بداخل شارع العلوي، وعلى مقربة من الميدان الرئيسي لمنطقة جدة التاريخية، والتي تعرَف اليوم بـ”جدة البلد” في المنطقة الغربية بالسعودية، يقع إحدى أكثر اللوحات الفنية المعمارية روعة وجمالًا في تاريخ المملكة، تلك اللوحة التي بُنيت على شكل مسجد، أطلق عليه اسم “المعمار”، ويعود تاريخه لأكثر من 4 قرون ونصف.
المسجد الذي يعود تاريخ نشأته إلى عام 1093هـ (1682م)، حسب ما هو منقوش في قمة محراب الصلاة بالمسجد، سمي باسم منشئه مصطفى معمار باشا، أحد ولاة جدة العثمانيين، ويحتل المرتبة الثانية في قائمة أقدم المساجد الأثرية بالسعودية، وذلك بعد مسجد الشافعي، الذي تعود نشأته لـ 8 قرون مضت، والذي يقع في جدة كذلك.
ويمزج هذا المسجد الذي بناه الوالي العثماني من أجل المواظبة على إقامة الصلاة جماعة فيه، بين روعة التصميم كإحدى العلامات المضيئة في تاريخ فن العمارة الإسلامية، وعبق الحضارة كونه أحد الأثار الضاربة بجذورها في عمق التاريخ، ومن ثم كانت تلك الشهرة الفائقة.
لم يكن المعمار هو المسجد القديم الوحيد في جدة، فهناك العديد من المساجد الأخرى، والمحصورة في الحارات الأربع الرئيسية في تلك المدينة العتيقة (الشام، المظلوم، اليمن والبحر)، أبرزها: الشافعي، عثمان بن عفان، الباشا، عكاش ومسجد الحنفي، غير أن المعمار تحديدًا يعد أكثرهم شهرة ومكانة.. فماذا نعرف عن هذا المسجد؟
لوحة فنية رائعة
تشعر منذ الوهلة الأولى لدخولك المسجد، أنك بالمسجد النبوي الشريف في المدينة المنورة، فالسقوف الخشبية الممتدة على جنباته والقناديل المنتشرة في سطحه وعلى جدرانه، تأخذك برحلة عابرة على جناح السرعة، إلى ساحات الجمال الأبدية، وكأنك تطوف بداخل لوحة زيتية متباينة الألوان.
يثير المسجد بحلته الحالية بداخل زواره الحنين نحو العمارة الإسلامية القديمة، فالتصميم العثماني الذي يخيم عليه يضفي قدسية ومهابة قلما تشعر بهما في أي مسجد أو دار عبادة، هكذا وصفَ الأثري أحمد الرشيدي، الباحث المتخصص في التاريخ الإسلامي، أول لحظات له تطأ فيها قدماه ثرى المسجد.
ومع أول خطوة لك بالمسجد، يسلب الأنظار ذلك الحزام الطويل، المدون عليه عدد من آيات القرآن الكريم، بالنقوش العثمانية الجميلة، تجبرك ألا تدعها إلا وقد أنهيتها من كثرة ما تتمتع به من جاذبية تأسر القلوب قبل الأعين، وبعد خطوات قليلة إذ بالقبة الخشبية التي تتحول وسط النهار إلى شعاع نور يربط بين الأرض والسماء.. يواصل الرشيدي وصفه.
وعلى غرار الحرمَين الشريفَين، فإن أكثر ما يميز مسجد المعمار تلك “المكبرية” الخشبية الرائعة، التي يصعد إليها مؤذن المسجد لرفع الأذان من فوقها، إذ تتضمن نقوشًا لافتة للنظر وبعض القطع الخشبية المصنوعة بطريقة الأرابيسك، التي اشتهرت بها العمارة الإسلامية في عصر العثمانيين.
صُمم المسجد بطريقة هندسية مميزة، فرغم بنائه قبل 4 قرون تقريبًا، إلا أنه راعى البعد الجغرافي في مسألة الطرق المؤدية للمسجد، فخصص له طريقَين للوصول، تيسيرًا على المصلين، جهة ناحية الشرق وهنا يجب صعود الدرج، ومن يأتي من ناحية الشمال فيصل مباشرة إلى الباب.
إعمار المسجد
قبل عام 2018 كان يعاني المسجد -كغيره من المساجد التاريخية في جدة- من إهمال لافت للنظر، أفقده بريقه، أدى إلى عزوف المصلين عنه، قهرًا ورغبة، في ظل الحالة المزرية التي كان عليها، لكن بعد محاولات مستمرة، وُضع هذا الأثر الكبير تحت مجهر العناية والاهتمام.
