في شتاء 2012 وبقاعة المؤتمرات الرئيسية بجامعة الفيوم، كان يجلس الدكتور محمد البلتاجي، وبرفقته قيادات الجامعة، وأمامه جمع غفير من الأساتذة والمعيدين الشباب، للحديث عن مستقبل مصر بعد الثورة، وكيف يمكن النهوض بها علميًا وعمليًا.
كان صوته الصداح يزلزل أرجاء القاعة، وضحكته المعهودة تذلل أي خلاف قبل أن يتحول إلى اختلاف، كانت كلماته عنوانًا عريضًا لصورة مصر في عين هذا الرجل، العلم هو السبيل الوحيد للتنمية، والعلماء والباحثون هم حراس هذا السبيل، دولة العلم يجب أن تقوم وتنهض على أنقاض دولة العوالم وأنصاف العقول ممن تصدروا المشهد لعقود طويلة.
كلماته كما أنها أثلجت الكثير من صدور الحاضرين – حتى المختلفين معه بداية الأمر – الذين ضجوا القاعة بالتصفيق الحار، إلا أنها أسالت الدموع على وجنات الآخرين، شوقًا لتلك الدولة التي يتحدث عنها البلتاجي الذي كان حماسه قطاره السريع نحو تصديق الحضور له، باعثًا الأمل في نفوس من آلمهم التهميش لسنوات وسنوات.
انتهى اللقاء، لكن بقيت الكلمات مدادًا يروي الأمل في غد أكثر إشراقًا، غد يحمل بين طياته ملامح دولة عصرية قادرة على استعادة التاريخ المجيد واستنهاض الحضارة الخالدة من سباتها الذي دام طويلًا لحساب أقزام تلاعبت على أغصان الشجرة المتهالكة إهمالًا وتشويهًا.
مر قطار الحياة سريعًا بالبلتاجي، ذلك القيادي الذي غرد بعيدًا عن السردية التقليدية لجماعته، جماعة الإخوان المسلمين، محطة تقود لأخرى، صدمات تلو الصدمات، مآسٍ واختبارات، لكنه ظل صامدًا، بصدر مفتوح لكل الطعنات، لم يستسلم رغم الألم، ولم يترك الراية مع كثرة الرماة.
تفنن خصومه في مساعي إخضاعه وإذلاله، قذفوه في عرضه، طعنوه في ابنته، ضربوه في أولاده وزوجته، لكن بسمته مع كل طعنة يتلقاها كانت نيرانًا تأكل في جلاديه، وأمام الهزائم المتتالية في مواجهة هذا الصمود المذهل، كان الخيار الأخير.. الحكم بالإعدام لإنهاء تلك الصفحة بعد سنوات من المحاولات البائسة لتلويثها.. فماذا نعرف عن محمد البلتاجي أو فارس الميدان كما يُلقب؟
إرهاصات فارس في مقتبل العمر
قدم محمد، الطالب في معهد الإسكندرية الديني الثانوي، أوراق اعتماده مبكرًا، لأن يكون نواة مبشرة لسياسي مخضرم ودعوي ملهم ومناضل مؤمن بقضيته أيما إيمان، فترأس اللجنة الثقافية في مدرسته ثم أصدر أول مجلة دعوية أزهرية وكانت تسمى “النذير” عام 1978.. كان عمره وقتها لا يتجاوز 15 عامًا، وهنا كانت بداية معرفته بجماعة الإخوان المسلمين.
رغم حداثة سنه، فإنه كان رقمًا مهمًا في منظومة العمل الخيري بالإسكندرية، فشارك في تأسيس العديد من المشروعات الخيرية، كفصول التقوية والمراكز الصحية الخدمية، بجانب نشاطه الدعوي المكثف عبر الخطب المنبرية والندوات الدينية.
لم يكن ذلك الطالب بمعزل عن الأحداث السياسية التي تدور من حوله، فكان ملمًا بكل التفاصيل التي من الصعب أن تلفت أنظار واهتمام من في مثل عمره، فكان أحد المساهمين البارزين في إقامة الندوات والمؤتمرات التي تندد بمعاهدة كامب ديفيد التي وقعتها الحكومة المصرية مع دولة الاحتلال عام 1978، بجانب معارضة الاحتلال السوفييتي لأفغانستان.
