على مدار السنوات السابقة بعد الانقلاب العسكري في يوليو/ تموز 2013، توسعت أحكام الإعدام في مصر، حتى أن بعض القضايا شهدت إعدام أكثر من 500 شخص، جرى تخفيض أعدادهم وتخفيف الأحكام بحقهم في المراحل التالية من التقاضي، ولكن تظل الحقيقة أن هناك توسعًا ملحوظًا في إصدار وتنفيذ هذه الأحكام.
وفقًا لإحصاءات من منظمات حقوقية مستقلة مثل هيومن رايتس ووتش و”نحن نسجل”، فإن إجمالي عدد أحكام الإعدام “المنفذة” في مصر منذ وصول السيسي إلى الحكم تجاوز 100 حالة، إلى جانب التوسع في باقي مراحل المنظومة القمعية مثل بناء السجون، والاختطاف القسري، والحبس الاحتياطي المفتوح، والتعذيب والاعتداءات الجسدية والنفسية.
حتى أمس الاثنين، كانت أحكام الإعدام “المنفذة” مقتصرة على ما يمكن تسميته بالفئات المؤكد ضلوعها في أعمال عنف، ردًّا على عنف السلطة المفرط، بما في ذلك كوادر عسكرية تركت الخدمة في النظام وتحولت إلى المعسكر الآخر مشكّلة أجنحة مسلحة، كما حدث مع ضابط الصاعقة السابق هشام عشماوي، أو ضد إسلاميين سابقين نحوا إلى العنف المضاد للأسباب نفسها، كما هو الحال مع خلية عرب شركس وأحد عناصر عملية الواحات، وبعض قيادات العمليات المسلحة في سيناء، مثل عادل حبارة.
ما استجد بالأمس، أن محكمة مصرية أصدرت حكمًا قضائيًّا باتًّا بحق عدد من قيادات الصف الأول في جماعة الإخوان المسلمين، لأول مرة منذ الانقلاب العسكري، بما في ذلك القيادي الإخواني الذي توفيت نجلته في اعتصام رابعة العدوية، محمد البلتاجي.. فماذا حدث وماذا تغير؟
33 حالة إعدام
نظريًّا، خففت محكمة النقض الحكم الصادر من محكمة الجنايات قبل سنوات ضد 75 متهمًا في قضية اعتصام رابعة العدوية، ليصبح الحكم النهائي هو الإعدام حضوريًّا لـ 11 قياديًّا من جماعة الإخوان، والإعدام غيابيًّا لـ 31 شخصًا آخر.
فيما جرى تخفيف حكم الإعدام بحق كل من محمد بديع، المرشد العام السابق لجماعة الإخوان المسلمين، وباسم عودة وزير التموين في حكومة الرئيس الأسبق محمد مرسي، ليصبح حكمًا بالمؤبد، مع الحكم بالسجن 15 عامًا بحق 374 متهمًا آخرين، والسجن 10 أعوام بحق 45 شخصًا، من بينهم نجل الرئيس الأسبق محمد مرسي، أسامة.
وقد انقضت الدعوى في القضية التي حملت مضمونًا هو: “تدبير التجمهر لأكثر من 5 أشخاص، بمحيط ميدان رابعة العدوية، ما هدد السلم والأمن العام، في الفترة من 21 يونيو/ حزيران إلى 14 أغسطس/ آب 2013″، بحق المتهم عصام العريان، القيادي السابق في جماعة الإخوان، بعد وفاته في محبسه بسجن العقرب شديد الحراسة منذ وقت قريب.
ومع ذلك، إن هذه الأحكام، رغم تخفيفها قياسًا بالحكم الأول لإعدام 75 متهمًا وتوزيع أحكام السجن على باقي المتهمين؛ تعد السابقة الأولى للحكم حكمًا نهائيًّا على عدد من قيادات الصف الأول في جماعة الإخوان.
القيادات الـ 12 المحكوم ضدهم بالإعدام حضوريًّا هم: محمد البلتاجي، عبد الرحمن البر، صفوت حجازي، أسامة ياسين، أحمد عارف، إيهاب وجدي، محمد عبد الحي الفرماوي وشقيقه مصطفى الفرماوي، إلى جانب كل من أحمد فاروق كامل، هيثم العربي، محمد محمود زناتي وعبد العظيم إبراهيم محمد؛ وجميعهم تقريبًا إما قيادات تنظيمية وميدانية سابقة في صفوف جماعة الإخوان، وإما مسؤولين حكوميين في حكومة مرسي، مثل أسامة ياسين وزير الشباب الأسبق.
