أطلق صافرته البخارية معلنًا انطلاق رحلته من دمشق إلى المدينة المنورة واستعداد قاطراته لاحتضان الأحاديث العربية الدافئة التي تقتسم الهموم والآمال بمستقبل واعد، فطريق الحج أصبحت يسيرة وآمنة بفضل قطار الحجاز واجتماع الأمة على كلمة سواء لا ينقصه إلا بعض الترتيبات.
دون إنذار، نُسفت السكة الحديدية وخرج القطار عن المسار واحترقت القاطرات، فدفن الحديث العربي الدافئ في لهيب الصحراء، وسط هذا المشهد الدراماتيكي، وقف لورانس العرب الذي فجر الديناميت من وراء الكثبان الرملية، بعينيه اللامعتين مهنئًا بعض العرب بنسف قطارهم، فهللوا فرحين باقتراب تحقق وعد التمكين.
أطلال قطار الحجاز وقضبانه القديمة بقيت شاهدة على أعظم مشروع أقامه المسلمون في القرن العشرين، فالمباني والقلاع وعربات القطار الصدئة المتناثرة على طول سكة حديد الحجاز ما زالت تروي للزائرين قصة الأحاديث العربية الدافئة التي لم تكتمل فصولها وغدر إخوانهم العرب.
قطار الحجاز
كان المسلمون قبل عام 1900 يسافرون لأسابيع طويلة إن لم يكن شهورًا على ظهور الجمال في قوافل، فالمسافة الممتدة بين دمشق والمدينة المنورة وحدها تستغرق 40 يومًا، وكان الكثير من الحجاج يلقون حتفهم في الطريق عبر الصحاري الجافة والجبال الجرداء أو بتعرضهم للسرقة والاعتداءات من العصابات.
فكرة السكك الحديدية التي اختمرت في ذهن السلطان العثماني عبد الحميد الثاني جاءت لتقصر المسافة من 40 يومًا إلى 5 أيام فقط، وكانت ترمي بعد اكتمال الخط الممتد بين دمشق والمدينة المنورة، إلى مد الخط شمالًا للعاصمة العثمانية القسطنطينية وجنوبًا إلى مكة المكرمة.
تعود بداية العمل في مشروع سكة حديد الحجاز إلى شهر سبتمبر/أيلول 1900 واستغرق زهاء سبع سنوات، وتبدأ من محطة دمشق وتمر بعدد من المحطات أهمها الديرة وعمان وجزا وعطرانة والقطرانة ومعان وغدير الحج وبطن الغول ومدوارة وتبوك ومدائن صالح، لتنتهي بمحطة المدينة المنورة، ووصل أول قطار إلى المدينة في 23 من أغسطس/آب 1908 حيث أقيم الاحتفال الرسمي لافتتاح الخط الحديدي وإنارة الحرم النبوي الشريف لأول مرة.
كما تضمن المشروع تنفيذ 2666 جسرًا ومنفذًا مائيًا و7 جسور حديدية و96 محطةً و7 أحواض و37 خزان ماء ومستشفيين و3 ورش، وخطوط برقية، وتُقدر المدن والمراكز السكنية الواقعة على مسار خط الحجاز بنحو 50 مدينة ومركز، وذلك بكلفة إجمالية بلغت 3.5 مليون ليرة.
حلم عبد الحميد
بعد اعتلاء السلطان عبد الحميد الثاني سدة الحكم في الدولة العثمانية التي كانت تعاني في ذلك الوقت من تراجع نفوذها وترهل سلطتها بعد أن دب فيها الضعف، راهن البريطانيون على سقوط الباب العالي، إلا أن رهان الغرب سقط وخابت ظنونهم بعد أن استمر حكم عبد الحميد لـ30 عامًا عرفت فيه الدولة العثمانية نهضة على مستوى التعليم والصحة والمواصلات وكذلك على صعيد مقاومتها لأعدائها في الداخل والخارج.
ويحسب للسلطان عبد الحميد الثاني رفضه بيع فلسطين لليهود وسعيه لإقامة الجامعة الإسلامية كمشروع وحدوي للأمة وكذلك تنفيذه لسكة حديد الحجاز التي راهن الداخل والخارج على استحالة إقامتها في ظل التدهور الاقتصادي وخلو الخزانة من الأموال اللازمة.
عبد الحميد لم يثنه المثبطون والأعداء المتربصون الساعون لإسقاط الدولة العثمانية، وضخامة التكلفة المخصصة للمشروع وصعوبة حمايته، من المضي قدمًا في تنفيذ حلمه القديم متسلحًا بحماسه لخدمة حجاج بيت الله الحرام بتوفير وسيلة سفر عصرية وسهلة يتوافر فيها الأمن وتقوية الصلات بين البلدان الإسلامية المختلفة إضافة إلى الأهداف الاقتصادية والإستراتيجية والحضارية.
حرص السلطان العثماني على تجنب القروض الأوروبية خوفًا من الارتهان للغرب، فأقام مشروعًا برأس مال إسلامي صرف بفتحه باب التبرع أمام مسلمي العالم الذين تداعوا لتلبية النداء، فكان أولهم بدفع 320 ألف ليرة من ماله الخاص وتبرع شاه إيران بخمسين ألفًا وأرسل خديوي مصر عباس حلمي الثاني كميات كبيرة من مواد البناء، وتألفت في سائر الأقطار الإسلامية لجان لجمع التبرعات وأصدر الباب العالي طوابع دمغات لمصلحة المشروع وأوامر بقطع 10% من رواتب موظفي الدولة، كما جمعت جلود الأضاحي وبيعت وحولت أثمانها إلى ميزانية.
