لا يكاد يذكر النفوذ الإيراني في العراق، إلا ويذكر معه الحشد الشعبي، ربما لأنه الطرف الأكثر ظهورًا من باقي أوراق طهران في المنطقة، لكن هناك طرفًا آخر لم ينل ما يستحقه من الضوء، تحول في السنوات الأخيرة إلى ورقة “جوكر”، سبّب صداعًا لكل الأطراف: الحكومة العراقية، الأحزاب الكردية والمواطنين الأكراد، العرب السنّة وأخيرًا تركيا.
كل هذا الضجيج تحدثه إيران من خلال حزب العمال الكردستاني، فكيف تحول الحزب إلى أداة إيرانية بالكامل؟
بي كا كا وشمال العراق
حزب العمال الكردستاني هو مجموعة مسلحة تنفذ هجمات في تركيا منذ عام 1984، بعد عامين من تأسيس المجموعة تم تصنيفها كمنظمة إرهابية، من قبل تركيا والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.
منذ عام 1982، تمركز مقاتلو الحزب في الأجزاء الجبلية الشمالية من العراق على الحدود التركية، وفي مخمور الواقعة جنوب إقليم كردستان منذ بداية التسعينيات.
بدأت العلاقة بين حزب العمال الكردستاني والأحزاب الكردية كأمر واقع، يحيطه الحلم المشترك ببناء دولة كردية في مناطق تواجد الأكراد، حيث لم يكن الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة البارزاني، ولا الاتحاد الوطني الكردستاني بزعامة الطالباني، يملكان أراضي يسيطران عليها فعلًا، بالتالي لم يكن الصدام واردًا، بل كانت العلاقة أقرب إلى التعاون بسبب التحالف بين العراق وتركيا في الثمانينيات.
بعد فراغ في السلطة في أعقاب النظام العراقي السابق برئاسة صدام حسين، بعد الغزو الأميركي عام 2003، توسعت قاعدة حزب العمال الكردستاني، ثم زادت سيطرته بعد سقوط الموصل في يد داعش.
أما أبرز أماكن تواجده التاريخية والحالية، فهي كالآتي:
1- جبال قنديل
هي امتداد لسلسلة جبال زاغروس التي تغطي أجزاء من جنوب تركيا وشمال العراق وشمال شرق سوريا. استخدمت قوات البيشمركة، القوات المسلحة لحكومة إقليم كردستان شبه المستقل في شمال العراق، الجبال كمأوى لحماية أنفسهم من الرئيس العراقي السابق صدام حسين في الثمانينيات، قبل أن يحصلوا على الحكم الذاتي.
ومع ذلك، بعد حرب الخليج عام 1991، تخلت قوات البيشمركة عن الجبال، وعادت إلى المناطق الحضرية التي كانت تؤمنها الولايات المتحدة، وسيطر حزب العمال الكردستاني على جبال قنديل وبدأ في استخدامها كقاعدة له.
هناك ما لا يقل عن 13 معسكرًا يقع في أجزاء مختلفة من الجبل، بما في ذلك القاعدة الرئيسية التي يوجد فيها رؤساء حزب العمال الكردستاني.
على الرغم من قرب المنطقة من المناطق التي تسيطر عليها حكومة إقليم كردستان، فإن الحزب يستخدم المنطقة بشكل مستقل، والحكومة المركزية العراقية ليست قريبة جغرافيًّا ولا عسكريًّا من السيطرة على الجبال.
حزب العمال الكردستاني لديه أكثر من معسكر واحد كقاعدة له في الجبل، ما يمنع تدميره بهجوم واحد، حيث هناك ما لا يقل عن 13 معسكرًا يقع في أجزاء مختلفة من الجبل، بما في ذلك القاعدة الرئيسية التي يوجد فيها رؤساء حزب العمال الكردستاني، بما في ذلك مراد كارايلان وجميل بايك.
