ترجمة: حفصة جودة
كتب: هارون الأسود و شيرين خليل
لم تشتر سهى الأتاسي وأسرتها أي خبز منذ أكثر من شهرين، زيت الطهي أصبح رفاهيةً وشراء البنزين يعرضك للخطر أو للابتزاز، تعيش أسرة الأتاسي المكونة من طفلين بالغين ووالديهم في السويداء جنوب غرب سوريا، وتعد من أكثر المناطق التي تعاني من انهيار الاقتصاد في البلاد بعد 10 سنوات من الحرب.
ازدادت أسعار الغذاء في سوريا نحو 5 أضعاف في السنوات القليلة الماضية، ما اضطر العائلات للقبول بتسويات صعبة، في بداية هذا الشهر حذر مسؤولو الأمم المتحدة من أنه إذا فشل مجلس الأمن في الموافقة على استمرار العمليات من المعبر الحدودي الوحيد المفتوح لدخول المساعدات إلى سوريا فإن الموقف سيزداد سوءًا.
في الوقت الحاليّ، تدخل 1000 شاحنة تابعة للأمم المتحدة معبر باب الهوا من تركيا كل شهر لتوصيل الغذاء والأدوات الطبية والمساعدات الإنسانية للسكان شمال غرب البلاد.
ومع ذلك فجميع المعابر الحدودية من الأردن مغلقة أو لا تسمح بمرور الشاحنات الإنسانسة بالقرب من عائلة الأتاسي، لذا فمثل هذه المساعدات نادرًا ما تصل إلى المناطق الريفية في القرى الجنوبية، تقدم السويداء القليل من الخيارات المبدعة لتخفيف الضغوط الاقتصادية المتزايدة مقارنة بالفرص المتاحة للمناطق الأكثر تحضرًا.
الانتظار في طابور الوقود في واحدة من ثلاث محطات البنزين في المدينة يحمل مخاطرة كبيرة ويستهلك الكثير من الوقت
تقول سهى: “دمشق وحلب مدينتان كبيرتان بهما الكثير من الوظائف ويملك الناس فيهما دخلًا أعلى وهناك الكثير من الأسواق لذا لا يستطيع التجار احتكار البضائع والأسعار، أما هنا فعدد التجار محدود والأسواق صغيرة لذا بإمكانهم التحكم ورفع الأسعار بسهولة لعدم وجود بديل”.
عصابات السوق السوداء
لأن سهى لا تملك أشقاءً أصغر يمكنهم إضاعة أيامهم في طوابير الخبز فإن أسرتها لا تشتريه، أما الانتظار في طابور تزويد سيارة الأسرة بالبنزين في واحدة من ثلاث محطات البنزين في المدينة فهو يحمل مخاطرة ويستهلك الكثير من الوقت، لذا عندما يحتاجون للبنزين بشدة فإنها تدفع بأسعار السوق السوداء للحصول على 40 لترًا رغم أنها تعلم أنه سيصلها نصفهم فقط.
تقول سهى: “معظم من يقفون في طوابير محطة البنزين إما مهربون وإما عصابات السوق السوداء، لقد حاولت بالفعل الوقوف في الطابور، لكن المسألة ضربة حظ، يمكنك أن تقف عدة أيام في الطابور لكن عندما يأتي البنزين أخيرًا، سيأتي رجال العصابات ويتجاوزون الصف ليقفوا أمامنا، هناك الكثير من المشاكل”.
في 2016 قدمت سوريا برنامج “البطاقة الذكية” لدعم البنزين ليصبح متاحًا أكثر وبعد عدة سنوات توسع الأمر ليشمل بعض السلع الأساسية، لكن سهى تقول “المشروع فاشل، فما زال علينا الوقوف في طوابير طويلة، هذا المشروع برمته غبي، إنها بطاقة غبية”.
رفعت دمشق أسعار البنزين في المناطق الخاضعة للنظام في شهر مارس/آذار بأكثر من 50% وذلك بعد انهيار سعر الليرة السورية بشكل كبير في السوق السوداء.
في شهر أبريل/نيسان رفعت حكومة الأسد سعر الصرف الرسمي ليصل إلى 2512 ليرةً سوريةً مقابل دولار واحد أمريكي، ليصبح ضعف السعر السابق، كان لهذه الزيادة تأثير إيجابي محدود على البنك المركزي السوري.
أما سعر الصرف في السوق السوداء الذي يؤثر على غالبية الناس عند شراء البضائع اليومية فما زال ضعف هذا الرقم، في آخر أسبوعين من شهر مارس/آذار انخفضت أسعار السوق السوداء لليرة بشكل مفاجئ بنسبة 9%، ما تسبب في إغلاق العديد من المتاجر عدة أيام لتجنب خسائر فادحة والانتظار حتى استقرار أسعار السوق السوداء.
نتيجة لهذا الانخفاض ازدادت أسعار الغذاء – المرتفعة بالفعل – بنسبة 30% وفقًا لبرنامج الغذاء العالمي للأمم المتحدة، هذه التكلفة تفوق بكثير قدرات أسرة الأتاسي، لذا فهم يعتمدون على الحد الأدنى للبقاء على قيد الحياة.