سنوات طوال قضاها الشاب السياسي، طالبًا وطبيبًا وبرلمانيًا، في مناهضة مخطط التطبيع، فساهم في إقامة عشرات المؤتمرات المنددة بالاتفاقية التي وقعها نظام أنور السادات مع حكومة تل أبيب
ورغم جدول الأعمال هذا، المفعم بالأنشطة والفعاليات التي تحتاج إلى وقت وجهد خرافي، فإن ذلك لم يؤثر على تحصيله الدراسي، فكان قادرًا على الموازنة بما يتمتع به من نبوغ مبكر، فاحتل المركز السادس في قائمة العشرة الأوائل على الجمهورية في الثانوية العامة الأزهرية عام 1980/1981.
واصل البلتاجي تفوقه الدراسي خلال فترة الجامعة، فكان أول دفعته بكلية طب الأزهر، بالتوازي مع نشاطه الجامعي الذي لم يتوقف يومًا، فاستحق أن يكون رئيسًا لاتحاد كلية الطب ثم رئيسًا لاتحاد طلاب جامعة الأزهر بفروعها المختلفة على مستوى الجمهورية.
كانت له بصمة واضحة في الفعاليات التي قادها رموز العمل الطلابي بالجامعات المصرية للدفاع عن الجندي المصري، سليمان خاطر، المتهم بقتل جنود إسرائيليين على الحدود المصرية، فخاطبوا الحكومة المصرية بالإفراج عنه، ما تسبب في غضب الجامعة التي فصلته من رئاسة الاتحاد لكنها عدلت عن هذا القرار أمام الحشود الطلابية الداعمة لهذا الشاب المناضل.
عمل طبيب امتياز بمستشفى الحسين الجامعي بعد تخرجه عام 1988، ثم التحق بالجيش المصري لأداء الخدمة العسكرية برتبة “ملازم”، حيث مكث به عامًا واحدًا فقط لصدور قرار تعيينه معيدًا بالجامعة، لتبدأ رحلة جديدة من حياة البلتاجي الذي فرض اسمه على الساحة الدعوية والسياسية في ذلك الوقت.
سياسي مشاكس
مال البلتاجي بداية حياته إلى العمل الدعوي والاجتماعي، إيمانًا منه بأن الدعوة قضيته الأم بحكم الانتماء للجماعة الذي كان نشاطها الرئيسي آنذاك العمل الخيري والمجتمعي التي نجحت من خلاله في تكوين قاعدة عريضة من الجماهير، داخل مصر وخارجها.
وفي عام 2005 وجد الشاب المفعم بطاقات العطاء والبذل، نفسه، مدفوعًا من الإخوان لدخول المعترك السياسي من بابه الكبير، البرلمان، فخاض أول تجربة برلمانية له حين ترشح باسم الجماعة لعضوية مجلس الشعب في ذلك العام، عن دائرة شبرا الخيمة بالقليوبية، محل سكنه الذي انتقل إليه بعد تخرجه من الجامعة، ليحقق فوزًا كبيرًا ويفوز بالمقعد البرلماني.
لم يكن هذا الفوز مستغربًا على الشارع القليوبي في ذلك الوقت، فالأعمال التي قدمها الطبيب الذي فتح عيادته للفقراء ومنح وقته للمحتاجين، كانت بوابة العبور السريع نحو الشعبية الجارفة التي ظل يتمتع بها لسنوات طويلة، حتى بعد أن زُج به في السجن منذ 2013 وحتى اليوم.
انتصر البلتاجي لقضايا العامة والمظلومين، فاختار الطريق الصعب، فكان صوت المظلومين والمقهورين تحت قبة البرلمان، وعُرف حينها بنائب القضايا الحقوقية، فطالب بالإصلاح السياسي واستقلال القضاء، كما رفض حبس الصحفيين في قضايا النشر، وتبنى قضايا التعليم والاقتصاد.
أسس المنتدى العالمي للبرلمانيين الإسلاميين في يناير/كانون الثاني 2007، وانتُخب عضوًا في اللجنة التنفيذية للمؤتمر القومي الإسلامي عام 2008، ثم كان أحد الأضلاع الرئيسية في الحملة المصرية ضد التوريث عام 2009، وحركة “مصريون من أجل انتخابات حرة وسليمة” و”الجمعية الوطنية للتغيير”.
النجاح الذي حققه في الدورة البرلمانية الأولى له كان دافعًا لاستكمال مشواره السياسي والخدمي، فترشح للمرة الثانية في انتخابات 2010، لكنه التزم بقرار جماعة الإخوان وقتها بمقاطعة جولة الإعادة احتجاجًا على التزوير، فقرر الانسحاب، مشاركًا فيما سمي “البرلمان الشعبي” الذي كان له دور محوري في التمهيد لثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011.
