أسدل الكنيست الإسرائيلي، بالثقة التي منحها للحكومة الجديدة التي يترأسها زعيم حزب “يمينا” (يمين)، نفتالي بنيت، بالأمس 13 من يونيو/حزيران 2021، الستار على حقبة بنيامين نتنياهو (71 عامًا)، التي تشكل واحدة من أخطر المحطات السياسية في تاريخ الدولة العبرية، فقد مكث قرابة 15 عامًا، منها 12 متتالية (بين عامَي 1996 و1999، وبين عامَي 2009 و2021) كرئيس للحكومة.
وبذلك بات رئيس الحكومة المنتهية ولايته، خارج السباق رسميًّا، رغم المحاولات التي بذلها من أجل التشبث بالكرسي وإجهاض أي تحركات من شأنها أن تطيح به من منصبه، الذي حاول الدفاع عنه قدر الإمكان، إيمانًا بأنه الضمانة الوحيدة للإبقاء عليه طليقًا في ضوء ما يتعرض له من اتهامات وانتقادات لاذعة.
ومع انتهاء جلسة التصويت التي استغرقت قرابة 5 ساعات، فرضت العديد من التساؤلات نفسها على ألسنة المراقبين بشأن مصير نتنياهو خلال المرحلة المقبلة، وسط حزمة من التكهنات والسيناريوهات التي تحدد مستقبله، الذي يبدو أنه سيتأرجح بين الشك والغموض.
على مقاعد المعارضة.. مؤقتًا
السيناريو الأقرب زمنيًّا، على الأقل خلال الأيام القادمة، أن ينتقل نتنياهو من كرسي رئاسة الوزراء إلى مقاعد المعارضة داخل الكنيست، وهو الكرسي الذي سيسعى من خلاله رئيس الحكومة المطاح به إلى إعادة تشكيل قوته مرة أخرى، بما يعيد نفوذه المفقود مرة أخرى.
نتنياهو في كلمته أمس أمام البرلمان، قبل أن يؤدي بنيت اليمين الدستورية، كشف صراحة عن نيته خلال المرحلة المقبلة، حين قال: “إذا كان من المقدر لنا أن ندخل المعارضة فسوف نفعل ذلك ورؤوسنا مرفوعة حتى نتمكن من الإطاحة بها (الحكومة)”، مضيفًا بلغة ثابتة أن ذلك سيحدث “في وقت أقرب مما يعتقده الناس”.
حاول بنيامين جاهدًا خلال الأيام الماضية إجهاض جلسة الكنيست، للحيلولة دون منح الثقة للائتلاف الحكومي الجديد، مستعينًا بعدد من الحلفاء وعبر خطاب شعبوي بامتياز، لكن المحاولات باءت بالفشل، مستقبلًا بذلك سياسة حليفه الحميمي، الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب.
تدشين كيان معارض قوي داخل البرلمان، في ظل تقارب توازن القوى مع القاعدة البرلمانية للائتلاف الحكومي الجديد، سيكبّل بلا شك يد تحالف بنيت-لبيد، الذي من المرجح أن يسعى لتجنب الصدام مع المعارضة، على الأقل بداية عمله، لتفويت الفرصة عليها، وهو ما يمكن أن يرسم بصورة أو بأخرى خريطة التوجهات الأولية لتلك الحكومة، التي من المرجح أن تنصبّ على الإصلاحات المحلية، بعيدًا عن الدخول في القضايا السياسية الشائكة خارجيًّا.
زعامة الليكود على المحك
لكن بقاء نتنياهو على قمة هرم المعارضة، لتحقيق أهدافه السياسية بعرقلة عمل الحكومة الجديدة تمهيدًا للإطاحة بها، ربما يكون محل شك لاحقًا، فالتصويت على منح الثقة لتحالف بنيت-لبيد هو تصويت في الوقت ذاته على زعامة حزب الليكود، الذي تربع رئيس الحكومة المنتهية ولايته على عرشها لسنوات طويلة.
استمرار نتنياهو زعيمًا للمعارضة في الكنيست، بعد مغادرة منصبه كرئيس للوزراء، ربما يرفضه المنافسون له داخل الكنيست، حسبما أشار الصحفي البريطاني باتريك كينغسلي، في صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية، الذي كشف أنه بمجرد ترك وظيفته الحكومية، ستضعف سلطته على المنافسين على قيادة الحزب، فلم يعد بمقدوره إغراء أو رشوة مسؤولي الليكود بتعيينات أو مزايا ومنح وعطايا، مثلما وقت كان على كرسيه.
أشار كينغسلي إلى أن الوضعية تلك، ستشجع المعارضين لنتنياهو في الحزب على التحرك للإطاحة به من هرم الزعامة، لافتًا إلى أن خروجه من الليكود ربما سيفتح الباب أمام 3 أحزاب يمينية للانضمام إليه، ما يعطيه أغلبية برلمانية تساعده على تشكيل الحكومة مستقبلًا.
وتزخر قائمة المنافسين لنتنياهو على قيادة الليكود بالعديد من الأسماء المعروفة للشارع الإسرائيلي، من بينهم وزير الصحة يولي إدلشتاين ونير بركات، رئيس بلدية سابق، بالإضافة إلى يسرائيل كاتس وزير المالية، وداني دانون رئيس الفرع الدولي لحزب الليكود، غير أن المرشح الأوفر حظًّا بحسب استطلاعات الرأي، فهو مدير الموساد يوسي كوهين.
