شهدت قمة حلف الناتو المنعقدة في العاصمة البلجيكية بروكسل، والتي انطلقت بمشاركة زعماء وقادة دول الحلف البالغ عددها 30 دولة، سلسلة من اللقاءات الثنائية الغاية في الأهمية بين تركيا من طرف وكبار قادة حلف الناتو من طرف آخر، حيث تسعى تركيا بقدر سعي دول الحلف لوضع حد للخلافات وترميم العلاقات والعودة بالتعاون المشترك إلى سابق عهده.
تلعب تركيا دورًا رئيسيًّا في خارطة طريق حلف الناتو للعشر سنوات المقبلة، والتي يأتي على رأسها حماية حدود الحلف ومواجهة التحديات المختلفة، فضلًا عن الحرب على الإرهاب والمشاركة في عمليات التدريب والحماية وحفظ السلام، خصوصًا حماية مستقبل أفغانستان بعد إعلان دول الحلف عن بدء سحب قواتها من هناك.
وخلال القمة التي يحضرها الرئيس الأميركي جو بايدن لأول مرة، تم عقد اللقاء الذي طال انتظاره بين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ونظيره الأميركي، حيث تمّت مناقشة بعض ملفات الخلاف التي أدت لتدهور العلاقات بين الطرفين في السنوات الأخيرة، أبرزها منظومة الدفاع الجوي الروسية إس-400، وأزمة صراع الغاز شرق المتوسط، والملف الليبي، بالإضافة إلى ملف الحرب ضد الإرهاب والدعم الأميركي لتنظيمَي وحدات حماية الشعب وحزب الاتحاد الديمقراطي الإرهابيَّين.
ملفات خلاف عالقة
من أبرز الأزمات التي عصفت بالعلاقات بين أنقرة وحلفائها في حلف الناتو، الخلاف الذي يطفو منذ مدة على مياه شرق المتوسط بين تركيا من جهة واليونان وحلفائها من جهة أخرى، حيث تحاول اليونان بمساعدة فرنسية رفقة دول أخرى في حلف الناتو، محاصرة تركيا داخل رقعة بحرية صغيرة في مياه المتوسط مقابل شواطئ أنطاليا، واستثنائها رفقة جمهورية شمال قبرص من حقوقهما في التنقيب عن مصادر الطاقة الطبيعية شرق المتوسط.
ذلك فضلًا عن محاولات يونانية فرنسية لاستدراج تركيا لصراع عسكري، خصوصًا بعدما اتهمت باريس سفنًا حربية تركية باعتراض سفن فرنسية في شرق المتوسط، وطالبت باتخاذ إجراءات ضد تركيا داخل الحلف الذي فضّل عدم التصعيد آنذاك، لكن كان لتركيا رأي آخر من خلال توقيعها لاتفاقية ترسيم الحدود البحرية مع الحكومة الليبية السابقة، الأمر الذي كان بمثابة الصفعة على وجه اليونان وحلفائها.
ويعتبر ملف مكافحة الإرهاب من أهم ملفات الخلاف بين أنقرة والحلف، ففي الرسالة المصورة التي سجلها الرئيس التركي إلى جلسة تحمل اسم “المساهمة في الاستقرار” لمنتدى بروكسل، الذي يعقد على هامش قمة الناتو، قال أردوغان إن بلاده لم تحصل على الدعم المنشود من حلفائها في حربها ضد التنظيمات الإرهابية.
كما أشار إلى أن تركيا تساهم في كافة المبادرات الرامية لتحقيق الاستقرار من العراق إلى أفغانستان، ومن القوقاز إلى البلقان، ومن البحر الأسود إلى المتوسط، وهي الدولة الوحيدة داخل الناتو التي حاربت داعش وجهًا لوجه، وقدمت شهداء وحيّدت نحو 4 آلاف من عناصره الإرهابية.
وفي أواخر شهر فبراير/ شباط العام الماضي، تعرضت المواقع العسكرية التركية في إدلب إلى هجوم صاروخي من قبل قوات النظام في سوريا، طالبت أنقرة على إثر ذلك مساعدة حلف الناتو، مستغلة المادة 4 من معاهدة الحلف من أجل دفع الحلفاء للتحرك، لكن الحلف لم يحرك ساكنًا واكتفى بإبداء تضامنه مع تركيا فقط، فيما قام الاتحاد الأوروبي بإبداء قلقه وفضّل الانتظار.
وفي السياق ذاته، تصاعد التوتر في العلاقات بين تركيا والولايات المتحدة، بعد رفض واشنطن لسنوات عروض شراء أنقرة لأنظمة باتريوت الخاصة بالدفاع الجوي، وتوجُّهها نحو موسكو والقيام بشراء منظمة إس-400 للدفاع الجوي، الأمر الذي جرى اعتباره وقتها بمثابة طعنة خيانة في خاصرة حلف الناتو.