2- مخيم مخمور
تقع منطقة مخمور على بعد 60 كيلومترًا جنوب أربيل عاصمة حكومة إقليم كردستان، وهي جزء من محافظة نينوى. استقرت قوات البيشمركة الكردية هناك بعد الغزو الذي قادته الولايات المتحدة للعراق عام 2003، لكن مخيم مخمور للاجئين داخل المنطقة يخضع لسيطرة حزب العمال الكردستاني.
تم إنشاء المخيم من قبل الحكومة العراقية المركزية والمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين عام 1998، للأكراد الذين فروا من منازلهم داخليًّا وخارجيًّا في أوائل التسعينيات.
وتضم في الغالب الأكراد العراقيين من جنوب شرق تركيا، الذين نزحوا بالقوة من قراهم من قبل حزب العمال الكردستاني الذي نقلهم إلى شمال العراق عام 1992، من أجل تطهير منطقة الاشتباكات وإنشاء قاعدة لنفسه في العراق حيث يمكنه تجنيد مقاتلين جدد.
دفعت تلك الهجرة القسرية الأكراد إلى إيجاد مكان جديد في مخمور، ومن أجل دعمهم قررت الأمم المتحدة إنشاء مخيم للاجئين بعد 6 سنوات.
كان لحزب العمال الكردستاني وجود قوي في المخيم حتى الغزو الأميركي، ما خلق مشاكل بين تركيا والمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين. في وقت لاحق، عندما اشتد الصراع في العراق وغادر معظم موظفي الأمم المتحدة البلاد، اكتسب حزب العمال الكردستاني سيطرة أكبر في المخيم، حتى أنه أجبر الشباب الأكراد على الانضمام إلى حزب العمال الكردستاني.
زاد وجوده بشكل كبير بعد اقتراب داعش من المخيم، وقام حزب العمال الكردستاني بتطهير المنطقة من المجموعة بالتحالف مع البيشمركة. على الرغم من لعب البيشمركة دورًا حاسمًا في هزيمة داعش والحفاظ على قواتها في مخمور، فإن حزب العمال الكردستاني لم ينسحب بعد، وحاليًّا، ليس فقط في المخيم ولكن على التلال المحيطة بالمخيم، فإن حزب العمال الكردستاني له وجود، كما دعت تركيا الحكومة العراقية إلى إغلاق المعسكر.
3- سنجار
تتصدر سنجار جدول أعمال تركيا، عندما يتعلق الأمر بالمحادثات مع بغداد بشأن الحرب ضد حزب العمال الكردستاني. ذلك لأن الجيش التركي يمكنه إجراء عمليات عسكرية على قواعد حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل، لكن سنجار محمية من قبل الجيش العراقي.
تأسس حزب الاتحاد الديمقراطي، الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني، عام 2003. وعندما جاءت داعش إلى سوريا عام 2013، قررت الولايات المتحدة استخدام جناحه المسلح (وحدات حماية الشعب)، كقوة برية في قتالها ضد داعش.
جذبت حرب وحدات حماية الشعب الكردية ضد داعش الانتباه الدولي منذ أواخر عام 2014، وحصلت على المزيد من الدعم العسكري والدبلوماسي من الغرب، لكنها لم تترك السيطرة على المناطق التي هزمت فيها داعش للسكان المحليين، والآن تسيطر الوحدات على ربع سوريا، معظمه على الحدود التركية والعراقية.
يقع قضاء سنجار غربي العراق، على الحدود السورية المجاورة للمناطق التي تسيطر عليها وحدات حماية الشعب. عندما وصلت داعش إلى سنجار عام 2014، ذبحت الإيزيديين، وهم جماعة عرقية ودينية تتحدث اللغة الكردية.
لفت ذلك انتباه الغرب، ومرة أخرى بهذا الدعم وصلت وحدات حماية الشعب في سوريا وحزب العمال الكردستاني في العراق إلى سنجار، تحت ستار إنقاذ الإيزيديين، ثم هزما داعش في المنطقة بمساعدة الضربات الجوية للتحالف الذي تقوده الولايات المتحدة، وسيطرا على سنجار منذ ذلك الحين.
