تلاحق “إسرائيل” بكل أجهزتها الأمنية الأطفال الفلسطينيين، وتسلك كل الطرق المؤذية لإيلامهم، إما بتشويههم نفسيًا وجسديًا عند قنصهم بالرصاص عمًدا في مناطق حساسة مثل الأعين والأقدام، وإما بقتلهم كما تفعل بين أزقة وحارات القدس العتيقة، حين تطاردهم لاعتقالهم في سن صغيرة وبتهم تخالف معايير القانون الدولي لحقوق الطفولة.
سياسة قديمة تنتهجها المحاكم الإسرائيلية للنيل من صغار المقدسيين عند اعتقالهم، فبعد التحقيق القاسي تضعهم في زنزانات لشهور طويلة، في معتقلات غير إنسانية بالكاد يقوى الكبار على تحملها، ثم تفرج عنهم مقابل الحبس المنزلي المشروط الذي قد يتعدى السنة.
تنقل “نون بوست” حكاية الفتى المقدسي عبد الرحمن البشيتي -15 عامًا-، الذي اعتقل مطلع العام، عند تواجده وأصدقائه على سطح منزله المطل على ساحة قبة الصخرة قرب باب مجلس، فاعتبر جنود الاحتلال المتمركزين هناك أن الفتية يحاولون استفزازهم، ما دفعهم لاقتحام البيت ووضع الأصفاد في أيديهم، ثم سحبهم إلى مركز الشرطة للتحقيق.
ولأن عبد الرحمن المقدسي كان يعاني من مرض السكّري، نقل فترة احتجازه لدى الاحتلال إلى المستشفى وهو مكبل بالقيود، ثم حاول محاميه تخفيف الحكم عليه فمضى شهور قليلة في السجن ثم خرج للحبس المنزلي بشروط معقدة، كما تذكر والدته بنار.
الطفل الأسير عبد الرحمن البشيتي
معاناة العائلة والابن بدأت عند إبعادهم عن البيت، ما اضطرهم الاستئجار في بلدة شعفاط الواقعة في الشمال الشرقي لمدينة القدس المحتلة، وكان الأمر مرهقًا ماديًّا عدا عن الضغوط النفسية التي عاشوها برفقة ابنهم.
تذكر الأم أن ابنها بعد أيام قليلة من انتهائه من سرد تفاصيل أيامه في المعتقل، بدأ يشعر بالملل ويتدخل في كل صغيرة وكبيرة في البيت، يصرخ ويعترض بشكل مستمر، يرفض الطعام ويطلب تبديله بآخر بحجة أنه “مش بكفي محبوس”، عدا عن تهديده المستمر لعائلته بالهرب من المنزل كونه ضجرًا.
وبعد عدة محاولات من محاميه، ونظرًا إلى مرضه بالسكّري، سمحت له المحكمة الإسرائيلية بالمشي يوميًّا ساعة ونصف في شوارع معينة تم تحديدها، لكن مع ازدياد عصبيته وعدم سيطرة الأهل عليه، تمّت إعادته إلى السجن بعد شهرين ونصف من الحبس المنزلي، ليقضي بقية محكوميته. تعلّق الأم: “كدت أن أفقد ابني بسبب تهوره، فكان للأسف الحل الأنسب أن نطلب من المحكمة إعادته للسجن”.
تلجأ سلطات الاحتلال إلى أسلوب الحبس المنزلي بالنسبة إلى الأطفال دون سن 14 عامًا، لأن القانون الإسرائيلي لا يجيز حبسهم خشية من التعرض للانتقادات الدولية.
هذه حالة واحدة من مئات الحالات للحبس المنزلي، التي تتشابه في الانعكاس السلبي على نفسية الطفل وعلاقته بعائلته ومدرسته والمحيط، ما يجعله ناقمًا لشعوره أن والدَيه يحرمانه ممارسة حياته العادية.
وعادة تلجأ سلطات الاحتلال إلى أسلوب الحبس المنزلي بالنسبة إلى الأطفال دون سن 14 عامًا، لأن القانون الإسرائيلي لا يجيز حبسهم، وخشية من التعرض للانتقادات الدولية ومن المؤسسات الحقوقية التي تتابع أي معاملة كهذه مع الأطفال. ووفق إحصائية صادرة عن نادي الأسير الفلسطيني، فإن حصيلة عام 2020 هي 130 طفلًا من الأطفال المقدسيين الذين تحولت بيوتهم إلى سجون لهم.
غير قانوني
عن الموقف الدولي من الحبس المنزلي للأطفال المقدسيين، تقول الحقوقية عرين بدوان من هيئة شؤون الأسرى: “دومًا يتم مخاطبة الجهات الدولية المعنية، لكن الاستجابة تكون عاطفية ولا ردع لـ”إسرائيل” على ما تمارسه ضد الصغار”، واصفة الموقف الدولي بالسلبي لعدم تطبيقه القوانين التي تضع سلطات الاحتلال عند حدها، وتحاسبها لارتكابها جرائم تمس قوانين الطفولة والإنسانية.
وتؤكد بدوان لـ”نون بوست” أن تطبيق الحبس المنزلي يخالف جميع القوانين الدولية، وهذه السياسة لا توجد في دول العالم، كونها تحرم الطفل من ممارسة حياته العامة والتعليمية كما مع عائلته، مؤكدة أن الصعب في هذه السياسة هو محاولة ترحيل وإبعاد المقدسيين عن بيوتهم، حين يصاحب قرار الحبس السكن في مكان بعيد.