وجراء ذلك جرى معاقبة تركيا من خلال فرض عقوبات شكلية، بالإضافة إلى إخراجها من برنامج المقاتلة الحربية من الجيل الخامس إف-35، على الرغم من توقيع أنقرة لمعاهدة شراء 100 طائرة، ومشاركة الشركات التركية في تصنيع 937 جزءًا من قطع غيار الطائرة.
وترفض تركيا رفضًا قاطعًا مساعدة الولايات المتحدة الأميركية لتنظيمَي وحدات حماية الشعب وحزب الاتحاد الديمقراطي شمال سوريا، اللذين تصنفهما تركيا بالإرهابيَّين، وتعتبرهما امتدادًا لتنظيم حزب العمال الكردستاني الإرهابي، حيث تسعى هذه التنظيمات لإقامة كيان كردي انفصالي في الشمال السوري بدءًا من الحدود العراقية شرقًا، وصولًا لمياه البحر الأبيض المتوسط غربًا، الأمر الذي تعتبره تركيا تهديدًا قوميًّا لها.
لقاء أردوغان مع بايدن
التقى الرئيس الأميركي جو بايدن نظيره التركي رجب طيب أردوغان، يوم الاثنين، على هامش قمة حلف الناتو المنعقدة في العاصمة البلجيكية بروكسل، في أول لقاء لهما منذ تولي بايدن الرئاسة بداية العام الجاري، حيث استمر اللقاء الذي وُصف بـ”الجيد للغاية” لنحو 45 دقيقة، بحسب “وكالة الأناضول”.
وعقب اللقاء، قال الرئيس الأميركي إنه عقد “اجتماعًا جيدًا للغاية” مع نظيره التركي دون التطرق لأية تفاصيل أخرى. من جانبه، قال الرئيس التركي: “اتفقنا على استخدام قنوات الحوار المباشرة بشكل فعال ومنتظم بما يليق بالحليفين والشريكين الاستراتيجيين”، وأضاف: “ناقشنا بنهج بنّاء فرص التعاون في المجالات ذات المصالح المشتركة”، ولفت إلى أنه “حين دعوته لزيارة تركيا أكد أنه قد يأتي”.
وأشار أردوغان إلى أنه ناقش مع بايدن الوضع في أفغانستان، حيث أبدى استعداد أنقرة لإبقاء قواتها العسكرية في أفغانستان من أجل حماية مطار كابول عقب انسحاب قوات حلف الناتو، ولفت أردوغان “إلى أنه أبلغ بايدن برؤية أنقرة بشأن الاستعانة بباكستان والمجر إلى جانب تركيا، في تأمين مطار كابول”، خصوصًا بعد تخوف الحلف من إهمال حركة طالبان، فضلًا عن تخوفهم من زيادة النفوذ الروسي بعد خروجهم من هناك.
وبخصوص قضية إس-400 التي تعتبر أبرز ملفات الخلاف على الإطلاق بين البلدين، أشار أردوغان إلى أنه نقل وجهة النظر التركية بشأن شراء أنقرة منظومة الدفاع الجوي الروسية إس-400، وأكد على أن موقف أنقرة لم يتغير بشأن المنظومة الروسية، بالإضافة إلى ثبات موقف تركيا فيما يخص مقاتلات إف-35.
وعلى صعيد آخر، هناك بعض التسريبات تفيد بوجود اقتراح تركي يقضي بتخزين المنظومة الروسية في قاعدة إنجرليك العسكرية، التي تخضع للإدارة المشتركة مع القوات الأميركية، وذلك من أجل إعادة أنقرة لبرنامج طائرات إف-35، فضلًا عن رفع العقوبات المفروضة على أنقرة.
لقاءات أخرى مهمة سبقت القمة
على هامش قمة الناتو في العاصمة البلجيكية بروكسل، التقى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مع رئيس الوزراء اليوناني كيرياكوس ميتسوتاكيس، واستغرق اللقاء المغلق بين الجانبين قرابة الساعة.
أكد الرئيس التركي على أن اللقاء كان جيدًا، وأضاف: “اتفقنا على إجراء مباحثاتنا عبر قنواتنا الخاصة عند الضرورة، وأنه لا داعي لإقحام طرف ثالث بيننا في ملف بحر إيجة أو المناطق الأخرى”.