على الرغم من أن البيشمركة لعبت دورًا رئيسيًّا في تطهير سنجار من داعش عام 2015، إلا أن حزب العمال الكردستاني احتفظ إلى حد كبير بالسيطرة على المنطقة، حيث يرفض السماح لقوات البيشمركة بالسيطرة على المنطقة.
كان الجيش العراقي يتقاسم السيطرة على سنجار مع الجماعات التابعة لحزب العمال الكردستاني، في تحالف سلمي إلى حد كبير.
أنشأ الإيزيديون المسلحون في سنجار، بمساعدة حزب العمال الكردستاني، وحدات مقاومة سنجار، وهي فرع آخر من حزب العمال الكردستاني، وقد أدى ذلك إلى إنشاء قاعدة جديدة لهم شمال غرب العراق.
سنجار مدرجة في المناطق المتنازع عليها في العراق، والتي تم تحديدها في الدستور؛ فعندما أجرت حكومة إقليم كردستان استفتاء غير ملزم على الاستقلال في سبتمبر/ أيلول 2017، تحرك الجيش العراقي في المناطق المتنازع عليها التي سيطرت عليها قوات البيشمركة التابعة لحكومة إقليم كردستان؛ إلى جانب مناطق أخرى متنازع عليها مثل كركوك، وقد سيطرت الحكومة العراقية المركزية في بغداد على سنجار في أكتوبر/ تشرين الأول.
ومع ذلك، تقاسم الجيش العراقي السيطرة على سنجار مع الجماعات التابعة لحزب العمال الكردستاني، في تحالف سلمي إلى حد كبير ولكنه غير مستقر. وكانت الميليشيات الشيعية (وحدات الحشد الشعبي) المدعومة من إيران، والتي أصبحت فيما بعد جزءًا قانونيًّا من الجيش العراقي، جزءًا من هذا التحالف.
التحول نحو طهران
مع دخول الحشد الشعبي في المعادلة الكردية، عقب طرد داعش من مناطق سيطرته شمال العراق، أصبحت اليد الإيرانية أكثر وضوحًا في تحريك المشهد، خاصة فيما يخص سنجار، التي يتعمد الحشد تركها عائمة ويحول دون سيطرة الجيش العراقي عليها بالكامل، ما يسبب توترات مستمرة أودت إحداها بحياة جنديَّين عراقيَّين قتلهما مقاتلو حزب العمال الكردستاني في مارس/ آذار 2019.
الدعم الإيراني لعناصر الحزب تزايدَ بشكل مطرد، بالطبع لم يكلف هذا الدعم الحكومة الإيرانية شيئًا، وإنما يتم عن طريق موازنة العراق.
يقول عضو لجنة الأمن والدفاع في البرلمان العراقي، شاخوان عبد الله، إن الحكومة العراقية تدفع رواتب لحزب العمال الكردستاني ضمن الموازنة المخصصة للحشد، كما سهّلت إيران من خلال الحشد سيطرته على المجلس المحلي في سنجار، فضلًا عن الدعم المستمر لزيادة قواعده داخل إقليم كردستان، كما أشار قائد القاطع السادس في البيشمركة اللواء سيروان بارزاني حول امتلاك الحزب 37 قاعدة عسكرية.
كان الجزء الرئيسي من الاتفاق يتطلب إخراج حزب العمال الكردستاني من المنطقة.
أدى هذا التوسع إلى زيادة الاحتكاك بين الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة البارزاني، وحزب العمال الكردستاني، ويمكن القول إن هذا التصعيد هو الناتج الطبيعي المنتظر، بسبب توجه بارزاني نحو المحور التركي والأميركي، على عكس الاتحاد الوطني الكردستاني بزعامة جلال الطالباني سابقًا، والذي يعتبر أقرب إلى طهران، وهو ما بدا جليًّا في موقفه من الحزب الذي عبّر عنه القيادي في الحزب محمود سنكاوي، بأن حزبه لن يقاتل الـ”بي كا كا” وأنهم يفضلون احتواءهم.