تقول سهى: “إننا نحاول تأمين الاحتياجات الأساسية فقط مثل البيض والقمح المجروش، أما اللحوم بأنواعها وزيت القلي وجميع الأطعمة المقلية أصبحت رفاهية، تبيع المتاجر الزيت من أجل الطبخ بالكوب، أي أقل من ربع لتر”.
من الصعب الحصول كذلك على أي دواء بالإضافة إلى ارتفاع أسعاره، فحسبما تقول سهى هذا النظام الغذائي الضعيف يجعلهم عرضةً للمرض، وهو الأمر الذي أصبح مثيرًا للقلق أكثر بسبب جائحة كوفيد-19.
تقول سهى: “إذا مرضت اليوم فإنك تأمل في الحصول على الدواء بعد 4 أيام من ذلك”، كما تشير سهى إلى أن أسرتها مدينة للصيدلية المحلية بمبلغ يعادل نصف راتب والدتها الشهري.
ترى سهى أنها أكثر حظًا من غيرها، فهي تعمل في منظمة غير حكومية تدفع رواتب أفضل من الوظائف المحلية، أما والدها فيحصل على معاش شهري أقل من 50 ألف ليرة سورية أي نحو 19 دولارًا رسميًا ويبلغ النصف في السوق السوداء، في الوقت نفسه تعمل والدتها في وظيفة حكومية براتب أقل قليلًا.
أما شقيقها فهو طالب بكلية طب الأسنان في حلب ولا يستطيع العمل بسبب دراسته، لذا تقوم الأسرة بما في وسعها لدعمه، تقول سهى: “حاول شقيقي العمل في السوق لكننا رفضنا حتى لا تتأثر دراسته”.
الجميع غاضبون
تنتظر سهى نحو 4 ساعات في اليوم لركوب الحافلة التي تقلها للعمل، انخفضت أيام العمل لـ3 أيام في الأسبوع بالنسبة للكثير من الناس ومنهم سها بسبب ندرة المواصلات، تقول سهى: “تعمل الحافلات الخاصة يومين في الأسبوع وتخصص اليومين الآخرين لملء الوقود، لكنهم يبيعون أيضًا مخصصاتهم من الوقود لتجار السوق السوداء، فهو أكثر ربحًا لهم”.
“لذا أضع حجرًا في الشارع بطريقة مريحة وأجلس عليه في انتظار الحافلة، يتحدث الناس مع بعضهم أول نصف ساعة ثم يشعرون بالغضب ولا يستطيعون إكمال حديثهم، الجميع في الشارع غاضبون”.
يقول أحد المواطنين: “أتجنب الخروج لأتجنب المشاكل مع الناس، فالجميع غاضبون من الفقر ونقص السلع الأساسية”
يقول عماد صارم – في الثلاثينيات من عمره ويعيش في السويداء أيضًا – إنه عادة ما يتسلق الشاحنات التي تجوب شوارع المدينة ويدفع ضعف أجرة الحافلة للذهاب إلى عمله، وفي بعض الأسابيع لا يصبح هناك وقود أبدًا ولا تأتي تلك الشاحنات.
كان عماد يعمل من قبل وكيل عقارات في السويداء لكنه الآن يقوم بعمل إضافي في البناء والزراعة أو أي شيء مفيد منذ أن أصبح سوق العقارات غير مناسب.
يقول عماد: “أصبحت إيجارات المنازل باهظة للغاية وتناقص الطلب عليها، فقد ارتفع إيجار المنازل المفروشة من 50 ألف ليرة إلى 200 ألف، أي 4 أضعاف العام الماضي”، كرجل أعزب يحاول عماد ألا يفكر في الأسرة والحياة التي كان يحاول تكوينها قبل الحرب وانهيار الاقتصاد.
يضيف عماد “التخطيط للزواج أصبح مكلفًا هذه الأيام، وكيف سأطعم أبنائي في المستقبل؟ لماذا أنجب طفلًا في هذا المجهول، فمن يملك أطفالًا هنا ليس له إلا الله”، بخلاف العمل ومحاولة شراء المستلزمات لعائلته، يحاول عماد الجلوس في المنزل قدر الإمكان، فيقول: “أتجنب الخروج لأتجنب المشاكل مع الناس، فالجميع غاضبون من الفقر ونقص السلع الأساسية”.
في بعض الأحيان يتجه عماد للكحول لتهدئة عقله”!
يقول عماد: “أرغب فقط بالحصول على بعض الراحة وتجنب الصداع والتفكير بشأن انقطاع التيار المستمر، ففي الأيام الباردة كان تناول الكحول يبقيني دافئًا بدلًا من نظام التدفئة”.
هناك أزمة من قبل العقوبات
تعرض الاقتصاد السوري لضربات من عدة جوانب، فبينما قد تعاني أي دولة بعد 10 سنوات من الحرب، لم تقم حكومة النظام إلا بالقليل لتلبية المتطلبات الدولية للحصول على المساعدة.
