في ظل استمرار سياسة الاحتلال العنصري الهادفة إلى تهجير وتشريد المواطنين والاستيلاء على بيوتهم في مدينة القدس المحتلة، بذرائع وحجج واهية، تلبية لمصالحهم الاستعمارية الرامية إلى تفريغ مدينة القدس من الفلسطينيين وإقامة مشروع “القدس الموحّدة” الاستيطاني؛ ينشر “نون بوست” في ملف “أحياء القدس”، جملة من التقارير التي تسلط الضوء على الأحياء المقدسية المهددة بالتهجير القسري، ومعرفة أبرز المخططات الاستيطانية في عملية التهويد والاستيطان، والتطرق إلى خلفيات القرارات السياسية الاستيطانية، وخدمتها للأهداف الإسرائيلية على المدى البعيد.
شرعت “إسرائيل” إلى تغيير معالم المدينة المقدسة منذ لحظة احتلالها عام 1967، وفرض واقع جديد باستخدام ذرائع دينية.
فقد دمرت في البداية حي المغاربة، المحاذي لحائط البراق وباحة الحرم القدسي الشريف، بشكل كامل، بعد مصادرته وطرد 900 عائلة فلسطينية كانت تسكن فيه، كما حولته لساحة كبيرة للمصلين اليهود.
وضعت الخطة الهيكلية للقدس لعام 2000 تصورًا استيطانيًّا صهيونيًّا حول القدس 2020، وبيّنت أن عدد سكان القدس المحتلة سيكون 950 ألف نسمة بأغلبية يهودية (70%)، وبمساحة تبلغ 20% من مساحة الضفة الغربية المحتلة.
وبعدها تم وضع مجموعة من الأهداف والسياسات، التي تبين رؤية الصهاينة حول القدس والبلدة القديمة، وكان الهدف المباشر للخطة حسب المخطط الصهيوني هو: “تفكير تخطيطي جديد وشامل لخلق إطار الاستمرار في تطوير المدينة كعاصمة للدولة ومركز للحكم، وكمركز يقع بين يهودا والسامرة مع الحفاظ على القيم الخاصة بها، وتأمين مستوى حياة جيدة لكل سكانه”.
قبل إعداد الخطة الهيكلية، مورست سياسات التفريغ والإزالة وإعادة البناء في أكثر من موقع في المدينة، وذلك بإزالة كل أثر فلسطيني من المكان، بما في ذلك المباني والمقابر والقرى الفلسطينية المحيطة بالقدس المحتلة، واستبدالها بمبانٍ ومستوطنات يهودية من أجل تغيير ملامح المدينة ومحيطها.
من أبرز المخططات الاستيطانية في القدس
مخطط “توحيد القدس”
سعت سلطات الاحتلال للوصول إلى إقامة مشروع “القدس الكبرى”، الذي يضم أكثر من 500 ألف كيلومتر، فأدرجت جميع أعمالها في القدس الشرقية منذ سنة 1967، تحت شعار “توحيد” أو “إعادة التوحيد”، في محاولة للاستيلاء على القدس الشرقية، إضافة إلى تكثيف سلطات الاحتلال من عدوانها التوسعي الدائم، لذلك تهدف السياسة الإسرائيلية إلى عزل القرى والأحياء الفلسطينية داخل المدينة عن بعضها، من أجل تحويلها إلى مناطق معزولة يسهل السيطرة عليها من الناحيتَين الأمنية والديموغرافية.
وجعلت السياسات التهويدية المدينة مختلفة تمامًا على الصعيد الجغرافي، فقد تم دمج المستوطنات غير الشرعية داخل الخط الأخضر في المنطقة المعروفة بالقدس الكبرى أو القدس الموحدة، وهو الهدف الاستراتيجي الحقيقي للقدس اليهودية الموحدة غير المجزأة، الذي يشكل جوهر كل نقاش إسرائيلي بشأنها، أي “وحدة القدس” من ناحية المبدأ.
إلا أنه عند تفحص أكثر تدقيقًا يبرز لدينا واقع مختلف، حيث إن ما نسبته 66% مما يسمى “القدس الموحدة” هي أراضٍ احتلت بالقوة عام 1967، منها 5% ما كان بلدية القدس الأردنية، و61% هي أراضٍ من الضفة الغربية المحتلة، ضمت عنوة وقسرًا إلى منطقة القدس، وفيما يخص الـ 34% الباقية من “القدس الموحدة”، والتي تشكل اليوم القدس الغربية، فإن الأملاك التابعة لليهود هناك قبل سنة 1948 لم تتعدَّ في مجموعها 31%.
مخطط “الحوض المقدس”
ضمن إطار أوسع، سعت قوات الاحتلال الإسرائيلي بمختلف أذرعها (الجيش، وزارة الداخلية، بلدية القدس الإسرائيلية، وزارة الآثار، وغيرها)، إلى تطبيق مخطط صهيوني خطير يعرَف بـ”الحوض المقدس”، يهدف إلى ضم البلدة القديمة وما يحيطها.
