لا شيء يبدو لافتًا بعد مرور الذكرى الـ 40 لتأسيس مجلس التعاون الخليجي، إلا علوّ الروح القومية في بلدان شبه الجزيرة العربية أكثر من أي وقت مضى، فالمجلس الذي خرج للنور في 25 مايو/ أيار 1981 بالكثير من الطموحات والأحلام، يحاول الآن ترميم الجراح وتقليل حدة تضارب المصالح، لدرجة التنافر مع أحلام التأسيس التي انكسرت على عتبات الصراع والتنافس الشرس وحصار قطر.
التعصب القومي.. ما هو؟
شعور يتسم بالمغالاة في الولاء والفخر بالوطن، يتوازى مع تطرف في الاعتقاد بأنه أفضل وأكثر أهمية من البلدان الأخرى في العالم، وفي الوقت الذي يقبل القومي الحقيقي النقد، ويسعى دائمًا لتصحيح الأخطاء في سياسات القيادة أو ممارسات بني وطنه، لا يقبل القوميون المتطرفون أي نقد خاصة إن كان خارجيًّا، ولا يأخذون بعين الاعتبار إخفاقات الدولة، ولغة الدماء أسرع إليهم من الحوار.
والتطرف القومي غالبًا ما يرتبط بتصرفات منفلتة، مثل كراهية الأجانب ونزعة الثأر من أي مخالف، وتوفِّر الشعبوية الحمايةَ لهذه الروح وترعاها وتنفخ فيها، ولهذا تعتبر بذور التطرف القومي التي نثرت في شبه الجزيرة العربية خلال السنوات الماضية، أخطر ما يواجه مستقبل مجلس التعاون، رغم الكثير من الأمل الذي عاد للمنظومة بعد تصالح البلدان الخليجية وتزايد الرغبة في إصلاح المجلس، وفرض سياق مؤسَّسي على جوانب عمله، وأسلوب حل النزاعات فيه.
يهدد الغلو القومي حالة الهدوء النسبي بين الأطراف المتصارعة، إذ لم يتخلص الغالبية من مبالغات المرحلة السابقة، والانحياز بمغالاة للروح القومية -وصلت إلى تطرف شديد لدى البعض- في البلدان الخليجية المختلفة، إذ لا تزال شعارات “وطني أولًا” تعلو بشدة على حساب القومية الخليجية، التي كان يعتبرها معظم أبناء الخليج في مراحل زمنية سابقة على النزاع الأخير، الأمل الوحيد للارتقاء بشعوب الجزيرة إلى ما يناسب ثرواتهم وحجم التأثير الاقتصادي والسياسي لهم في العالم.
كما يهدد انتشاء الروح القومية لدى كل بلد خليجي بمفرده بتوغل “إسرائيل” داخل المزيد من البلدان العربية من بوابة التطبيع على حساب القضية الفلسطينية، إذ نجحت خلال ذروة الصراع الخليجي في إبرام اتفاقات أحادية مع ثاني أكبر اقتصاد عربي (الإمارات) بناتج محلي يزيد على 400 مليار دولار، وكانت الصفقة بوابة للبحرين والسودان والمغرب لإبرام اتفاقات، بين كل طرف على حده.
وتحاول “إسرائيل” الآن بكل الطرق مغازلة السعودية لإبرام اتفاق تطبيعي لاختراق أكبر اقتصاد عربي بناتج محلي يصل إلى نحو 780 مليار دولار، بما يفتح لها أسواق دول مجلس التعاون الخليجي الأخرى التي تتشابك علاقاتها وتسهيلاتها التجارية المتبادلة بشكل واسع مع أسواق الدول العربية الأخرى، والمقابل ماذا للقضية العربية والإسلامية الأولى؟ لاشيء.
والإشارة هنا للدور الإسرائيلي بالتزامن مع نشوة العصبية القومية ليست عبثية، إذ سرى رفع الصوت بشعارات “وطني أولًا” في الفترة الأخيرة كتسويغ لحالة التطبيع المروعة التي وصمت عدة بلدان في المنطقة وتمنعت دول أخرى بانتظار الفرصة السانحة. ففقد رفع مطبعون وملحقاتهم من ذباب إلكتروني، صوتهم بـ”الإمارات أولًا”، و”السعودية أولًا”، و”البحرين أولًا” في معرض التبرير للتطبيع باعتبار أن العلاقات مع دولة الاحتلال تحقق مصلحة وطنية حتى لو لم تحقق مصلحة الفلسطينيين، وعلى الشعب الفلسطيني تدبر أمره بعيدًا عنهم.