رفض التطبيع ودعم الفلسطينيين
منذ أن كان طالبًا بالثانوية العامة، كانت القضية الفلسطينية تحتل مكانة كبيرة في عقل واهتمام البلتاجي، الذي لم يدخر وقتًا للزود عنها في حدود إمكاناته المتاحة، تارة عبر الندوات والمؤتمرات، وأخرى عبر المظاهرات والفعاليات الاحتجاجية، وثالثة عبر المقالات المدوية والأحاديث المتلفزة الساخنة.
سنوات طوال قضاها الشاب السياسي، طالبًا وطبيبًا وبرلمانيًا، في مناهضة مخطط التطبيع، فساهم في إقامة عشرات المؤتمرات المنددة بالاتفاقية التي وقعها نظام أنور السادات مع حكومة تل أبيب، رافضًا لأي تحركات من شأنها أن تذلل الفجوة بين العرب ودولة الاحتلال قبل أن يسترد العرب أراضيهم كاملة، فلسطين وسوريا بجانب مصر.
شارك في تشكيل اللجنة الدولية لكسر حصار قطاع غزة، فكان على رأس النشطاء الدوليين في سفينة “مرمرة” التركية التي حاولت دخول القطاع في مايو/أيار 2010، لنصرة الفلسطينيين المحاصرين هناك، لكن اعتداء دولة الاحتلال عليها حال دون وصولها.
الفشل في رحلة كسر الحصار لم يزده إلا إصرارًا على المضي قدمًا في ذات الدرب، فخاض حملات ضارية من أجل دعم القضية الفلسطينية، وتعريف العالم بجرائم الاحتلال وتعريضها حياة الملايين للخطر، الأمر الذي كان له صداه دوليًا، فكان الرضوخ الإسرائيلي بعد ذلك وإنهاء الحصار المفروض.
الإصلاح وثورة يناير
جاءت ثورة يناير العظيمة لتحقق نبوءة البلتاجي التي تضمنها كتابه “مصر 2005 – 2010 ولماذا لم يتحقق الإصلاح المنشود؟” الذي فضح فيه الممارسات التي ارتكبها نظام مبارك لـ”بتر أطراف” الممارسة السياسية المصرية، ووأد أي محاولات للخروج من تلك الشرنقة بدعوى الإصلاح والاستقرار.
هذا الكتاب الذي فحواه عبارة عن عدد من المقالات المتنوعة التي تضع المشهد المصري برمته تحت مجهر الدراسة والتقييم، كان بمثابة روشتة إصلاحية للعبور بسلام من هذه الوضعية الحرجة التي من المرجح أن تقود إلى تحركات أكثر قسوة، ورغم تفاعل الكثير من القوى بهذه الرؤية البعيدة تمامًا عن أي أيديولوجيات ضيقة، فإن النظام حينها تعامل معها على طريقة “خليهم يتسلوا”.
كان البلتاجي وغيره ممن خاضوا سنوات طويلة في تشريح المجتمع المصري، وقياس سلوكه واستقراء ردود فعله، على دراية تامة بأن الثورة قادمة لا محالة، ما لم يتراجع النظام الحاكم عن سياساته التي تقرب تلك اللحظة يومًا تلو الآخر، ومن ثم حين خرج المصريون في يناير لم يكن الأمر بالمستغرب من القيادي المفكر كما هو حال رفقائه داخل الجماعة.
لم يستسلم أبدًا للتابوهات الأيديولوجية التي تفرضها المظلة التنظيمية للكيان الذي ينتمي إليه، فحرر عقله من أي قيود فكرية أو إدارية، فاستحق أن يكون استثناءً خارج القاعدة
وفي الوقت الذي كانت قيادة الإخوان تدرس فيه مسألة المشاركة في الحراك الثوري في ساعاته الأولى، كان البلتاجي يتقدم صفوف الشباب المشاركين (بصفته الشخصية وليس التنظيمية) منتصرًا لموقفه الشخصي وإيمانه بالقضية بعيدًا عن أي حسابات أخرى، مهما كانت التداعيات، الأمر الذي ربما أحرج الكثير من القيادات وقتها.
ظل مرابطًا مع شباب الثورة في ميدان التحرير حتى تنحي مبارك، متجولًا على أقدامه لبث الأمل في نفوس الثوار، كمواطن مصري حريص على مستقبل أفضل لبلاده، وليس بأي صفة أخرى، التف حوله الشباب إيمانًا برؤيته وتصديقًا لحدسه واستلهامًا لتجربته وتعلمًا من سنوات خبرته.
