“ثرثرة خلف المحراب” هي مجموعة قصصية للسعودي حسين السنونة، صدرت عن دار الانتشار الأدبي والنادي الأدبي الثقافي بالحدود الشمالية في السعودية عام 2019، تتضمن عشرين قصة، هي: “ثرثرة خلف المحراب، أجساد.. ثملة، أنين الذكريات، رسالة من الصين، وهج الخيال، غباء.. خاص جدًّا، قطط.. حشرات.. نمل، مثلث من ورق، ترانيم مواطن متسكع، شيخ قريتي، عام جديد، الدقيقة الخامسة بعد منتصف الليل، أصباغ.. ثملة، أنا وأمي.. والمحرمات، أسئلة.. بيضاء مجنونة، ها أنت وحدك، ملح بطعم العسل، فنجان أسود ورقصة عجوز، ثرثرة سجين، رأس وكف ووسادة”.
تناولت قصص المجموعة عددًا كبيرًا من القضايا والهموم على المستوى الفردي والجمعي، مثل: القضية الفلسطينية، الترهل الإداري، البطالة، التعصب، الحياة الفكرية، رجال الدين، التخلف، الخيبات، الهزائم وغيرها.
وكان اللافت أن معظم هذه القضايا تناولتها القصص من خلال الفضفضة والاحتجاج والذكريات والمونولوج والصراخ والخيال والأحلام، ولم تنفصل الهموم الشخصية عن الهموم المجتمعية والوطنية، في تداخل واشتباك لا يخفي تأثير كل منهما على الآخر؛ فالانكسار الشخصي ناتج عن انكسار وطني، والفساد يؤدي إلى الظلم وضياع الحقوق.
وعلى عكس المألوف في القصة القصيرة التي تعتمد الجملة الفعلية، ولغة سردية مكثفة، فإن قصص هذه المجموعة اعتمدت أكثر على الجملة الاسمية؛ لأن الفعل الإيجابي متوقف.
واهتمت أيضًا بالفكرة أكثر من عنايتها باللغة ومحسّناتها وبديعها، لضرورة أن تصل الرسائل إلى وجهتها وهدفها بوضوح دون زينة أو تنميق.
وجاءت الجمل على شكل مشاهد مفككة، ومقاطع منفصلة، في إشارة مقصودة لتشظي الذات وتشتتها وانكساراتها الداخلية التي تنعكس على تصرفاتها وحياتها، المليئة بالخيبة والفشل والإحباط وانعدام الأمل بالتغيير الإيجابي على المدى القريب.
انشغالات الحياة
تصور القصة الأولى “ثرثرة خلف المحراب” واقع كثير من المصلين، خاصة في انتظار الإقامة، فالحياة تجثم على صدر الجميع، ويشغلهم أمرها حتى في بيت الله، فيتفكرون في الرياضة والمسلسلات، وطلبات العائلة وظروف أفرادها، وقروض البنوك، ورائحة المصلين وسلوكياتهم وهيئاتهم، ويبقى الذهن مشغولًا حتى تقام الصلاة.
لا أظن أن الانشغال هذا يتوقف، وإذا كان الحال كذلك في الصلاة، فهو أشد في غيرها وأثقل وطأة على النفس، وهذا الانشغال الذهني بظروف الحياة ومتطلباتها ومشكلاتها، يؤرق الجميع ويقض مضاجعهم، ويحيل حياتهم إلى شقاء وتعاسة وضنك.
نستحضر الذكريات في العادة لتنقذنا من الواقع البائس، لترطّب أيامنا الجافة، لتعيدنا إلى ماضٍ جميل.
وغير بعيد عنها قصة “قطط.. حشرات.. نمل”، حيث المواطن منشغل ومهموم بالطعام، باحتياجاته البيولوجية (الحيوانية)، وهو بهذا متساوٍ مع الحشرات والقطط والنمل، أما الشؤون الأخرى فبعيدة عن تفكيره واهتماماته، وهكذا الأنظمة تستعبد المواطنين من بطونهم وما سفَلَ، ليسلموا من رفع رؤوسهم إلى أعلى.