كما فرضت رسومًا باهظة – أحد أكبر مصادر الدخل الحكومية – على الرجال المتخلفين عن الخدمة العكسرية الذين فروا خارج البلاد أو رفضوا الانضمام للجيش، في شهر فبراير/شباط أعلنت الحكومة خطة للاستيلاء على ممتلكات وأصول اللاجئين السوريين والتهجير الداخلي للأشخاص الذين لا يستطيعون الدفع.
يقول عماد: “لا تملك الدولة رجال سياسة مناسبين ولم تتمكن بعد من إجراء حوار مع الدول الأجنبية لحل أزمتها، إنها دولة فاشلة، وهم يخدعون الشعب منذ 10 سنوات”.
صدرت عقوبات “قيصر” الأمريكية في ديسمبر/كانون الأول 2019 وتهدف للضغط على الحكومة السورية للاستسلام للمطالب الدولية بتحمل مسؤوليتها عن العديد من جرائم الحرب التي ارتكبتها
تسببت الأزمة الاقتصادية في لبنان المجاور إلى نقص القدرة على التصدير، ما أدى إلى تفاقم الوضع في سوريا، أما روسيا حليف النظام الرئيسي فلم تظهر أي بوادر عن استعدادها لسد أي نقص.
في الوقت نفسه استهداف العقوبات الأمريكية للحكومة السورية ومسؤوليها جعل البنوك تتردد في العمل مع الجهود الإنسانية ومتطلبات تجاوز العقوبات رغم التنازل عن المساعادت خوفًا من عقوبات ثانوية.
صدرت عقوبات “قيصر” الأمريكية في ديسمبر/كانون الأول 2019 وتهدف للضغط على الأسد للاستسلام للمطالب الدولية بتحمل مسؤوليته عن العديد من جرائم الحرب التي ارتكبها.
يحمل القانون اسم المصور السوري الذي سرب آلاف الصور للأشخاص الذين قتلتهم المخابرات السورية، وقد استنزف القانون موارد الحكومة التي لم توقف هجماتها على المدنيين في المناطق التي تسيطر عليها المعارضة.
يرى الكثير من الناس أن النظام هو الملام في هذا الوضع البائس وليس العقوبات الأمريكية، يقول مجدي نصار – في العشرينيات من عمره ويعمل في منظمة غير حكومية محلية -: “النظام هو السبب الرئيسي في الأزمة، كان هناك أزمة قبل العقوبات، كنا نقف في طوابير طويلة أما المخابز ومحطات الوقود، النظام السوري هو السبب الرئيسي في كل شيء يحدث وسوف يحدث”.
يتفق مع ذلك رشاد البستاني – سائق سيارة أجرة في السويداء ورب أسرته – فيقول: “الموقف الإنساني هو نفسه والأزمة نفسها في جميع المحافظات لأن النظام السوري لم يتغير، النظام هو المشكلة الأساسية، والسبب الرئيسي في العقوبات هو النظام أيضًا، لقد فقد شرعيته وهو مدان دوليًا لارتكابه جرائم حرب”.
“هذه العقوبات مفروضة على أفراد في النظام السوري وليس الشعب، ولا تتضمن الغذاء، لكن النظام يتصرف كأنه بريء وأن العقوبات هي السبب، إنهم يبيعون المساعدات الإنسانية للناس، الكل يعلم أن بقاء النظام يعني استمرار الأزمة واستفحالها”.
يقول رشاد إن أسرته مثل الكثير من الأسر السورية تعتمد على المساعدات والأقارب الذين يعيشون خارج البلاد لتحويل الأموال من أجل البقاء على قيد الحياة، لحسن حظه، لم يرفع مالك البيت إيجاره رغم أن المتوسط الشهري لإيجار منازل مثل منزله ارتفع بكثير.
“لم أتمكن من شراء منزل من قبل وحتى لو كان لدى لكنت بعته الآن حتى تعيش ابنتي حياة أفضل، الدخل اليومي الآن لا يكفي لشراء خبز، لم يعد بإمكاني توفير الطعام والملابس لطفلتي”، يخشى رشاد تسرب ابنته من التعليم وهو أمر شائع بين الشباب السوري.
تتسبب عدم قدرة رشاد على تلبية احتياجات طفلته الأساسية حزنًا دائمًا، يقول: “إنني أعمل سائقًا ولا يوجد وقود فكيف أعمل؟” لكنه أضاف أنه ممتن لأنه مسؤول عن زوجة وطفلة فقط.
يشعر رشاد بحيرة شديدة إزاء كيفية معالجة الموقف، فيقول: “لا أعلم ماذا أفعل فأنا مجرد مواطن ولا أملك الحل، فحتى بالنسبة لابنتي لا أعتقد أن لها مستقبل، الحل بالنسبة لي هو الخروج من تلك البلاد”.
المصدر: ميدل إيست آي