حزنٌ عام
حالة كبيرة من الحزن خيمت على أُسَر المحكومين وذويهم وعدد من معارضي النظام المصري، إذ لم يتبقَّ على تنفيذ هذا الحكم النهائي إلا أن يصدّق المفتي العام للجمهورية شوقي علام على القرار، وهي عملية مرهونة بالتنسيق مع المستوى السياسي والأمني، كما يؤكد مراقبون للموقف المصري، أي أن المحكومين باتوا وفيات، فيما يوصف في اللغة العربية بأنه “مجاز مرسل باعتبار ما سيكون”.
نجل الرئيس الأسبق محمد مرسي، كتب على حساباته على مواقع التواصل الاجتماعي نصًّا يشاطر فيه أسرته الحزن والسلوى، ومتهمًا النظام المصري بالمسؤولية عما آلت إليه أوضاع الأسرة، قائلًا: “قتلتم أبي، وقتلتم أخي الأصغر، وحكمتم بمصادرة ممتلكاتنا، واعتقلتم أخي أسامة وحكمتم عليه بـ 10 سنوات. لكم الدنيا وفي الآخرة العدل المطلق، فجهزوا إجاباتكم وحججكم. رسالتي إلى من يظن نفسه فرعون الصغير وجنوده وزباينته: والله لو قتلتمونا نفسًا نفسًا، لن نيأس ولن نسلم، لنا الله وكفى به وكيلًا”. كما كتب مضامين مشابهة ذوو عبد الرحمن البر وغيره.
فيما كتب الممثل المصري الناشط في أروقة الفن الغربي، الممنوع من دخول مصر في الوقت الحالي، عمرو واكد تغريدة قائلًا: “أنا مش مصدق الأحكام التي صدرت ضد قيادات الإخوان. أنا مصدوم جدًّا. حزين على مصر وعلى اللي بيحصل لها من كتر السكوت على الظلم. أنتوا فاكرين ربنا بيلعب؟ ألا لعنة الله على الظالمين!”.
انا مش مصدق الاحكام التي صدرت ضد قيادات الاخوان. انا مصدوم جدا. حزين على مصر وعلى اللي هيحصل لها من كتر السكوت على الظلم. انتم فاكرين ربنا بيلعب؟
“الا لعنة الله على الظالمين”
— Amr Waked (@amrwaked) June 14, 2021
وقد دفعت الصدمة فيما يبدو عددًا من قيادات الإخوان ورموز المعارضة المصرية في الخارج، إلى معاودة توجيه سهام النقد إلى القيادات الحالية للجماعة، والتي طرح بعضها قبولًا مبدئيًّا على التصالح مع النظام والاعتراف به، مقابل أي تحسن في ملف المعتقلين.
وكتب الطبيب يحيى موسى، أحد أبرز المطلوبين للنظام المصري في الخارج، تدوينةً كان من بينها القول: “آن للمزايدين بورقة المعتقلين أن يصمتوا إلى الأبد، فبينما تعرض قيادات الإخوان المصالحة دون شروط مسبقة، يؤكد النظام حكم الإعدام على 12 من خيرة أبناء مصر”.
مضيفًا في المدونة نفسها أنه “إن كان المبدأ أخرج البعض واقتل البقية لا يهم؛ فهو انحطاط غير مسبوق، على صاحبه أن يستتر وليركع أو يسجد للنظام كما يشاء”، على حد قوله.
شكوك حول نزاهة الإجراءات
فضلًا عما بات معروفًا في مثل هذه المحاكمات من غياب لأبسط إجراءات صحة التقاضي، مثل غياب التواصل الفعال مع هيئة الدفاع، وقلة عدد الزيارات، إن لم تكن موقوفة بالكامل بالنسبة إلى عدد من المتهمين، لا سيما في ظل ظروف فيروس كورونا، بالإضافة إلى أخذ القضاة بتحريات الأمن الوطني وتجاهل دفوع المحامين؛ فإن هذه القضية تحديدًا قد شابها عدد من التجاوزات الفادحة.
أولى هذه التجاوزات التي دفعت إلى التشكيك في نزاهة إجراءات التقاضي، أنه فضلًا عن كون القاضي المستشار عبد الله عمر شوضة رئيس محكمة النقض، قاضيًا معيّنًا بتصديق الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، الذي يعد بشكل أو بآخر خصمًا للمتهمين، في أغسطس/ آب الماضي؛ فإن الشقيق الأكبر للرئيس المصري أحمد سعيد خليل السيسي، يعد نائبًا لرئيس محكمة النقض لدوائر الإرهاب، ما يفتح الباب أمام شبهات الانتقام السياسي.
