يوم الـ 15 من شهر يونيو/ حزيران 2021، تفشت حالة استبشار في تونس في الصفحات الموالية للحكومة، بقرب الانفراج السياسي للأزمة التي أعاقت البلد والانتقال الديمقراطي، قابلتها حالة غضب وكمد في الصفحات المضادة لها، نتيجة أخبار تتعلق أولًا بانشقاق سياسي في حزب الفاشية، ونتيجة الإفراج عن نبيل القروي مالك حزب قلب تونس المساند للحكومة، وقبل ذلك إعلان رئيس البرلمان عن قبول رئيس الدولة، بعد رفض طويل، الجلوس إلى طاولة حوار وطني اقترحته النقابة منذ نهاية العام 2020.
هل هو انفراج حقيقي
ظاهر الأمر أن الأخبار واعدة بانفراج سياسي في مواقع كثيرة، فانشقاق حزب الفاشية يؤذن بنهاية دور زعيمته في البرلمان وفي الشارع، والتي بلغ بها التوتر أن رفعت شعار “ارحل” في وجه أعضاء حكومة يساءلون أمام البرلمان.
وقد قُرئ الانشقاق وإعلان قيادة بديلة (لم تنظم سوى مؤتمر صحفي واحد)، بأن الحزب لم يعد ملكها تفعل به ما تشاء، ويكفي أن يكون هناك تيار ثانٍ موازٍ لها، ليتم البدء في اقتسام النفوذ والأدوار.
وقبول الرئيس بالحوار يؤذن بنهاية الأزمة التي خلقها، والمرحلة الآن هي مرحلة الحديث عن المستقبل، وسننتظر جدول أعمال طاولة الحوار لنعرف التوجهات القادمة، لكن بدء الحديث في ذاته حركة نحو المستقبل.
أما إطلاق سراح نبيل القروي، بناءً على خطأ في الإجراءات قبل النظر في أصل القضايا التي أوقف من أجلها، فيكشف أن الملف فارغ وأن الرجل قد خرج ولن يعود، خاصة أن هناك فضيحة تسربت حول الملف، مفادها أن الخبراء المحاسبين الذين ألفوا التهم الجبائية قد زيفوا المعطيات، ما يفتح باب قضية ثانية رفعها القروي ضدهم في أقصر وقت متاح له.
يكفي أن نشير إلى أزمة الأعلاف لكي يصبح للجمهور حق في الحد الأدنى من التسيير العقلاني لمقدرات البلد، التي عطلها السياسيون بأطماعهم الفردية والفئوية.
إطلاق سراح نبيل القروي سيكون قوة للحكومة التي يسندها بكتلته النيابية، وضعف الفاشية سيكون قوة للبرلمان الذي يسند الحكومة، وقبول الرئيس بالحوار يعني أنه سيتوقف عن تعطيل كل شيء، وهذا سر استبشار أنصار الحكومة، خاصة أنصار حزب النهضة الذين بذلوا جهودًا كثيرة في الدفاع عن حكومة المشيشي، رغم أنهم غير ممثلين فيها.
أضف إلى ذلك أن مشاركة النقابة في الحوار من موقع المقترح الفعال، سيترجَم بتهدئة اجتماعية تحتاجها الحكومة والبلد. فهل يحق للجمهور أن يستبشر؟
الجمهور يبحث عن بصيص أمل.. لكن
للجمهور حق الأمل ولنا حق الرؤية الأشمل، إذ يكفي أن نشير إلى أزمة الأعلاف لكي يصبح للجمهور حق في الحد الأدنى من التسيير العقلاني لمقدرات البلد، التي عطلها السياسيون بأطماعهم الفردية والفئوية (الحزبية) المنفصلة كليًّا عن حياة الناس الضنكى. لكن يحق لنا السؤال عن سبب الأزمة. فهناك يكمن الحل.
ما كان لهذه الأزمة أن تستفحل وتعطل مسار البناء الديمقراطي والسياسي، وتلقي بالمخارج الاقتصادية في عالم مصاب بوباء كاسح، لولا أن العقل الاستئصالي هو الذي يوجه الفعل السياسي.
الجمهور ليس استئصاليًّا في الجوهر، لذلك منح الجميع فرصة على قاعدة مشاركة جماعية في البناء، وكانت النتيجة هي انتخابات 2019، لكن العقل الاستئصالي تحرك فعطّل تشكيل حكومة يقودها حزب النهضة (حكومة الحبيب الجملي).
تنازُل حزب النهضة عن حقوقه لم يشفع له ليحكم، فكانت حكومة الفخفاخ التي تصرفت كأن ليس فيها 7 وزراء من النهضة، ثم ختمت تاريخها بقضية فساد أودت بها (حينها كنا نتحدث عن حكومة الثورة والثوريين الشرفاء الأطهار).
وقف الجمهور بشرف مع مرشح قدم نفسه في صورة ابن الشعب، القادم من صف الفقراء ليحكم، ومن صف المقاومة ليقف مع فلسطين المحتلة، ضد مرشح فاسد متهم في ذمته المالية ووطنيته.
