورة بالأبيض والأسود، واستثمار الصمت المقبض طوال الفيلم تقريبًا، إذ يدور الفيلم فيما يشبه حقبة ما بعد نهاية العالم، عن طفلين تنهشهما بطونهما من قلة الطعام، يجدان في وسط الخرائب جثةً ميتةً.
طبيعة المكان المتحولة إلى أطلال وبقايا والخراب الظاهر في كل الأماكن بجانب بطء الإيقاع الذي يضاعف من ثقل الفيلم، يدفعنا لا إراديًا للتفكير في المخرج بيلا تار الذي كان مثل بو الأعلى حتى آخر يوم في حياته، حتى إنه هو الذي أشرف على صناعة فيلمه Man In The Well خلال ندوة لصناعة الأفلام بمدينة شينينغ، ليرجع ويبدأ العمل في فيلمه الأخير، الذي يحاول من خلاله التأكيد على إرادة الحياة التي تتصرف بمعزل عن إرادتنا الخاصة الواهنة وتؤكد سطوتها، بيد أنه على الجهة الأخرى يترك العنان للمصائر، لتنفجر في الوجوه وتأخذ حياتها بيدها، بالنسبة لبو فالانتحار أو الموت الاختياري هو أعظم انتصار على إرادة الحياة.