بالإضافة إلى ذلك، إن عددًا من المحكوم عليهم بالإعدام في قضية التجمهر في ميدان رابعة العدوية، كانوا معتقلين في الفترة نفسها بداية من 15 يوليو/ تموز 2013، مثل مصطفى، محمد عبد الحي الفرماوي وأحمد فاروق، وهو ما طرح سؤالًا عن منطقية أن يكون الشخص نفسه محبوسًا في أوراق حكومية، بينما في الوقت نفسه تعتبره أوراق أخرى طليقًا معتصمًا في مكان آخر؟
فيما يخص أصل الدعوى نفسها، فقد انتقد حقوقيون أن تحاكَم قيادات الإخوان بسبب الاعتصام في ميدان رابعة العدوية، وأن يتجاهل القضاء ما جرى في أعمال فضّ الاعتصام نفسه، إذ تقول أقل التقديرات (هيومن رايتس ووتش) إن عدد ضحايا الفض لا يقلون بحال عن 800 قتيل، فضلًا عن عشرات الجرحى، ومقتل عدد من أبناء نفس القيادات المحكوم عليها بالإعدام والمؤبد في هذه القضية، مثل نجلة القيادي الإخواني محمد البلتاجي (أسماء) ونجل القيادي الإخواني محمد بديع (عمار).
وقد شهدت القضية المرتبطة بآخر حملة إعدامات نفذتها السلطات المصرية بحق معارضين لها، تجاوزات مشابهة أيضًا، عندما أعدمت السلطات 9 متهمين في سجن وادي النطرون، بسبب ما رآه القضاء في حكمه النهائي من ضلوع المتهمين في مذبحة “كرداسة”، التي شهدت اقتحام مقرات شرطة ومقتل نحو 10 من رجال الأمن، في أحداث العنف التالية لفض اعتصام رابعة العدوية، تلك الإعدامات التي نفذت نهاية أبريل/ نيسان الماضي، بالتزامن مع عرض الجزء الثاني من مسلسل “الاختيار” في شهر رمضان.
أما السلطات المصرية، فكما هو معتاد، نفت المشكلة من جذورها، إذ أكد سامح شكري وزير الخارجية المصري، في حوار مع قناة “الجزيرة” قبل ساعات، أن “الواقع مغاير لما يتم ترويجه عن أوضاع حقوق الإنسان في مصر، ونحن نتعامل بشفافية في هذا الملف”، نافيًا أن تكون أجهزة إنفاذ القانون تمارس أي عمليات اعتقال غير منسقة مع الجهات القضائية المخول لها السماح بذلك، ومراقبة ضوابطه من عدمه.
دلالات التوقيت
وفقًا لمراقبين ومحللين، فإن مقاليد الأمور في النظام المصري يتحكم فيها طرفان، أحدهما بالداخل وهو الرئيس وحاشيته، والطرف الآخر بيد حلفائه ومموليه الخارجيين، وفي هذه المعادلة لا يقوم النظام عادة بأي قرارات نوعية مثل هذه القرارات بشكل عشوائي.
استنادًا إلى هذه الرؤية، رجّح هيثم أبو خليل، الناشط الحقوقي وشقيق طبيب النفسية والعصبية الذي توفي في السجون المصرية مؤخرًا (عمرو أبو خليل)، أن يكون هذا الحكم “سيفًا على رقبة الإخوان لمنع تململهم خلال الأيام العجاف التي ستعقب الملء الثاني لسد النهضة، ورسالة، في الوقت نفسه، لأولاد العم في تل أبيب وأبوظبي: نحن على العهد في التنكيل برموز التيار الإسلامي في مصر”.
ولم يستبعد آخرون، مثل الباحث الأمني أحمد مولانا، أن يكون اختيار هذا التوقيت المتزامن مع زيارة وزير الخارجية سامح شكري إلى قطر، لبحث التنسيق العربي حيال ملف سد النهضة، والمتزامن أيضًا مع تحسن العلاقات مع تركيا، مقصودًا ومفاده أن هذا التقارب مع هذه الدول لن ينعكس إيجابًا على ملف المعارضة والإخوان في الداخل.
وقد ربط أمنيون أيضًا، مثل الضابط المهندس السابق في الجيش المصري خالد فريد سلام، بين هذا التوقيت من جهة وذروة التحريض الدرامي التي شهدها رمضان المنقضي في المسلسلات الأمنية التابعة للمخابرات، وعلى رأسها الجزء الثاني من مسلسل “الاختيار” ضد الإسلاميين، كما حدث في إعدامات “كرداسة” أبريل/ نيسان الماضي.