يااخي:
بلا اقصى،بلا اوسط بلا ادني٠
خذها من سعودي لحما وقلبا وكبدا وعينا ويدا ودما وعظما٠
(وطني وقادتي واخواني السعوديين)اولا وثانيا وثالثا والى آخر رقم حسابي٠
نتعاطف مع الشعب المغلوب على امره،ولكن لن ندعو لمن يدعون بزوالنا ارضا وقادة وشعبا على كل منبر وفي كل ساحة ومحفل/وكفى٠ https://t.co/jmk0zDqW9N
— البعد الثالث (@alb3dal3) June 15, 2021
السعودية والبحرين.. الأعلى صوتًا
من اللافت للغاية أن حملات الانحياز القومي كان لها الزخم الأكبر في السعودية، عميدة البلدان الخليجية والشقيقة الكبرى، لكن هذا الإرث والمكانة وما يقابلهما من تحديات، جعل البعض يتململ منهما، ويرى في المصالح القومية للمملكة الأولوية القصوى على جيرانها، لهذا تصدّر هاشتاغ “السعودية أولًا” على فترات متقاربة مواقع التواصل الاجتماعي، منذ عام 2018 بعد تعقد الأزمة الخليجية.
ليس مجرد شعار نروّج له أو وسم تواصل اجتماعي لا بد أن نشارك فيه؛ إنه شعار مرحلة جديدة، تستلزم منا جميعًا التكاتف والتعاون.
كان لافتًا آنذاك مشاركة أطياف واسعة من ذوي المناصب الكبرى بالدولة في الهاشتاغ، الذي خرج بالأساس من الديوان الملكي السعودي، وتحديدًا من المستشار سعود القحطاني، وكان ذلك كافيًا حتى يصطفّ خلفه مشاهير الإعلاميين والكتّاب في حملة شبه ممنهجة بدأت في وقت واحد، واستمرت طويلًا في احتلال معظم مساحات الرأي بالصحف السعودية.
هذا الزخم جعل الحملة تنعكس بظلالها سريعًا على مواقع التواصل الاجتماعي، ولم تتوقف على التعبير عن المصالح السياسية والاقتصادية، بل أصبح هاشتاغ “السعودية أولًا” الأكثر فعالية في معالجة قضايا داخلية معقدة منذ سنوات، مثل أزمة الوافدين وسعودة الوظائف.
“ليس مجرد شعار نروّج له أو وسم تواصل اجتماعي لا بدّ أن نشارك فيه؛ إنه شعار مرحلة جديدة، تستلزم منا جميعًا التكاتف والتعاون، تحتاج منا أن نبذل الجهد بصدق، وأن نخلص فيما نعمل، وأن نضع مصلحة بلادنا قبل كل شيء، فنحن من يحقق شعار “السعودية أولًا” وليس آخرين”، يقول الكاتب عبد الرحمن السلطان في صحيفة “الرياض”، في سياق حملة إعلامية كبرى استمرت كثيرًا في الصحف السعودية.
بطريقة أخرى أكثر وضوحًا، يقول خالد الجار الله: “يجب أن يكون شعارنا في المرحلة القادمة السعودية أولًا، في أمنها واستقرارها وانتعاش اقتصادها ورفاهية مواطنيها، من حقنا أن ننادي بذلك وأن نورثه لأولادنا”.
#السعودية_أولا#كلنا_رجال_امن
السعودية خط أحمر و أي واحد يغلط عليها أقسم بالله العظيم أوريه نجوم الظهر pic.twitter.com/YqgRo9EPU6
— أحمد الضويلع (@AHMED_ALDH) June 7, 2021
البحرين
طارت الحملة القومية بالزخم نفسه إلى البحرين، لكن حملت نبرة أكثر شدة في التعصب، وأصبح شعار “البحرين أولًا” الأعلى تداولًا على مواقع التواصل الاجتماعي، بعد حملة مكثفة في الصحف والإعلام قام بها الكتّاب والمثقفون.
تقول الكاتبة البحرينية سوسن الشاعر: “قررت البحرين أن تنحاز لمصالحها الخاصة بقرار سيادي ليس لأحد أن يتدخل فيه، يفك الارتباط بين مصالحها ومصالح الفلسطينيين من بعد ربطها مدة تزيد على سبعين عامًا، دون أن تقف ضد مصالحهم، ودون أن تتوقف عن مساعدتهم إن طلب منها ذلك”.
تضيف الكاتبة: “لكن البحرين بالمقابل لن تعطل مصالحها ارتهانًا لرضا وقبول القيادات الفلسطينية وسماحها؛ فالقيادة البحرينية ملزمة بالحفاظ على أمن البحرين وعلى سلامة ومصالح شعبها بالدرجة الأولى، ومن ثم تأتي مصالح الدول الحليفة والشقيقة، ومنها مصالح الفلسطينيين”.