شُمل المسجد ضمن برنامج “إعمار المساجد التاريخية” الذي تنفذه الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني السعودية، بالشراكة مع وزارة الشؤون الإسلامية ومؤسسة التراث الخيرية، بهدف إعادة الحياة مرة أخرى للمعالم الأثرية التاريخية في تلك المنطقة الزاخرة بالآثار الإسلامية.
استغرق ترميم المسجد عدة سنوات، وتحمل كلفته كاملة العاهل السعودي الراحل، الملك عبد الله بن عبد العزيز، ليصبح المسجد الثالث الذي تم ترميمه على نفقة الملك، بعد مسجد طبب والشافعي في منطقة جدة البلد بالمدينة السعودية الساحلية.
وعاد مسجد المعمار إلى الأضواء مرة أخرى، حين أدى المصلون فيه صلاة التراويح لأول مرة في رمضان 2018، عقب افتتاح الأمير سلطان بن سلمان بن عبد العزيز، رئيس الهيئة العامة للسياحة، له، ليتحول بعد ذلك إلى قبلة دائمة للمسلمين في جدة.
وخلال عملية الترميم، تم اكتشاف عدد من آبار المياه التاريخية التي كانت تغذي المسجد، والتي لم تكن معروفة لدى مسؤولي المملكة ولا المصلين من قبل، حيث اكتشف بئر بلغ قطره 1.60 مترًا وعمق 3 أمتار (مبني من حجر من نوع خاص يسمى بـ”المنقبي”، يستخرج من ساحل البحر والبيئة المحيطة به)، هذا بخلاف مجرى مائي آخر كان يستخدم في حال شحّ المياه في البئر.
ونظرًا إلى مكانته الأثرية وقيمته التاريخية، تحول مسجد المعمار إلى قبلة للأتراك والعثمانيين القادمين للحج أو للعمل في السعودية، حيث حرص القادمون من تركيا على أداء الصلاة في المسجد، عقب الانتهاء من الصلاة في المسجد النبوي في المدينة المنورة، حيث كانوا يستقبلونه في طريق العودة، ومنهم من كان يرتاده قبل الذهاب للحرم النبوي.
لم يكن سكان جدة ولا الأتراك وحدهم الحريصون على الصلاة في هذا المسجد، بل إن غالبية زواره من أطراف جدة قادمون إما للتسوق وإما للسياحة وإما لمطالعة المعالم الأثرية، فجذور المبنى الضاربة في عمق التاريخ، وما يتمتع به من طراز معماري فريد، كانا دافعَين قويَّين لتحمل مشقة السفر لأداء الصلاة فيه، وإن لم يكن بحجم وسعة وتطوّر المساجد الأخرى الحديثة، إلا أنه الأقرب إلى النفوس والأكثر جذبًا للأفئدة.
الآثار العثمانية في السعودية
رغم موجات المد والجذر التي شهدتها العلاقات السعودية العثمانية، منذ مبايعة الأسرة الهاشمية الحاكمة في الحجاز السلطان العثماني عام 1517، وما تلاها من محطات تناغم وتنافر، إلا أن الدولة العثمانية وخلال فترة احتضانها للمدن المقدسة، مكة المكرمة والمدينة، استطاعت أن تترك العديد من المعالم الأثرية، التي ما زالت تخلد تلك الحقبة المهمة في تاريخ المملكة.
كان العثمانيون يتعاملون مع كل دولة يقومون بفتحها على أنها جزء أصيل من الحضارة والدولة الأم، يوفرون لها كل مقومات النهوض والتنمية، ينقلون خبراتهم لها في شتى المجالات، يؤهلون شعبها ونخبتها للقيادة من أجل رفعة بلادهم، ولم يبخلوا على أحد بما لديهم من مخزون معرفي أو اقتصادي أو ثقافي.
ومن ثم تركت الدولة العثمانية خلفها خارطة مطولة من المعالم والمآثر، في شتى الدول التي خضعت يومًا ما للسلطان العثماني، ورغم مساعي التشويه المتعمد للتاريخ، تحقيقًا لأهداف سياسية معاصرة، تظل تلك المعالم خير شاهد على ما أنجزته تلك الحضارة على أرض الواقع، في وقت كانت أوروبا فيه غارقة في وحل الظلام.
ولم يكن مسجد المعمار التاريخي الشاهد الوحيد للآثار العثمانية في المملكة السعودية، فهناك العديد من المعالم الأخرى الشهيرة، منها على سبيل المثال قلعة قباء الواقعة على بعد 1500 متر من مسجد قباء المعروف، وهي القلعة التي بناها القائد العسكري العثماني فخري باشا، لتحصين المدينة المنورة ضد الهاشميين وحلفائهم، بجانب الزود عنها خلال الحرب العالمية الأولى.