هذه الإعدامات التي طالت لأول مرة رؤوس الإخوان المسلمين، في ظرف كان يفترض أن يشهد بوادر تهدئة داخلية من أجل التفرغ للتعامل مع الأيام الأخيرة قبل الملء الثاني لسد النهضة، في ظل تعثر للوساطات الدولية؛ قضت على أي آمال في حدوث “مصالحة” بين النظام والإخوان، خاصة بعد أن رفع عدد من داعمي الإخوان الخارجيين أيديهم عنهم، وبعد أن بات السيسي وبايدن أكثر تفاهمًا من ذي قبل، وفقًا لمحللين.
السيطرة التامة على القضاء
القول إن النظام اختار توقيتًا محددًا لإعلان هذه الإعدامات، كما اختار من قبل توقيتات تنفيذ أحكام إعدام مماثلة، ينطوي على افتراض بأن هناك تنسيقًا بين السلطة التنفيذية والسلطة القضائية في مصر، بشكل يخل بما هو ضروري ومتعارف عليه من استقلال للمؤسسة القضائية. فهل هذا حادث بالفعل؟ وإلى أي مدى يمكن أن يكون حال الإقرار به؟
في مرحلة ما بعد الإطاحة بالرئيس الأسبق محمد مرسي من الحكم، وتفاقم العمليات المسلحة ضد الأجهزة الأمنية، تفتق ذهن الرئيس المصري إلى ضرورة أن يعمل القضاء بانسجام وتناغم مع السلطة التنفيذية، كي تتم عملية محاربة الإرهاب بكفاءة على كل المستويات، دون أن تفسد الإجراءات القضائية البيروقراطية جهود قوات الأمن في مطاردة الإرهابيين ومعارضي النظام.
من أجل تغيير هذه المعادلة، شرع السيسي في تشكيل دوائر قضائية خاصة بالنظر في قضايا معارضيه من السياسيين أو المتمردين، تعرَف باسم دوائر “الإرهاب”.
اتسمت هذه الدوائر بسرعة النظر في القضايا، خلافًا للمسارات التقليدية السابقة، وشدة الأحكام القضائية ضد المتهمين، إلى جانب اختيار أسماء معينة للنظر في هذا الصنف من القضايا، حتى وصف قضاة بـ”قضاة الإعدامات”، مثل محمد شيرين فهمي وناجي شحاتة.
مطالبة السيسي واهتمامه بضرورة اختلاف طريقة معالجة القضاء لهذه الملفات، لم تقتصر على الغرف المغلقة كما هو متوقع، إنما شدد السيسي في أكثر من مناسبة، كان أبرزها جنازة النائب العام المقتول في حادث إرهابي هشام بركات، حينما وجّه نقدًا لطريقة القضاء في التعامل مع هذه القضايا.
وكان آخرها أمام رؤساء المحاكم الدستورية الأفارقة منذ أيام، حينما شدد على “دور القضاء في مواجهة الإرهاب والفكر المتطرف واستحداث الأطر القانونية اللازمة للتعامل معها، آخذًا في الاعتبار التأثير المدمر لتلك الظاهرة على مقدرات الدولة ومكتسباتها وتعظيم دور القانون والقضاء لتمكينه من التصدي بفاعلية لهذا التهديد”.
وقد توسع السيسي منذ التعديلات الدستورية، التي أقرت منذ عامين، في الإطاحة بالقضاة الذين يشعر تجاههم بعدم التناغم مع إملاءاته، وبالأخص بعدما سمحت له تلك التعديلات بالتدخل في تعيين القيادات القضائية والإطاحة بهم. يمكن استخدام محرك البحث باستخدام كلمات مفتاحية “السيسي يعزل قاضي“، لرصد عدد ضخم من هذه القرارات في الأعوام الأخيرة.
وفقًا للشيخ عصام تليمة، الباحث في أصول الفقه، تعليقًا على أحكام الإعدام الأخيرة، فإن السيسي توسع في القتل بشكل ملحوظ: “يمارس السيسي ونظامه القتل ظلمًا وهو أنواع: القتل خارج القانون. القتل الطبي بإهمال المسجون حتى الموت. القتل بالقضاء بالحكم بالإعدام ظلمًا. القتل بالفتوى نصرة لحاكم ظالم. كلها وقائع قتل يكرهها ويحرمها الشرع ولا يفلت من قام بها من عقاب الله”.