ترجمة: حفصة جودة
في يوليو/تموز 1995 انتشرت صورة على صفحات الجرائد الأولى في جميع أنحاء العالم، كانت الصورة لامرأة ترتدي تنورة بيضاء وسترة حمراء معلقة على شجرة في غابة خارج سربرنيتسا شرق البوسنة، كانت التعليق أسفل الصورة يقول: “المرأة المشنوقة”، قالوا إن هذه الصورة تساوي ألف كلمة، وإنها قالت كل شيء عن الحرب في البوسنة والهرسك.
إنها تخبرنا عن الخيانة في سربرنيتسا حيث وقعت أسوأ إبادة جماعية في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية قبل أيام فقط من التقاط الصورة، إنها ترمز إلى جريمة التطهير العرقي التي كانت تحدث في البوسنة ويأس وقنوط مسلمي البوسنة الذين كانوا ضحاياها، كانت إدانة للامبالة العالم أجمع للواقع المظلم الذي يحدث على أعتاب أوروبا الغربية وفشلهم في إيقافه.
هذه المرأة المجهولة كانت إحدى ضحايا صراع خلف وراءه 100 ألف قتيل واغتصاب ما بين 20 ألف إلى 50 ألف فتاة وامرأة ونزوح نحو 2.7 مليون شخص قبل بداية تلك الحملة البربرية، لولا الصورة، كان موتها ليمر دون ملاحظة مثل الآخرين، ويبدو من غير المحتمل أن لا نعرف اسمها أو قصتها.
لقد ذهبنا إلى قبرها ولم يكن هناك اسم، كان مكتوب “مشنوقة” فقط على شاهد القبر الخشبي
في الأسبوع الماضي، خسر قائد الحرب البوسني الصربي السابق الجنرال راتكو ملاديتش الملقب بـ”جزار البوسنة” الذي كان مسؤولًا عن مذبحة سربرنيتسا، استئنافه على الحكم بالسجن مدى الحياة بسبب الإبادة الجماعية وجرائم الجرب والجرائم ضد الإنسانية.
ثم تذكرت المرأة المشنوقة، استغرق الأمر عدة أشهر لمعرفة هويتها لكننا تمكنا من ذلك، كان اسمها فريدة عثمانوفتش وكان عمرها 31 عامًا حينها، أما زوجها سلمان – 37 عامًا – فقد كان من بين نحو 8 آلاف رجل وصبي أخذتهم القوات البوسنية الصربية من سربرنيتسا وذبحتهم.
في أبريل/نيسان 1996 سافرت مع المصور لين هيلتون إلى قرية خارج توزلا شمال شرق البوسنة، هناك وجدت طفلي فريدة وسلمان: دامير 13 عامًا وفاطمة 10 أعوام، حيث كانا يعيشان مع جدتهما لأبيهما وبقية أقاربهما، كانت واحدة من أتعس المقابلات التي أجريتها على الإطلاق.
قالت لنا فاطمة: “نحن نعلم أن والدتنا شنقت نفسها، لقد ذهبنا إلى قبرها ولم يكن هناك اسم، كان مكتوب “مشنوقة” فقط على شاهد القبر الخشبي، لذا كتبنا اسمها بقلم فلوماستر”.
يتذكر دامير الساعات التي سبقت اختفاء والدته فيقول: “كانت ليلتنا الثانية في المخيم وكانت والدتنا قد وضعتنا في الفراش، كنا ننام على الطريق الأسفلتي بالبطانيات، قالت لنا أحبكما وتصبحان على خير ثم رقدت بجوارنا، بعدها استيقظت في منتصف الليل ولم تكن هناك”.

في يوم 16 من يوليو/تموز تغلبت فريدة على حزنها لفقدان زوجها وذهبت إلى الغابة القريبة، وهناك صنعت ضفيرة من حزامها الأسود وشال بني لصنع مشنقة، في الساعة السابعة والنصف صباحًا لليوم التالي وجدت مجموعة من الأطفال جثتها، التقط الصورة مصور حر كرواتي يدعى داركو بانديك، الذي لم يكتشف لمن الصورة إلا بعدها بكثير.
مثل العديد من سكان البوسنة، كانت عثمانوفتش عائلة عادية تعيش في منزل متواضع ولديها أحلام بسيطة لمستقبل مسالم، كانت أجيال من عائلة عثمانوفش قد زرعت الأرض في بودسيفار على بعد 20 ميلًا من سربرنيتسا قرب الحدود مع صربيا، تزوج سلمان – الذي كان يعمل صانعًا للأقفال – من فريدة ابنة المزارع عام 1980.
في عام 1992 عندما انتشرت الحرب في البوسنة من كرواتيا المجاورة، بدأت القوات البوسنية الصربية في إخراج البوسنيين من منازلهم، فر سلمان وفريدة مع أطفالهما إلى سربرنيتسا، حيث اعتقدا أنهم سيكونوا بأمان، لكنهما كانا مخطئين.
ما حدث في سربرنيتسا موثق جيدًا وسيعد واحدًا من أكثر الإخفاقات المخجلة في تاريخ المجتمع الدولي، لقد أعلنت الأمم المتحدة المدينة ملاذًا آمنًا، وأخبروا مواطنيها المسلمين الذين ازدادت أعدادهم بشكل كبير بسبب اللاجئين، أن يسلموا أسلحتهم لقوات حفظ السلام الدولية.