الخيال والأحلام
وفي ظل الوضع الراهن الذي لا يبشّر بأي تغيير نحو الأفضل، فلا يبقى أمام المواطن إلا التحليق في الخيال أو الإبحار في عالم الأحلام الجميل.
في قصة “وهج الخيال”، حيث يعاني الجميع من الظلم والترهل الإداري والفساد، ويخيب أملهم في أي حل لمشاكلهم، يلجؤون إلى أحلام اليقظة بأن كل ظروفهم تغيرت، وحقوقهم تحصلت، وأحلامهم تحققت، ومشاكلهم حلت؛ فجنة الخيال هي الحل المتاح لكل مشاكلنا، وإن كانت خداعًا للنفس وغيبة عن الواقع.
وتأتي قصة “رأس وكف ووسادة”، لتحقق للمواطن أحلامه وطموحاته الكبرى، ليس على الصعيد الشخصي فحسب، بل لحل القضايا المجتمعية والقومية، ففي هذه القصة يستطيع مواطن أن يتحكم في أحلامه؛ فيحلم بتحرير فلسطين المحتلة تحت قيادته المظفرة، ويحلم بأنه أصبح غنيًّا يساعد ويبني المدارس والجامعات والمستشفيات، ولكنه فشل أن يصبح وزيرًا أو مسؤولًا أو محللًا سياسيًّا، يحلم بفيلم هندي رومانسي. وتبقى الأحلام بأنواعها هي الملاذ الوحيد للمواطن العربي، التي لا سلطة للأنظمة عليها، وإلا لحظرتها وفرضت عقوبات على مقترفيها.
الذكريات
نستحضر الذكريات في العادة لتنقذنا من الواقع البائس، لترطّب أيامنا الجافة، لتعيدنا إلى ماضٍ جميل، ولكن أي خيبة يعيشها المواطن العربي وذكرياته مُرّة، وماضيه ألم، ولا فرق جوهريًّا بين الأمس واليوم إلا بتراكم الخسارات والهزائم؟
في قصة “أنين الذكريات”، تزور المرأة بيت العائلة المهجور الذي رفضوا بيعه، تتذكر حجراته ومرافقه، والجد وطقوسه اليومية، وخوفه على أبيها من الكتب التي يقرأها وصفعه، والخوف عليه يوم اعتقل، وموته يوم مات الزعيم. نعم كان هناك بعض لحظات ومواقف جميلة، لكنها بفعل ذاتي تعالٍ على الجراح، هروب من جب الخوف ولو للحظات. الذكريات لا تموت إلا بموت أصحابها، وتبقى شاهدة بأفراحها وأحزانها.
ينتهي عام ويبدأ عام جديد في قصة “عام جديد”، ولكن ماذا يعني بدء عام جديد؟ وأي جديد في الأمر والأعوام تتوالى ولا تغيير يُذكر منذ عصر الأجداد؟ الشوارع على حالها، والرواتب كما هي، والمشكلات تتراكم، ولا شيء يشي بأي تغيير. عداد الأعوام يدور، وعدّاد الخيبات يدور، وعدّاد الوجع يتسارع.
في قصة “رسالة من الصين”، ترسل للشخصية صديقته الصينية رسالة تستذكر فيها أيامهما الجميلة يوم التقته ذات مرة في بكين، تذكر فيها فخره واعتزازه بأصله وتاريخه الجميل والشعراء الكبار الذين ازدحم بهم ماضي أمته المشرق، ولكنه يمقت أصله أيضًا لما في الحاضر من نكبات وخيبات وانكسارات لا تسر أحدًا، ومع ذلك تود أن تلتقيه لأنها تعشق إنسانيته الجميلة.
وما أشقى المرء بحاضر لا يجد فيه ما يسرّ الخاطر، ويلجأ إلى ماضٍ لم يكن له يد فيه لينعش روحه، ويتكئ على أمجاد الأجداد حسرة واستسلامًا للهزيمة التي فرضت عليه.
في قصة “ترانيم مواطن متسكع”، فإن الظروف القاسية والخيبات المتلاحقة تخرج المرء من عقله، وتجعله يصيح في الطرقات بوعي أو دون وعي.
