مضت الآجال الدستورية دون أن يوقع الرئيس التونسي قيس سعيد على تنقيحات قانون إنشاء المحكمة الدستورية التي أقرها البرلمان التونسي للمرة الثانية. يبرر سعيد عدم التوقيع بتجاوز البرلمان الآجال الدستورية لوضع المحكمة، في مقابل ذلك يقول البعض إن السبب الرئيسي لهذا الرفض هو خوف سعيد على منصبه، فهو يخشى العزل في حال إرساء المحكمة، فضلًا عن سعيه الدؤوب للاستئثار بتأويل الدستور وحده في غياب المحكمة الدستورية التي تختص بذلك.
مصير مجهول
مصير المحكمة الدستورية في تونس، الآن، أصبح مجهولًا في ظل إصرار الرئيس سعيد على رفض إمضاء قانون معدل لقانون المحكمة وتعليله بوجود خرق للدستور، للمرة الثانية على التوالي، إذ رفض في المرة الأولى وأعاد التعديل للبرلمان، ورفض في المرة الثانية عندما عاد إليه من البرلمان بعد المصادقة عليه بأغلبية معززة بثلاثة أخماس عدد النواب الـ217.
هذه الأغلبية المعززة التي تظهر إجماعًا كبيرًا في البرلمان قل التوصل إليه، لم تكن كافية لإقناع الرئيس بضرورة التوقيع على التعديلات، ذلك أنه يعترض على تأسيس المحكمة برمتها بسبب خرق الآجال، فتأسيس المحكمة بعد نحو ست سنوات يعد خرقًا للدستور وفق سعيد.
يرجع تأخر وضع المحكمة لسنوات إلى الفشل في انتخاب البرلمان لثلث أعضائها، إذ حصل مرشح واحد فقط من بين الأربعة على أغلبية الثلثين، لذلك قرر النواب تقليص الأغلبية، ويتضمن القانون المعدل الذي تقدم به مجلس نواب الشعب تخفيض الأغلبية المطلوبة لتزكية المرشحين للمحكمة الدستورية، من أغلبية الثلثين إلى أغلبية ثلاثة أخماس.
يخشى قيس سعيد على منصبه ويخشى العزل في حال إرساء المحكمة الدستورية
تجاوز النواب الآجال الدستورية لوضع المحكمة، ما يعني ضرورة تعديل الدستور وتعديل النص المحدد لتلك الآجال في الدستور، لكن مثل هذا التعديل يستوجب رأي المحكمة الدستورية التي لم يستكمل وضعها بعد، ما يعني الاصطدام بمأزق دستوري آخر.
مع ذلك، يؤكد العديد من نواب البرلمان أن لا ذنب لهم فيما عجز عنه البرلمان السابق، فهم نواب البرلمان الحاليّ والتقصير حصل في المدة النيابية السابقة التي امتدت من سنة 2014 إلى 2019، ما يعني أن حجة الرئيس مردودة عليه.
يُذكر أن المجلس الأعلى للقضاء، قد تم تركيزه بعد تجاوز المدة القانونية المنصوص عليه، أيضًا توجد العديد من الهيئات الدستورية التي ما زالت تعمل إلى الآن وتصدر القرارات دون وجه قانوني إما لانعدام النصاب وإما لضرورة التجديد، مع ذلك لم يتطرق لها الرئيس ودائمًا ما يجتمع برؤسائها.
الخوف على منصبه
يريد الرئيس سعيد وحاشيته التسويق إلى أن سبب الرفض قانوني بحت، لكن المتأمل لحيثيات الأمر يتأكد أن السبب الأبرز سياسي، فقيس سعيد يخشى على منصبه ويخشى العزل في حال إرساء المحكمة الدستورية.
وينص الفصل 88 من الدستور التونسي على أنه “يمكن لأغلبية أعضاء مجلس نواب الشعب المبادرة بلائحة معللة لإعفاء رئيس الجمهورية من أجل الخرق الجسيم للدستور ويوافق عليها المجلس بأغلبية الثلثين من أعضائه”، وفي هذه الصورة تقع الإحالة إلى المحكمة الدستورية للبت في ذلك بأغلبية الثلثين من أعضائها.
قيس سعيد: “أعرف من يحرك الشارع ومن يفتعل الأزمات للبقاء في الحكم، وليعلم أن تونس ليست بضاعة وأن القوانين يجب أن تطبق على الجميع”.
كأن من في الحكم جاؤوا بانقلاب، وليس بإرادة الشعب!
أي رئيس هذا الذي يعرف ولا يعلن، ولا يفعل شيئا غير تعطيل المسارات الممكنة؟!
تونس تستحق أفضل من ذلك.— ياسر الزعاترة (@YZaatreh) June 11, 2021
نفس النص الدستوري ينص أيضًا على أنه “لا يمكن للمحكمة الدستورية أن تحكم في صورة الإدانة إلا بالعزل، ولا يعفي ذلك من التتبعات الجزائية عند الاقتضاء، ويترتب على الحكم بالعزل فقدانه لحق الترشح لأي انتخابات أخرى”.