لا يزال الكثير من مجرمي الحرب يعيشون بحرية في البوسنة دون محاكمة، ويلتقون ضحاياهم في الشوارع كل يوم
تخلت الأمم المتحدة بعد ذلك عن سربرنيتسا وسلمتها لمصيرها الدموي، من يستطيع أن ينسى صورة ملاديتش وهو يمسك بشدة بشعر شاب صغير في المدينة قبل أن يسير جميع الرجال والصبيان إلى مكان قتلهم.
تقول حبيبة عثمانوفتش والدة سلمان إنه رفض الفرار إلى الغابات مثلما فعل البعض دون عائلاتهم، كان متفائلًا ويضع ثقته بالغرب، بينما قالت فاطمة ابنته: “ليس لدينا أب والآن ليس لدينا أم”، بكى جميع من في الغرفة بمن فيها لين وأنا.
عندما خسر ملاديتش استئنافه أعدت تغريد تلك القصة التي كانت منشورة في جريدة “الميل” يوم الأحد 14 من أبريل/نيسان عام 1996 قبل ظهور المواقع الإلكترونية للصحف (السجل الوحيد لها الآن مجرد قصاصات صفراء)، كانت استجابة المجتمع البوسني في البلاد وخارجها في الشتات يقول إنهم يشعرون بأن معاناتهم أصبحت منسية.
كتب روزمير هادزيتش من ميلبورن يقول: “يجب أن يعلم العالم من الضحية ومن المعتدي، بعد سنوات كثيرة، 26 عامًا تحديدًا منذ نهاية العدوان، لا يزال الكثير من مجرمي الحرب يعيشون بحرية في البوسنة دون محاكمة، ويلتقون ضحاياهم في الشوارع كل يوم، الذين لا يملكون أن يفعلوا شيئًا بسبب السياسات القذرة”.
تحدثت مع إيرينا كوريتش التي كان عمرها 6 سنوات وتعيش في سراييفو عندما بدأت حرب البوسنة وتعيش الآن في طوكيو، كان ملاديتش أيضًا مهندس الحصار الذي استمر 43 شهرًا على عاصمة البوسنة حيث قتل أكثر من 11 ألف شخص بينهم ألفا طفل بواسطة القذائف والقنابل والقناصة.

تقول كوريتش: “يعني لنا الكثير أن نعلم أن الناس ما زالوا يفكرون بنا، لقد كنت طفلة لزواج مختلط بين “بوسنية صربية” و”بوسني مسلم” لقد وضعتهم بين الأقواس لأن هذه المصطلحات لم تكن ذات معنى قبل الحرب”.
“أطلق ملاديتش العنان للكثير من الشر لكنه فشل في النهاية وسوف يتعفن في السجن، إنه نوع من العدالة لكنه لن يعيد آلاف الأرواح المفقودة، لا يدرك الناس كم كان الأمر مروعًا، لم يشاهدوا من قبل طفلًا يموت بطلقة في رأسه من قناص وهو في طريقه للمدرسة”.
أخبرني إبراهيم سوفيتش – الذي يعمل صحفيًا في خدمات قناة الجزيرة بالبلقان – قائلًا: “من الصعب أن نفهم أن أوروبا سمحت لكل هذه الجرائم وكل هذا الشر لأن يحدث في البوسنة في التسعينيات، ومن الصعب أن نصدق أن أوروبا والعالم تعلموا درسهم من مأساة البوسنة، لقد فقدنا طفولتنا وصحتنا وبعض أجزاء جسدنا وعائلاتنا وأصدقاءنا، لقد شاهدت أوروبا والعالم كله ذلك وغضوا الطرف عنه”.
لجأ أمير سولياجيتش – مدير النصب التذكاري لسربرنيتسا ووزير التعليم البوسني السابق – إلى سربرنيتسا في أوائل التسعينيات، ونجا فقط من المذبحة لأنه كان يعمل مترجمًا فوريًا لدى الأمم المتحدة، رحب سولياجيتش بالحكم على ملاديتش، لكنه قال إن الفصل لم ينته بالنسبة للبوسنيين.
“لم ينفذ ملاديتش التطهير العرقي في سربرنيتسا وحده، متى سنتعامل مع الأشخاص الذين عملوا معه؟ الجميع يعلم من هم، والقضاء البوسني يعلمهم جيدًا، هؤلاء الأشخاص قتلة جماعيون وغارقون في الدم، لكنهم يمشون في الشوارع كرجال أحرار، هذا يعني أن الشعب البوسني ما زال لا يشعر بالأمان التام، ومن يستطيع أن يلومهم على ذلك؟”.
نجا دامير وفاطمة من الحرب وعادا لزيارة سربرنيتسا، وكلاهما لا يصدقان أنهما ما زالا يعيشان في البوسنة، كانت هناك الكثير من الفظائع الأخرى في البلاد، وهذه القصة لم تكن حتى أسوأهم، لكنها كانت من أكثر القصص المفجعة والمهمة، فالصحافة بعد كل شيء تتعلق بتسمية المجهول.
لم تكن “المرأة المشنوقة”: كان اسمها فريدة عثمانوفيتش.
المصدر: الغارديان