ولقرابة النصف ساعة تقريبًا، التقى الرئيس التركي أردوغان مع المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل على هامش القمة أيضًا، جرى خلال اللقاء التأكيد على دعم تركيا للجهود الألمانية من أجل خفض التوتر والتصعيد بين كل من تركيا واليونان، بالإضافة إلى إيصال رغبة تركيا في تحسين العلاقات مع الاتحاد الأوروبي.
ويذكر أن برلين أسهمت طوال الفترة الماضية في الحفاظ على العلاقات بين أنقرة والاتحاد الأوروبي ومنع تدهورها بالكامل، فضلًا عن الحفاظ على قنوات الحوار مفتوحة بين أنقرة وأثينا.
ومن أبرز اللقاءات المهمة الأخرى، لقاء أردوغان بالوفد الفرنسي برئاسة إيمانويل ماكرون الذي استمر لقرابة الساعة، وهو اللقاء الأول بين الطرفين منذ تفجر الخلاف بين البلدين في ملفات دولية وإقليمية مختلفة، أبرزها الملف الليبي، والدعم الفرنسي لليونان في محاولة الأخيرة حصار تركيا داخل مياه المتوسط وعزلها من ملف الغاز الطبيعي شرق المتوسط، فضلًا عن ملف الإسلاموفوبيا الذي تتصدره باريس مؤخرًا.
وغرد ماكرون عقب الاجتماع: “قبيل قمة الناتو، أجريت محادثات طويلة مع الرئيس أردوغان من أجل الانفتاح والاحترام”، وذكر قصر الإليزيه أن ماكرون وأردوغان ناقشا ضرورة العمل المشترك لحل المشاكل في سوريا وليبيا، وأن اللقاء “كان مكثفًا وتناول مسائل في العمق” وأن الزعيمَين “أعربا عن نية إحراز تقدم بالنسبة إلى سوريا وليبيا”.
وإلى جانب لقاءات أردوغان بعدد آخر من قادة الدول الغربية، التقى برئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون في لقاء استمر لمدة 25 دقيقة، وبحسب بيان رئاسة الوزراء البريطانية إن أردوغان وجونسون بحثا العلاقات الثنائية وفي مقدمتها التجارة والدفاع، ولفت البيان إلى أنهما تطرقا أيضًا إلى ملفات تتعلق بسوريا وليبيا وأفغانستان وشرق المتوسط وقبرص.
يذكر أن أنقرة ولندن كانا قد وقّعا اتفاقًا للتجارة الحرة بين البلدين بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، فضلًا عن الأخبار المتداولة حول نية بريطانيا في اقتناء طائرات مسيّرة تركية من طراز بيرقدار أكنجي.
ختامًا
تدرك تركيا جيدًا أن الموقع الجيوستراتيجي الذي تحتله يشكل أهمية قصوى لحلف الناتو، حيث تتموضع تركيا على الجبهة الشرقية للحلف في مواجهة النفوذ الروسي، بالإضافة إلى كونها خط الدفاع الأول في الحرب على الإرهاب على الجبهة الجنوبية على الحدود السورية العراقية.
وفضلًا عن كونها بمثابة صمام الأمان فيما يخص قضايا الهجرة واللاجئين، وذلك من خلال تواجدها العسكري في سوريا لحماية المدنيين، ومنع وقوع كارثة هجرة جديدة لملايين النازحين الذين سيتجهون إلى أوروبا ودول حلف الناتو، في حال مهاجمة قوات النظام السوري تلك المناطق.
وهناك تخوف واضح داخل حلف الناتو من أن تؤدي العقوبات الاقتصادية والعسكرية المفروضة على تركيا إلى ردة فعل تركية عنيفة، قد تضر بمصالح الحلف بطريقة يصعب إصلاحها فيما بعد، فضلًا عن تخوفهم بالدفع بتركيا نحو المعسكر الشرقي (روسيا والصين)، في الوقت الذي يسعى به الحلف للحد من النفوذ الاقتصادي الصيني عالميًّا، وتجميد النفوذ الروسي العسكري على حدود الحلف، بدءًا من أوكرانيا شرقًا، مرورًا بسوريا جنوبًا، وصولًا للشواطئ الليبية وسط البحر الأبيض المتوسط.
ويبدو أن تركيا لم تعد مهتمة بإرضاء الولايات المتحدة الأميركية ودول الاتحاد الأوروبي كما كانت في السابق، خصوصًا بعد زيادة حدة المنافسة بين أميركا وأوروبا من جهة، والصين وروسيا من الجهة الثانية، حيث ترى أنقرة في ذلك فرصة مهمة قد تمكنها من جني فوائد اقتصادية وسياسية من جميع أطراف النزاع، لكن الأمر لا يخلو من المخاطرة، حيث يمكن أن تخسر أنقرة جميع حلفائها جراء لعبها على الحبلين.