كان يُنظر للبلتاجي على أنه الروح الحرة داخل الإخوان المسلمين، الصوت الذي لا يمكن استئناسه ولا توجيهه، الروح القادرة على انتقاء مكانها وزمانها جيدًا، فتعرف متى تتكلم وفي أي وقت وبالكيفية المثلى، فدومًا ما كان يغرد طليقًا عن سرب الجماعة، بعيدًا عن مظلتها الضيقة في بعض الأحيان.
لم يستسلم أبدًا للتابوهات الأيديولوجية التي تفرضها المظلة التنظيمية للكيان الذي ينتمي إليه، فحرر عقله من أي قيود فكرية أو إدارية، فاستحق أن يكون استثناءً خارج القاعدة، فكان صوت الحق الصداح وإن خالف الكبار، وهو ما جعله في النهاية رقمًا صعبًا في المعادلة المعقدة، سواء داخل الإخوان أم مع النظام الحاكم.
إجهاض مخطط التركيع
لم تكن للمواءمات ولا الصفقات خلف الكواليس مكانًا في أجندة البلتاجي، فالرجل كان يدافع عن قضيته التي يراها من وجهة نظره عادلة، لم يدخر جهدًا في ذلك، ولم يخضع يومًا لابتزاز أو ضغوط، ومن ثم كان من الصعب حبسه في قفص الاستئناس، محاطًا بأسلاك الأدلجة الشائكة.
أرادوا تشويه صورته سياسيًا وشعبيًا، حين استغل خصومه فيديو له خلال إحدى خطبه باعتصام رابعة، ربط فيه بين توقف الاحتجاجات وعودة الرئيس الراحل محمد مرسي للحكم، ورغم أنه وضح هذا اللبس حين قال إن أهل سيناء يرفضون الانقلاب العسكرى، وإنهم كبقية الشعب سيتوقفون بالطبع عن أي احتجاجات بعودة الشرعية، وأنه لا علاقة مطلقًا بما تم الترويج له، لكن الآلة الإعلامية السلطوية وقتها كانت الأسرع والأكثر انتشارًا.
صمد القيادي الإخواني أمام مخطط إركاعه، فكانت الطعنة الأولى التي تلقاها في أثناء اعتصام رابعة، حين وجهت رصاصات الغدر لسويداء قلبه، ابنته أسماء (17 عامًا)، التي سقطت ضحية خلال عملية الفض، كانت الضربة موجعة، والألم مفجع، لكن الرجل لم يهتز.. صمود أثار الدهشة.
تحامل البلتاجي على حزنه ووداع ابنته الوحيدة، التي رغم أن دماءها لم تجف بعد حتى بدأت الآلة الإعلامية لسلطات الانقلاب في تشويهها، وممارسة واحدة من أقذر أفلام الكذب والتدليس التي عرفتها البشرية، فزوجوها وهربوها إلى السودان، وخاضوا فيها بالقول والتلميح والإشارة بما يفوق الوصف، دون حرمة لدماء أو تقديس لروح، ومع ذلك كانت البسمة التي تعلو وجه الوالد هي سلاح الردع النافذ في صدر خصومه.
دفع البلتاجي ثمن كرامته العصية غاليًا جدًا، فمنذ القبض عليه في 29 من أغسطس/آب 2013، انبرى عشرات المحامين – بدافع وتهييج من السلطة – لتقديم حزمة من البلاغات ضد الرجل، لم يشهدها سياسي في تاريخ مصر
ثم كان مشهد إلقاء القبض عليه، صوت فلاشات العدسات والمانشيتات الصحفية والتغطيات التليفزيونية كانت تشير إلى صيد ثمين وقع في أيدي قوات الأمن، فخر سلطوي يعكس حجم ما كان يمثله لهم من صداع وقلق، رغم أن الرجل لم يتوقف يومًا عن الدفاع عن قضية شرعية النظام الذي أُطيح به في انقلاب عسكري.
الطعنة الأولى لم تفلح مع الرجل.. فكان لا بد من تعزيز الألم، البداية كانت بزوجته التي حُكم عليها بالسجن ستة أشهر بدعوى أنها تعدت على أحد الضباط خلال زيارة زوجها المسجون، ثم الأبناء، الأكبر فالأصغر، اختفاء قسري واعتقالات ثم حبس وسنوات داخل المعتقل، لا لشيء إلا لأنهم أبناؤه وورقة الضغط الأكثر تأثيرًا.