وبحسب متابعتها، فإن الإرهاق والتعذيب اللذين يعيشهما الطفل وذويه فترة الحبس المنزلي، يدفعان الكثير من العائلات لتسليم أبنائهم إلى المحكمة لقضاء وقت سجنهم، فتضعهم السلطات في مؤسسات أمنية وقد تدمجهم مع مدانين جنائيًّا، وفي ذلك عواقب وخيمة.
وذكرت بدوان أنه وفق إحصائية لهيئة شؤون الأسرى، فإن ما يقارب الـ 40 طفلًا مقدسيًّا تعرضوا للحبس المنزلي مع بداية هذا العام.
وتشير إلى أن حكايات الأطفال الأسرى تتوزع بين احتجاز غير قانوني، دون محاكمات عادلة، ودون ملفات قانونية تحمل لوائح اتهام، من خلال ما يعرَف بالاعتقال الإداري؛ أو بين محاكمات صورية تستند ملفات الاتهام فيها إلى اعترافات منتزعة تحت التعذيب؛ أو بين أسلوب “الحبس المنزلي” الذي يحمل من الأذى النفسي والمعنوي كمًّا هائلًا على الأطفال وذويهم، حيث يتحول فيه الأب والأم إلى سجّانَين لأطفالهما، ولا يستطيع الأطفال تفهّم هذه الحالة في كثير من الأحيان، ما له أثر كبير على الصحة النفسية.
تفكيك النسيج الاجتماعي
ذكر أمجد أبو عصب، رئيس لجنة أهالي أسرى القدس، أن سياسة الحبس المنزلي ورثتها “إسرائيل” عن الاحتلال البريطاني، بحيث يخرج الأسير من سجنه ثم تفرض عليه الإقامة الجبرية إما في منزله وإما لدى أقاربه، حسب شروط المحكمة الإسرائيلية.
وأوضح أبو عصب لـ”نون بوست” أن عقوبة اختراق الحبس المنزلي لا تقع على الطفل فقط بل على كفلائه، وغالبًا ما يكونون والدَيه، حيث يفرض عليهما شروط من أجل ضمان تنفيذ الحبس المنزلي، مشيرًا إلى أن المحكمة لديها شروط بألا يكون الكفيل لدية أسبقية أمنية.
لا يقتصر معاقبة الاحتلال للأطفال المقدسيين بالحبس المنزلي فقط، بل هناك رقابة وتحقُّق يوميًّا.
وبحسب ملاحظة أبو عصب لحالات الحبس المنزلي للأطفال والفتيان، يرى أن الأهالي تخدعهم فكرة الحبس المنزلي في البداية، فيفضلون بقاء الأبناء بجانبهم لرعايتهم، لكن في الحقيقة ما يدور على أرض الواقع هو عكس ذلك، حيث الوضع النفسي السيئ للطفل وعصبيته المفرطة تجاه عائلته، والتهديد بخرق شروط الإفراج، لا سيما حين يشاهد من النافذة أقرانه يخرجون للمدرسة واللعب، وكل ذلك يحطم له نفسيته، مؤكدًا أن الاحتلال يسعى من وراء هذه السياسة إلى تفكيك النسيج الاجتماعي، وتحويل البيت إلى سجن والأهل إلى سجّان.
ومن أبرز علامات الانفعال التي تظهر على الأطفال الخاضعين للحبس المنزلي، بحسب أبو عصب، “تساقط الشعر والتبول اللاإرادي أحيانًا، والعدوانية”، مبينًا أن الطفل حين يمنعه أهله الخروج من البيت، يحاول التعدي عليهم لعدم سيطرته على مشاعره، لا سيما أنه يرى حريته لكن لا يقوى على الإمساك بها.
ولا يقتصر معاقبة الاحتلال للأطفال المقدسيين بالحبس المنزلي فقط، بل هناك رقابة وتحقُّق يوميًّا، حيث تأتي دوريات الشرطة المفاجئة التي تقتحم البيت للتأكد من وجودهم والكفلاء في المنزل، ما يولد طاقة سلبية وقلقًا للصغار، لا سيما عند سماعهم أصوات السيارات، بحسب رئيس لجنة أهالي أسرى القدس.
كما كشف أن حالة التوتر والعدوانية التي يعيشها الطفل في الحبس المنزلي، دفعت بعضهم لمحاولة الإقدام على الانتحار.
وفيما يتعلق بطلب الأهالي تمضية ما تبقى لأبنائهم من حبس منزلي في السجن، يقول أبو عصب: “شعور الأهالي بالمرارة للحال الذي وصل إليه أبناؤهم هو من يدفعهم لذلك، فهم حين يعودون إلى السجن يتساوون في الظلم والظروف مع أطفال آخرين”.
ورغم خطورة الحبس المنزلي لصغار المقدسيين، ومخالفته للأعراف والقوانين الدولية، إلا أن “إسرائيل” تواصل تعنتها وتغض الطرف عن مسؤوليتها القانونية عن حقوق الإنسان الفلسطيني عامة، والطفل الفلسطيني خاصة -ما أقره المجتمع الدولي عليها بصفتها دولة احتلال في أكثر من 27 اتفاقية-، كما تواصل إلحاق الأذى الجسدي والنفسي للأطفال، لا سيما الأسرى منهم، دون أن تخصص لهم معاملة قانونية تتوافق مع تصنيف أعمارهم حتى.