ومع توقيع السلطتان في بغداد وأربيل -عاصمة حكومة إقليم كردستان- في 9 أكتوبر/ تشرين الأول 2020، اتفاقية تهدف إلى استعادة الأمن في سنجار، كان الجزء الرئيسي من الاتفاق يتطلب إخراج حزب العمال الكردستاني من المنطقة.
وهكذا في 24 نوفمبر/ تشرين ثاني، نشرت حكومة إقليم كردستان والحكومة الفيدرالية العراقية 6000 عنصر من قوات الأمن في سنجار، لوضع هذه الخطة موضع التنفيذ.
إلّا أن الاتفاقية أثارت ردة فعل عنيفة من حزب العمال الكردستاني، فشنّ بعدها بشهرين عدة هجمات على قوات حكومة إقليم كردستان ومنشآتها وبنيتها التحتية، لكن هذا لم يكن ما أفشل الاتفاق، وإنما الدعم الذي قدمه الحشد الشعبي لتثبيت الحزب في سنجار، كي يظل نقطة استفزاز إيرانية، وورقة تفاوضية بيد طهران.
ماذا تستفيد إيران؟
من خلال سيطرتها المطلقة على حزب العمال الكردستاني، تضرب إيران عدة عصافير في حجر واحد، أولها ضبط الأوضاع في مناطقها الكردية الشمالية.
في تقرير له، يقول معهد كارنيجي للدراسات إنه وبينما كان حزب العمال الكردستاني يشن هجمات كثيرة في تركيا منذ اندلاع الثورة السورية، كان من اللافت تسجيل زيادة في أعداد المقاتلين المصابين من أصل إيراني-كردي (مؤشر لزيادة مشاركتهم في العنف)، في حين أن حزب الحياة الحرة الكردستاني (PJAK) (النسخة الإيرانية من حزب العمال الكردستاني) أوقف تقريبًا عملياته على الأراضي الإيرانية.
على الصعيد العراقي، يمثل وجود حزب العمال الكردستاني خنجرًا في الخاصرة الرخوة لإقليم كردستان، إذ يمثل الإبقاء على الإقليم ضعيفًا وبعيدًا عن الاستقلال هدفًا استراتيجيًّا إيرانيًّا، خاصة أن مناطق نفوذ الحزب تقع في نفس مناطق الحزب الديمقراطي البعيد عن الخط الإيراني والقريب من الخط الأميركي.
يؤكد هذا المنحى ما قاله زعيم الاتحاد الوطني الكردستاني جلال الطالباني، في مقابلة نادرة خلال الثمانينيات، من أن “حزب العمال الكردستاني لا يعترف بحقوق الأكراد ويعطي مبررًا دائمًا للقوات التركية للدخول إلى العراق، ما يسبب ضررًا كبيرًا للقضية الكردية”.
وجود الحزب يضعف بالتأكيد الحكومة العراقية بدورها، فمجموعاته المسلحة لا تترك للحكومة العراقية تقريبًا أي منفذ إلى الأراضي التركية، ويتركها أسيرة التحكم من قبل الحزب.
أما الجانب الأهم فهو الجانب التركي، حيث يتيح الحزب لإيران استخدامه كورقة للضغط على تركيا في أي اتفاق ينظّم العلاقة بين البلدين، خاصة في الملف العراقي: ملف كركوك والعلاقة مع إقليم كردستان (البارزاني تحديدًا).
حزب العمال الكردستاني إذًا هو ورقة إيرانية ناجحة، لا تكاد تكلف شيئًا، لكنها تدرّ الكثير على طهران، وحتى يتم حسم هذا الملف بالكامل، ستظل إيران اللاعب الأبرز في هذه المعادلة.. كما هو الحال في غيرها.