اعتقلوا ابنه الأكبر أنس، الطالب في كلية التربية بجامعة عين شمس، وبعدها ابنه الأوسط خالد، الطالب بالصف الثالث الثانوي، تلته مضايقات وملاحقات أمنية مستمرة ضد الابن الثالث حسام، الطالب بالصف الثالث الإعدادي، فيما اضطر الابن الأصغر عمار – الذي اعتُقل بعد مجزرة رابعة – لمغادرة البلاد في اتجاه تركيا بعد الإفراج عنه.
وفي ديسمبر/كانون الأول 2016، وخلال نظر إحدى القضايا التي كان يتهم فيها، التقى البلتاجي والدته للمرة الأولى منذ القبض عليه في أغسطس/آب 2013، المشهد كان مؤلمًا، البعض كان يؤمل نفسه بنظرات انكسار يحقق من خلالها نصرًا مزيفًا، لكن جاءت الرياح بما لا تشتهي السفن.. جرى الابن تجاه والدته الجالسة على كرسي متحرك، قبل يدها، تبادل معها الحديث وبسمته لا تفارق وجهه، صامدًا في مكانه.
كل هذا ولم يركع البلتاجي، ومع كل جلسة محاكمة، وبينما كانت السلطات تؤمل نفسها بكسرة نفس مذلة، كانت نظرته الثاقبة من داخل القفص تبعث بالأمل لمن هم خارجه من الشباب والمؤمنين بالقضية، وبعد محاولات مستميتة على مدار أكثر من 7 سنين.. كان الحل في طي تلك الصفحة العصية للأبد.. التصفية السياسية حتى الموت.
ثمن الكبرياء العصيّ
دفع البلتاجي ثمن كرامته العصية غاليًا جدًا، فمنذ القبض عليه في 29 من أغسطس/آب 2013، انبرى عشرات المحامين – بدافع وتهييج من السلطة – لتقديم حزمة من البلاغات ضد الرجل، لم يشهدها سياسي في تاريخ مصر، حتى مبارك الذي مكث في الحكم 30 عامًا أفسد فيها مصر على كل المسارات.
تعامل القضاء مع تلك البلاغات – رغم سطحية الكثير منها – بجدية لا تُرى في القضايا الأخرى مكتملة الأركان، فكان من بينها على سبيل المثال هذا البلاغ الذي قدمه المحامي عصام الأقصري في يونيو/حزيران 2012 ضد القيادي الإخواني بزعم استخدامه لفظًا خادشًا للحياء في أثناء لقاء له ببرنامج العاشرة مساءً مع الإعلامية منى الشاذلى على قناة “دريم”.
ثم توالت البلاغات والقضايا المرفوعة بحق البلتاجي وكأنه “دولة” وليس شخصًا، فهذا يتهمه بالتحرش الجنسي وآخر بالتآمر مع الغرب لقلب نظام الحكم وثالث بالتورط في ذبح 21 مصريًا ورابع بقتل المتظاهرين وخامس بإهانة القضاء، وسادس بحرق مجمع محاكم وسابع بتعذيب محام وثامن بقطع الطريق وعاشر باختراق الحدود وحادي عشر بأحداث الاتحادية.. وغيرها من القضايا التي لا يمكن أن يرتكبها شخص واحد إلا في أفلام الخيال العلمي في هوليوود.
عشرات القضايا ومئات السنين من الأحكام الصادرة بحق السياسي المخضرم ولم تُحرك فيه ساكنًا، ولم تنتقص من صموده إلا قوة، ومن كرامته إلا عزة، ولم تشف غليل خصومه إلا حسرة وصدمة، ليبقى المربي الجامعي الناجح والبرلماني المشاكس وصاحب العزيمة والكبرياء، غصة في الحلق، ما كان لها أن تستأصل إلا بحكم أقل ما قيل عنه إنه مسيس ويفتقد للعدالة والنزاهة.
قد يُسدل الستار على حياة البلتاجي بحكم الإعدام الصادر بحقه، وسواء نُفذ هذا الحكم أم لم ينفذ، ستظل تجربته حالة فريدة وعنوانًا عريضًا للكبرياء والإباء والصمود، وتبقي سيرته نبراسًا يضيء دروب أصحاب القضايا والهمم العالية، لتنتهي المعادلة بأبجديات مختلفة، فلكم شهد التاريخ تخليدًا لضحايا انزوى جلادوهم في غياهب النسيان، فالانتصار الزائف الذي يوهم به المنتصر نفسه قد يحمل داخل رحمه هزيمة نكراء، وإن أُجلت حتى حين.