وليكون المشروع “الخيالي” إسلاميًا خالصًا، عول عبد الحميد في تشييد الخط على الأيادي العربية والإسلامية وخاصة الجنود مع الاستعانة بخبرات إيطالية وألمانية (المهندس هاينريش مايسنر) في بادئ الأمر من أجل تدريب المهندسين المسلمين المتخرجين حديثًا.
الأهمية والدوافع
تكمن أهمية قطار الحجاز في كونه مشروعًا إسلاميًا تمويلًا وتنفيذًا تعود ملكيته للأمة قاطبة، وفي كونه مشروعًا رائدًا وخارقًا للمألوف في مجال المواصلات في ذلك العصر جمع بين وسيلتين حديثتين وهي القطار والتلغراف، ما سهل على المسلمين التواصل والانفتاح.
أما دوافعه فتتشابك بين ما هو ديني وسياسي وعسكري، فإنشاء المشروع كان نتاج الضرورة المعنوية الروحية (تسهيل وصول الحجاج) التي لا تقل أهمية عن الفوائد العملية والسياسية والإستراتيجية، المتمثلة في محاولة وقوف الدولة العثمانية في وجه القوى الاستعمارية الغربية التي بدأت في قضم الأراضي التابعة للباب العالي، فقد استولى الفرنسيون على تونس، واجتاح البريطانيون مصر ورومانيا وصربيا فيما أعلنت جمهورية الجبل الأسود استقلالها.
فبالإضافة إلى ربط الشعوب الخاضعة للإمبراطورية العثمانية، سعى عبد الحميد عبر خطوة توحيد المسلمين إلى شد بنيان الدولة العليا، فما مشروع قطار الحجاز إلا حلقة في مشروع أكبر وهو الجامعة الإسلامية الذي يهدف بها إلى الحفاظ على الوحدة الطبيعية لتلك الولايات من أجل الصمود أمام التحديات الخارجية واستعادة المكانة في خريطة التوازن العالمي الجديد.
من الدوافع الأخرى لتشييد سكة حديد الحجاز، تعزيز ثقة العالم الإسلامي بالسلطنة العثمانية والدفاع عنها في أي جبهة تتعرض للاعتداء، فيساعد هذا الخط الحديدي على سرعة نقل القوات العثمانية إلى الجبهات وتوزيعها، وتعزيز سلطة الدولة في غرب الحجاز وإخضاع حكامها بصفة تامة ودفعهم للامتثال للقوانين العسكرية العثمانية التي تقضي بالدفاع المشترك عن دولة الخلافة.
أما الفوائد الاقتصادية، فتتركز أساسًا على تقليل حاجة الدولة العثمانية لاستخدام قناة السويس وخفض تكاليف الحج ماديًا وبشريًا وتسهيل حمل الصرة السلطانية إلى الأراضي المقدسة وزيادة أعداد الحجاج وتطوير الأنشطة التجارية وتبادل البضائع وتوسيع المجال الحضري ذي الحيوية الاقتصادية.
تدمير المشروع
عندما تراجعت القوات العثمانية أمام الحملات البريطانية كان الخط الحجازي عاملًا مهمًا في ثبات العثمانيين في جنوبي فلسطين نحو عامين في وجه القوات البريطانية المتفوقة، وعندما نشبت ما سُميت بالثورة العربية بقيادة الشريف حسين واستولت على معظم مدن الحجاز لم تستطع هذه القوات الثائرة السيطرة على المدينة بسبب اتصالها بخط السكة الحديدية ووصول الإمدادات إليها واستطاعت حامية المدينة العثمانية أن تستمر في المقاومة بعد انتهاء الحرب العالمية بشهرين.
أمام صلابة القوات العثمانية والدور المحوري لسكة الحديد، لجأ الشريف حسين لتنفيذ مشورة ضابط الاستخبارات البريطاني المعروف بلقب لورانس العرب إلى تخريب الخط ونسف جسوره وانتزاع قضبانه في عدة أجزاء منه وبذلك انتهت قصة سكة حديد الحجاز.
للتاريخ، سعت بريطانيا منذ إعلان عبد الحميد عن مشروع مد السكة الحديدية إلى أرض الحجاز لتدمير المشروع سواء عن طريق الحملات التي شنتها عليه في الصحف الغربية لبث الإشاعات وتثبيطه أم بتأليبها لبدو الحجاز عن طريق عميلها “لورنس” على الدولة العثمانية وكان على رأسهم الشريف حسين، من خلال وعود تسليم الحكم حال الإجهاز على الدولة.
بعد أن وضعت الحرب أوزارها، تقاسم البريطانيون والفرنسيون إرث الدولة العثمانية في بلاد الشام، فلم يول الغزاة الحفاظ على السكك الحديدية وتوحد المسلمين أي أولوية، ولم يتسلم بدو الحجاز المُلك، فلورانس المعمم لم يكن في جعبته غير أصابع الديناميت وبعض الوهم.
كان هدف بريطانيا المعلن منع نقل الجنود العثمانيين إلى الأراضي الحجازية عبر الخط إبان الحرب العالمية الأولى ثم تعطيله بالكلية، لكن السبب الحقيقي كان قطع الحبل السري الرابط بين الخلافة العثمانية والدول العربية والإسلامية من أجل التمهيد لتوطين اليهود، وهو ما تأكد في اتفاقية التقسيم “سايكس بيكو” المشؤومة.