حتى ينجو بنفسه من مقصلة السجن، ليس أمام رئيس الحكومة السابق سإلا العودة إلى رئاسة الوزراء مرة أخرى في انتخابات سريعة، وهذا يتطلب تفكيك الحكومة الحاليّة وإفشالها
هل يواجه السجن؟
السيناريو الأكثر قتامة يتمحور حول السجن كمصير محتمل لرئيس الوزراء السابق، الذي يواجه حزمة من القضايا الخاصة بالفساد والخيانة وإهدار المال العام، والمعروفة إعلاميًّا باسم القضايا 1000 و2000 و4000 بحسب قائمة الادعاء، التي وجّهها المدعي العام الإسرائيلي أفيخاي ماندلبليت.
اتُّهم نتنياهو في القضية الأولى 1000 بتلقيه وأفراد من عائلته رشاوى بقيمة 750 ألف شيكل (240 ألف دولار)، من المنتِج الإسرائيلي الهوليودي أرنون ميلتشان، و250 ألف شيكل من الملياردير الأسترالي جيمس باكر، أما القضية الثانية 2000 المعروفة باسم قضية “يديعوت أحرونوت”، فكان الاتهام فيها الاتفاق مع مالك الصحيفة العبرية لتقديم أخبار إيجابية عن الحكومة والابتعاد عن الأخبار السلبية.
وفيما يتعلق بالقضية الثالثة والأخيرة 4000، والمعروفة بقضية شركة الاتصالات “بيزك” (أكبر مجموعة اتصالات في “إسرائيل”)، فيتهم فيها نتنياهو بتلقي رشاوى مالية كبيرة، وتوصف تلك القضية بأنها الأصعب والأخطر وربما تمهد الطريق أمام سجنه.
تشبُّث نتنياهو بالكرسي خلال الآونة الأخيرة، كان بهدف الحيلولة دون تقديمه للمحاكمة حال خسارته منصبه، وهو ما أشار إليه البروفيسور يورام يوفال في مقال له بصحيفة “يديعوت أحرونوت”، حين قال: “نتنياهو لا يقاتل اليوم من أجل حكمه، بل من أجل حريته وحياته حرفيًّا، وبالتالي فلن يستسلم أبدًا، ليس لديه خيار آخر، فالعقوبة التراكمية للجرائم المنسوبة إليه تبلغ 19 عامًا، وهذه مجرد بداية القصة، وهو يدرك أنه في اليوم الذي يتوقف فيه عن رئاسة الوزراء سيفتح الكثير من الصامتين أفواههم، وستكون تلك نهاية الأمر”.
ويرى الصحفي المتخصص في الشأن الإسرائيلي، أمجد العُمري، أن “الإطاحة بنتنياهو من رئاسة الوزراء، ستكون لها أبعاد جديدة في الساحة السياسية بـ”إسرائيل””، مضيفًا “عدم وجوده على كرسي الوزارة، سيمنعه من عرقلة محاكمته في قضايا الفساد المتهم بها”.
وأضاف أن رئيس الحكومة المنتهية ولايته على مدى السنوات القليلة الماضية، استغل منصبه لوضع عراقيل أمام محاكمته، مستغلًّا الظروف التي طرأت بسبب انتشار فيروس كورونا، لكن الآن، وبعد الإطاحة به رسميًّا، ستتسارع محاكمته بقضايا الفساد، فهو الآن مجرد عضو كنيست لا يملك قوة سياسية”، بحسب تصريحاته لـ”الأناضول”.
وفي المقابل، هناك من يرى أن نتنياهو لن يرفع الراية البيضاء، ولن يترك نفسه يصل إلى الاعتقال والزج به في السجن على خلفية القضايا المرفوعة بشأنه، فوفق الخبير في الشأن الإسرائيلي، عادل شديد، فإن “نتنياهو سيعمل جاهدًا حتى لا يصل إلى مرحلة يتم فيها اعتقاله بسبب قضايا الفساد المتهم بها”.
وحتى ينجو بنفسه من مقصلة السجن، ليس أمام رئيس الحكومة السابق إلا العودة إلى رئاسة الوزراء مرة أخرى في انتخابات سريعة، وهذا يتطلب تفكيك الحكومة الحاليّة وإفشالها، كما تعهّد في كلمته بالأمس أمام البرلمان، وقد يساعد على ذلك هشاشة الائتلاف الجديد الذي يعاني من غياب التناغم الأيديولوجي، فهو مزيج من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، ومفتقد للقواسم المشتركة ما عدا الاتفاق على التخلص من نتنياهو.
البعض قد يتوقع أن التصويت لصالح الحكومة الجديدة يعني طيّ صفحة الزعيم الليكودي المتعجرف بصورة نهائية، وعزوف الأضواء وكاميرات الإعلام عن نشاطاته وتحركاته، لكن المؤشرات تذهب إلى غير ذلك، فالأيام القادمة من المتوقع أن تشهد حراكًا على أكثر من اتجاه، يفرض به نتنياهو نفسه على ساحة الحضور مرة أخرى، لكن بأي طريقة ومع أي سيناريو من السيناريوهات الثلاث سالفة الذكر؟ هذا ما سيتم كشفه تباعًا شيئًا فشيئًا.