البطولات الفردية محكومة بالنهايات الحزينة الحتمية، وهذا ما تضمره قصة “ثرثرة سجين”، فالشاب الأربعيني نزيل زنزانة جرداء بتهمة سياسية، يتذكر نصائح والده وأمه وتحذيرات خطيبته أن يترك السياسة ويهتم بدروسه ومستقبله، ولكن كلام صديقه يستفزه أن يعيش حرًّا ويترك بصمة له في الحياة. ولكن أين خطيبته الآن؟ هل ستنتظره؟ أما صديقه فقد أصبح من أصحاب العقارات والأموال… وانتبه من ذكرياته وتصفح أوراق العمر إلى باب يفتح، حيث اقتادوه دون رجعة.
في قصة “ها أنت وحدك”، يعيش الرجل وحيدًا في خريف العمر، يتذكر شبابه وشعاراته ومواقفه الفكرية المستقلة، واتهامه من قبل الآخرين وسخريتهم منه، ويتذكر الأوضاع العربية والبطولات الجوفاء، يتذكر أولاده الذين كبروا وتفرقوا وزوجته المتوفاة، ومعارفه الذين ارتقوا وترغدوا وهو لم يزل مكانه، وكيف باع وتخلى عن بعض أملاكه ليساعد الآخرين، ثم ها هو في نهاية المطاف وحيد يجتر ذكريات العمر بحلوها ومرّها يقرأ كتاب “ها أنت وحدك”، وكأن الحياة تأبى إلا أن تسلبه كل لحظة جميلة عاشها، فأن تتذكر يعني أن تتحسر، ولا تتذكر إلا لما تشعر به من فقد وخسارة.
واقع بلا أمل
أن تشعر بالقهر والظلم من الغير، خاصة من المسؤولين، فهذا شيء مألوف في مجتمعاتنا العربية، ولا يمكن أن نتوقع غير ذلك، ولكن في قصة “أسئلة.. بيضاء مجنونة”، يشعر الزوج بالقهر والألم من زوجته التي تعود من السوق بكفنَين لها وله، حتى يكونا جاهزَين خشية أن يتصدق أحد عليهما بكفن بعد موتهما.
بسبب ذلك تنهال عليه الأحداث والذكريات والأشخاص، ويتساءل لماذا نميت أنفسنا قبل أن تحين ساعتنا، لماذا نستبق الحزن، ونستجلب الألم، ونستحضر ساعات الوداع؟ فإن من شأن هكذا تصرفات أن توهن الجسد وتجلب الشؤم وتنكد العيش!! ولكن يبدو أن الزوجة تحسن قراءة واقع لن يتغير نحو الأحسن، وأن ما هم فيه هو موت قبل الموت، ولسان حالها يقول: “بيدي لا بيد عمرو”.
في قصة “ترانيم مواطن متسكع”، فإن الظروف القاسية والخيبات المتلاحقة تخرج المرء من عقله، وتجعله يصيح في الطرقات بوعي أو دون وعي، تضرب سهامه كل متسببي القهر والألم في الوطن، ولكن يبقى الصراخ من حقه، والوطن لهم، وفي النهاية لن يستريحوا حتى يسكتوا صوته الذي يزعجهم.
وكم من مجنون في الطرقات والأزقة ضحية حياة خالية من الحياة؟ وما أكثر المجانين الذين تسترهم جدران البيوت، الذين قطعوا ألسنتهم، ولا يستطيعون التعبير عن آلامهم بكلمة أو نأمة؟
القاص السعودي حسين السنونة
وبعد، فإن “ثرثرة خلف المحراب” هي المجموعة القصصية الأولى للصحفي السعودي حسين السنونة، ومع أن معظم القصص تثير مكامن الألم والحزن، وتنتهي بمصائر بائسة، إلا أن المجموعة لا تهدف إلى بث روح اليأس والاستسلام والقبول بالأمر الواقع، بل توجه لطمات وصفعات ووخزات لنستيقظ، وندافع عن حقوقنا، وأن لا نترك السفينة للسفهاء يثقبونها أو يوجهونها نحو المجهول.