عُمان
لم يختلف الأمر كثيرًا في عمان، التي أفردت الصحف فيها مساحات واسعة للكتّاب والمثقفين لفلسفة شعار عمان أولًا، لكن بطريقة هادئة لتعميم المعنى داخليًّا وخارجيًّا، حسبما يقول الكاتب غازي الخالدي في جريدة “الرؤية”: “عمان أولًا هو الشعار الذي ينبغي أن نعمل من أجله، من أجل حاضرنا ومستقبلنا ومن أجل الأجيال القادمة”.
ترجم الرؤية نفسها محمد بن حمد المسروري، الذي كتب تحت عنوان “عمان أولًا وأخيرًا”، لكنه أضاف إليها تحذيرات من محاولات استهداف بلاده من “كل دول العالم”: “المتربصين بعمان الوطن وعمان الشعب، ليسوا قليلين على أي حال، ومبثوثون في كل قارات الأرض التي ننتمي إليها في الحياة وبعد الممات”.
الإمارات وقطر
في الإمارات وقطر، كان الأمر مختلفًا بعض الشيء، إذ لم تحتاج الأولى إلى هاشتاغات تترجم حاجتها إلى بلورة مصالحها الخاصة، سواء في ملف التطبيع أم غيره، وإن كان هاشتاغ “الإمارات أولًا” جرى استخدامه من أجل دعم المنتج المحلي على حساب الأجنبي.
أما قطر، فكان الشعار يمثل لها رغبة في الصمود ضد الحصار وأمام محاولات تقزيمها، وصار بالنسبة إليها سيادة قطر أولًا وأخيرًا، لكن دون التخلي عن القضايا العربية والإسلامية أو وضعهما في مقارنة مع مصالحها.
ما الحل؟
رغم هذه التعقيدات الكبيرة التي تمثلها التطلعات القومية المتزايدة، إلا أن القراءة المتأنية لتاريخ مجلس التعاون الخليجي منذ تأسيسه، يكشف أن المصالح القومية لكل دولة كانت موضع تقدير ولها الأسبقية على أي شيء آخر، وفقًا لحسابات الربح والخسارة، وربما كان ذلك سبب منح كل دولة الاستقلالية التي تناسبها في اتخاذ القرار.
استقلالية القرار كانت أحد أهم أسباب عدم تطوير اتفاقية الدفاع التقليدية للمجلس، رغم اشتراك دول الخليج في الاعتراف بالتهديد الذي يمثله برنامج إيران النووي والتخريب السياسي للمنطقة، لكن كل دولة احتفظت لنفسها بسياسات مختلفة تجاه كيفية التعامل مع إيران، حسب مصالحها ورؤيتها.
تضامن الخليجيون في قلقهم بشأن مستقبل السلاح النووي للجمهورية الإسلامية، بعد أن لمسوا تهاونًا من أميركا في الاهتمام بأمنهم القومي.
ربما لم يحدث من قبل صعود التعصب القومي لهذه الدرجة التي وصل إليها في السنوات القليلة الماضية، لكن تاريخ المجلس يكشف أيضًا أن التوترات بين دول الخليج تزداد حدة في أوقات الهدوء، ولكنها تتلاشى تمامًا عند التعرض لأمن أي دولة أو استقرار نظامها السياسي.
حدث ذلك عام 2011، عندما تعرض النظام البحريني للخطر خلال ثورات الربيع العربي، إذ تدخلت سريعًا قوة عسكرية تحت علم دول مجلس التعاون الخليجي، لإيقاف التمرد الشيعي المدعوم من إيران، ونجحت القوات في مهمتها، وتكرر التلاحم عام 2020 بعد الخروج من أزمة حصار قطر بالكثير من الشروخ، لكن الدول الست سارعت بإرسال خطاب جماعيّ يؤيد حظر الأسلحة المفروض على إيران.
تضامن الخليجيون في قلقهم بشأن مستقبل السلاح النووي للجمهورية الإسلامية، بعد أن لمسوا تهاونًا من أميركا في الاهتمام بأمنهم القومي، خلال المباحثات الجارية مع إدراة جو بايدن لحل الأزمة الإيرانية سلميًّا.
على هذا النحو دأبت دول المجلس على مدار 40 عامًا، تختلف بشدة وتتنافس حتى تقف على حدود الصراع، ثم تتعافى سريعًا من الخلافات الشخصية في كل أزمة يتعرض لها أحد البلدان، ويظهر المجلس درجة كبيرة من التنسيق والتعاون، إذ تقتنع النخب الحاكمة في الخليج حتى الآن بأهمية بقاء المنظمة وتقويتها.
يرى الجميع أنه لا مصلحة لأحد في تفتيت بيت الخليج وتصعيد المشكلات بينهم طالما يمكن حلها، دون أن يخل ذلك بحق كل دولة في التفكير بمصالحها منفردة، حتى لو تضاربت مع مصالح دولة أخرى، أو صعدت الروح القومية لكل دولة إلى أبعد من ذلك.