كان الاختيار الشعبي سليمًا (لنقل فطريًّا)، لكن حدثت انقلابات بخلفية استئصالية، تمثلت خاصة في انقلاب جمهور القروي مع الرئيس، بعد أن كان يصنفه بيدقًا لحزب النهضة، ووقع تحويل وجهة الرئيس، فكشف الرئيس عن وجه استئصالي لا يختلف عن فعل بن علي، وإن عجز دون شن حرب إبادة مماثلة، ولا نظنه قد غادر موقعه رغم إعلانه قبول الحوار، حيث سيجد نفسه يجلس على الطاولة نفسها مع عدوه البغيض راشد الغنوشي.
هذه الروح الاستئصالية التي جسّدها بوضوح موقف حزب التيار وحزب حركة الشعب وحزب الفاشية، في لقاء غريب عن الخطاب السياسي المؤسس لكل منهم، هي التي حولت وجهة انتخابات 2019 وأسقطت الأمل الذي خلقه الناخب (الفطري)، وجعلت المعركة السياسية تعود إلى نقطة الصفر التي تركها فيها بن علي قبل هروبه.
والحوار الوطني الذي ننتظر لن يناقش أصل المشكلة، بل سيتجه إلى تدبير حلول ظرفية تخفف الأزمة الاقتصادية، لكنها لن تؤسس لحوار سياسي غير استئصالي يتجاوز جذور الأزمات فلا تعود أبدًا.
حدود التفاؤل إذًا ضيقة وغير ذات أفق مؤسس، والتفاؤل الشعبي هو تفاؤل العاجزين، ما يعطي مصداقية لأحاديث كثيرة تدور في تونس عن ضغوط دولية لحل الأزمة داخلية، قبل التدخل الخارجي لمعالجة إفلاس البلد. فالنخبة السياسية وفي مقدمتها الرئيس، وضعت البلد على حافة الإفلاس.
هل كانت أزمة تونس على طاولة الناتو؟
من العسير العثور على دليل مكتوب في الأمر، ولكن نعرف أن لتونس شركاء، وهؤلاء الشركاء مقسّمون بحسب الخريطة السياسية الداخلية، ولكل منهم نفوذ ومطامح يمررهما في تونس عبر أنصاره.
يؤلمنا أن نتحدث عن البلد ومصيره من زاوية أن نخبته خاضعة لإملاءات نصائح خارجية، ولكن هنا مربط الفرس.
تساند فرنسا الرئيس وحزامه الاستئصالي بلا مواربة، وهي تشن حربًا استئصالية ضد النهضة بواسطة هؤلاء، وتساند تركيا حزب النهضة وتدعم الحكومة التي يدعمها، كما تدعم الولايات المتحدة تقدم الديمقراطية بخجل، وتخترع بدائل تريحها من التدخل العسكري وفرض النظام في العالم (وهي خطة الديمقراطيين).
وهناك مؤشرات اتفاق بين الأتراك والأميركيين انكشف بعضها في حل المسألة الليبية، ويروج حديث عن اتفاق بينهما حول المسألة التونسية، وكما أسلفت ليس هناك أخبار يقينية حول الموضوع، لكن لا نظن أن حديث أردوغان مع ماكرون وحديث بايدن مع أردوغان قد أغفل الموضوع التونسي، ونتحدث هنا بتحفظ كبير، ولكن السؤال الذي طُرح في تونس هو هل لتراجع الرئيس وقبوله بالحوار علاقة بأحاديث تدور بين فرنسا وتركيا، وبين فرنسا والولايات المتحدة؟
لدينا الوقت والصبر للتثبت من الأمر في قادم الأيام، ولكن لدينا حدس بأن المهتمين بتونس (أصدقاء تونس) قد تحدثوا عن أزمتها، وقدموا حلولًا أو اقتراحات لأنصارهم في الداخل قابلة للتنفيذ، وهي التي ستكون في خلفية الحوار الوطني.
يؤلمنا أن نتحدث عن البلد ومصيره من زاوية أن نخبته خاضعة لإملاءات (نصائح) خارجية، ولكن هنا مربط الفرس. ما كان لهذه “النصائح” أن تتدخل في شأن البلد وتقترح عليه حلولًا، لو أن نخبته قد تجاوزت العقل الاستئصالي الذي حكم مصير الثورة والانتقال الديمقراطي، ما يصنع الآن أزمته السياسية.
تلك الروح الكافرة بالديمقراطية والتعايش هي من فتحت كوة لدخول القوى الخارجية للتأثير، وهي نفسها التي ستحجم دور الحوار الوطني في تدبير حلول مؤقتة، لكنها لن تتحلى بالرجولة السياسية لتقول كفى يمكن العيش معًا دون قتل الإسلاميين.
سيكون حوارًا “وطنيًّا” لتمويه الأزمة الجذرية التي تحكم عقول النخبة، فإذا حدث انفراج مادي طفيف سنعود إلى الاقتتال الاستئصالي. وهذا ليس حلًّا مؤسِّسًا، وإنما تأجيلًا لأزمة جذرية لن تحل إلا بموت أحد أطرافها، والاستئصاليون يحتضرون ولا عزاء.