ويخشى الرئيس أنه إن تم إرساء المحكمة اللجوء لهذا النص، إذ سبق أن دعا النائب المستقل (كان عضوًا في كتلة قلب تونس) عياض اللومي، في أكثر من مناسبة إلى عزل رئيس الجمهورية قيس سعيد بسبب تشبثه بموقفه المتمثل في منع الوزراء الجدد من أداء اليمين الدستورية أمامه، معتبرًا أن ذلك يرتقي إلى درجة “الخطأ الجسيم” الموجب لهذا الإجراء وفق مقتضيات الفصل 88 من الدستور.
كما دعا النائب المستقل بالبرلمان عصام البرقوقي خلال جلسة عامة، جميع الكتل البرلمانية بمختلف توجهاتها وحساسياتها إلى المضي قدمًا في الإجراءات الدستورية المتعلقة بالعزل بعد مغالطة الشعب التونسي وادعاء تعرضه إلى محاولة اغتيال عبر طرد مسموم، وإعلانه تلقيه استقالة رئيس الحكومة السابق إلياس الفخفاخ.
استئثار تأويل الدستور، من شأنه أن يدعم صلاحيات الرئيس قيس سعيد وأن يمكنه من الاستحواذ على صلاحيات رئيس الحكومة الدستورية دون وجه حق
مخاوف سعيد ظهرت من خلال شقيقه نوفل سعيد الذي حذر في تدوينات له مما وصفه مخطط لعزل رئيس الجمهورية والإسراع في إرساء المحكمة الدستورية، من خلال اتهام الرئيس بارتكاب “خطأ جسيم” في علاقة بأزمة اليمين الدستورية للوزراء الجدد.
وجاء في إحداها “الخطورة تزداد إذا ما علمنا أن تعجيلهم بإحداث المحكمة الدستورية الآن هو بغرض تكريس هذا الخلط بتلبيس القانون بالسياسة والدفع به إلى الأقصى ضد رئيس الجمهورية خصوصًا إذا ما علمنا أنه حسب الفصل 88 من الدستور يكفي لأغلبية أعضاء مجلس نواب الشعب المبادرة بلائحة معللة لإعفاء رئيس الجمهورية”.
الاستئثار بتأويل الدستور
من أبرز أسباب رفض أستاذ القانون الدستوري قيس سعيد الإمضاء على التعديلات الجديدة الخاصة بقانون إرساء المحكمة الدستورية سعيه الدؤوب للاستئثار بتأويل الدستور وحده في غياب المحكمة الدستورية التي تختص بذلك.
مثلًا في الأزمة التي تعيشها تونس اليوم بين رئيس الدولة ورئيس الحكومة ومسألة تعطيل الرئيس للتعديل الوزاري، إن كانت المحكمة الدستورية موجودة لتدخلت وفصلت النزاع، إذ يحق لها في حالة تنازع الاختصاص بين كل من رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة أن تنظر في الموضوع وتصدر قرارها الملزم.
وتوكل لهذه المحكمة مهام حيوية تتعلق بسلامة مسار الانتقال الديمقراطي في البلاد من خلال ضمان صيانة الدستور وحماية الحقوق والحريات، ومراقبة دستورية مشاريع القوانين التي يعرضها البرلمان، ومراقبة دستورية المعاهدات الدولية التي يعقدها رئيس الجمهورية، ومراقبة دستورية تعديل الدستور.
#قيس_سعيد لن يدعو الى انتخابات 2024 وهذا ما يخطط له :
حسب الفصل 75 من الدستور يجب على الرئيس أن يدعو إلى إنتخابات رئاسية وإذا تعذر إجراء الانتخاب في موعده بسبب “خطر داهم” فإن المدة الرئاسية تمدد !!قيس سعيد هو الخطر الحقيقي الداهم سنخلعه قبل نهاية ولايته..
— الشيخ القيرواني (@SheikhQayrawani) June 14, 2021
ظهر استئثار سعيد بتأويل الدستور في مسائل كثيرة، منها مسألة التعديل الوزاري الذي أقره البرلمان بداية السنة الحاليّة، وأيضًا من خلال إعلان الرئيس نفسه قائدًا أعلى للقوات المسلحة العسكرية والمدنية، إذ تضم القوات المسلحة بحسب تأويله للدستور الجيش الوطني وقوات الأمن الداخلي التابعة لوزارة الداخلية من حرس وطني وشرطة بالإضافة إلى جهاز الجمارك.
ومن شأنه كذلك أن يدعم صلاحيات الرئيس قيس سعيد وأن يمكنه من الاستحواذ على صلاحيات رئيس الحكومة الدستورية دون وجه حق، فسعيد يرى أنه الأجدر بقيادة البلاد والتحكم في مفاصل الحكم حتى إن كان الدستور الذي أقسم على احترامه لا ينص على ذلك.
هذا الأمر يثير مخاوف التونسيين على مستقبل ديمقراطيتهم الوليدة، خاصة أن الرئيس قيس سعيد امتهن منذ وصوله لقصر قرطاج سياسة التهديد والوعيد في وجه باقي السياسيين والأحزاب، فهو يرى أنه الوحيد القادر على حكم البلاد.