كما يتضمن الاستيلاء على الكثير من الأراضي الوقفية الإسلامية في المنطقة، مثل: حي البستان في سلوان الذي تسعى بلدية القدس الإسرائيلية إلى تنفيذ مشروع ما يسمى بـ”مدينة داوود” فيه، فمنذ عام 2004 أعلنت بلدية القدس الإسرائيلية عن خططها لبناء “حديقة وطنية” على أنقاض البيوت المقدسية في المنطقة، وفي أوائل عام 2009 استلمت 134 عائلة مقدسية، تسكن في 88 منزلًا، إخطارات بهدم منازلها بدعوى عدم الترخيص.
ظهر مصطلح “الحوض المقدس” أول مرة في الفترة العثمانية ثم الانتدابية، عندما بدأت حكومة الانتداب بوضع خطط مفصلة لحدود القدس التي ستصبح تحت الإدارة الدولية، وتم سحب هذا الموضوع أول مرة في المفاوضات الفلسطينية-الإسرائيلية في كامب ديفيد، عندما بدأت تظهر ملامح تقسيم البلدة القديمة.
ويبدأ مشروع “الحوض المقدس” التهويدي بحي الشيخ جراح شمالًا، مرورًا بالبلدة القديمة ووصولًا إلى بلدة سلوان وسفح جبل المكبر، بهدف إضفاء صبغة يهودية على المكان، فالمشروع يعني عمليًّا مسح آثار ومعالم عربية وإسلامية وتدميرها، وخنق البلدة القديمة بالمسارات والبناء والأشكال التهويدية لحجب أهم معلمَين يدلان على هوية المدينة العربية والإسلامية، وهما المسجد الأقصى وسور البلدة القديمة من القدس المحتلة.
التنظيم والبناء.. أدوات الهدم والتهجير الصهيوني
استخدمت السلطات الإسرائيلية قوانين التنظيم والبناء، للحد من النمو العمراني العربي، والسيطرة عليه عن طريق التنظيم والتخطيط.
فقد بدأت “إسرائيل”، ومنذ الأيام الأولى للاحتلال، بإغلاق مناطق في محيط البلدة القديمة، وإعلانها مناطق خضراء يُمنع البناء عليها، الأمر الذي جعل 52% من مساحة القدس الشرقية مناطق خضراء، إلا إنها اعتبرت مناطق احتياط استراتيجي لبناء مستوطنات عليها، كما حدث في جبل أبو غنيم ومنطقة الرأس في قرية شعفاط، حيث تم تحويلهما من مناطق خضراء إلى مناطق بناء استيطاني (هار حوما ورمات شلومو).
كذلك تم تحديد مستوى البناء، حيث بالنسبة إلى الفلسطيني لا يسمح له بالبناء في أكثر من 75% من مساحة الأرض، وهو الحد الأقصى، بينما يسمح لليهود بنسبة بناء تصل إلى 300% من مساحة الأرض.
لا تكتفي سياسة التخطيط بتحجيم الأراضي المخصصة للسكن، وتقليص حقوق البناء وفرض غرامات باهظة، بل تتجاوزها إلى هدم المبنى، حيث تشكل عملية هدم المباني والمخالفات عقابًا مفروضًا على المقدسيين الفلسطينيين، الأمر الذي يزيد من ضائقة سكنهم ومعاناتهم.
وخلال عام 2014 تم هدم 95 بيتًا مبنيًّا في القدس الشرقية، وعلى الرغم من أن عدد أوامر الهدم الصادرة عن أجهزة التخطيط والمحاكم الإسرائيلية مرتفعة، فإن عملية هدم المباني تكون بشكل انتقائي لاعتبارات متعددة تحددها السلطات الإسرائيلية.
هذا الواقع يدفع عددًا كبيرًا من الأُسر التي صدر بحق مبناها السكني أمر هدم، للعيش في حالة رعب وضائقة، كأنها تقف في الدور لتنفيذ هدم مكان سكنها، كما يدفع هذا الوضع رب الأسرة إلى تحجيم حريته والإذعان لسلوكيات اجتماعية وسياسية تصل إلى حد الابتزاز السياسي، خوفًا من هدم منزله.
إن مخالفات البناء والبناء غير القانوني، حالة موجودة في كل من القدس الشرقية والغربية، وفي الأحياء اليهودية والفلسطينية على حد سواء، إلّا إن تعامل سلطات التخطيط والبلدية مع البناء غير القانوني والمخالف يكون مختلفًا، إذ يتم التعامل مع مخالفة البناء في الأحياء اليهودية على أنها مخالفة مدنية، ويمكن تعديل التخطيط ومنحها ترخيصًا بإجراء تعديلات تخطيطية وإدارية، على عكس ما يحدث في شرق القدس.
أخيرًا، نهدف من خلال ملف “أحياء القدس، إلى تسليط الضوء على أبرز الأحياء المقدسية المهددة بالترحيل والهدم الجماعي، ومعرفة ما يدور في أروقة المحاكم وعلى أرض الواقع من احتجاجات ومطالبات بعدم الترحيل، كما سنركّز – في تقاريرنا المقبلة ضمن هذا الملف – على المعارك الجماعية التي يخوضها المقدسيين في تثبيت هويتهم الفلسطينية العربية، في المكان الذي نشأوا وعاشوا فيه طيلة أيام حياتهم.