ترجمة وتحرير نون بوست
في الشهر الماضي، عندما دمرت المدفعية الإسرائيلية المباني في غزة، وهي واحدة من جزئين من الأراضي التي حُوصر فيها الفلسطينيون خلال القرن الماضي، كانت الحكومة البريطانية تؤكد مرة أخرى على كرم ماضيها الإمبراطوري ضد أولئك الذين يطالبون بتقدير أضرارها. وقد انتشر وسم #الإمبراطورية البريطانية على تويتر حتى في ظل احتراق غزة.
هذه الظواهر مرتبطة ببعضها البعض: حيث أن التلميع المستمر لتاريخ الإمبراطورية البريطانية يضمن عدم تردد صدى إدانات أفعال “إسرائيل” باعتبارها “استعمارا استيطانيا” أخلاقيا في كثير من الأوساط. وبعيدا عن تشويه أصول “إسرائيل”، تعتبر السوابق البريطانية للبلاد بمثابة إثبات.
إن وعد بلفور، الذي أعلنت عنه الحكومة البريطانية وقدمت فيه دعمها “لإنشاء وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين” في سنة 1917، يعدّ بمثابة أسطورة تفيد بوضع الأساس لدولة يهودية في الشرق الأوسط وبالتالي إضفاء الشرعية الدولية لإنشاء دولة “اسرائيل”. وقد يساعد الوعي بالأصول المشكوك فيها أخلاقيا ومعنى هذا الإعلان في فضح الأساطير المتشابكة حول الإحسان الإمبريالي البريطاني والتواجد الإسرائيلي المسالم في فلسطين.
كان وعد بلفور من “الوعود” الاستراتيجية التي قدمها البريطانيون خلال الحرب العالمية الأولى فيما يتعلق بأراضي الإمبراطورية العثمانية، حيث قام البريطانيون بتقسيمها باسم حماية الطريق إلى الهند والخليج الغني بالنفط. ومن أجل كسب ولاء السكان العرب في المنطقة، وعد الحكام الشريفين في الحجاز، في شبه الجزيرة العربية، بمملكة مستقلة تمتد عبر فلسطين إلى دمشق.
في الوقت نفسه، في مفاوضات سرية مع الفرنسيين والروس لتقسيم المنطقة، وعدوا بجعل فلسطين أرضا دولية. وعندما انسحبت روسيا من الحرب في شهر تشرين الأول/ أكتوبر سنة 1917، شعر البريطانيون بضرورة ملحة لتأمين الموقف البريطاني في الشرق الأوسط من خلال إعلان وعد جديد، وهذه المرة لصالح الحركة الصهيونية. وهكذا أصبحت فلسطين أرض الميعاد للمرة الثالثة – وهو سبب كاف للشك في قدسية أي من الوعود.
انبثقت الفكرة التي تفيد بأن الوعد للصهاينة سيؤمن لهم الشرق الأوسط، جزئيا من افتراض بلفور المعادي للسامية
صاغ وزير الخارجية البريطاني الوعد الجديد رسميا، بقيادة المحافظ آرثر جيمس بلفور. وكان بلفور، المعروف باسم “بلفور الدامي”، بسبب قمعه للمطالب الأيرلندية بمزيد من الاستقلال باعتباره رئيس وزراء إيرلندا، إمبرياليا. كما كان فيلسوفا هاويا مثيرا للشكوك ومهووسا بأمور السحر ومفهوم القوة الغامضة لبعض الجماعات.
انبثقت الفكرة التي تفيد بأن الوعد للصهاينة سيؤمن لهم الشرق الأوسط، جزئيا من افتراض بلفور المعادي للسامية، والذي شارك فيه سياسيون بريطانيون مؤثرون آخرون، حول حقيقة أن اليهود يسيطرون على الرأي العام والموارد المالية العالمية. واعتقد بلفور أن تصريحه الدعائي من شأنه أن يحشد الرأي اليهودي الأمريكي والألماني لقضية الحلفاء، بينما يُنهي أيضا تدفق يهود أوروبا الشرقية غير المرغوب فيهم إلى بريطانيا.
في الواقع، يتماشى الإعلان مع نوع الاستعمار الاستيطاني البريطاني الذي شكل تاريخ نزع الملكية العنيف في كينيا والمستعمرات الأخرى. وكان اعتقاد البريطانيين أن فلسطين شيء يمكن أن يعدوا به أي مجموعة دون استشارة سكانها، افتراضا إمبراطوريا نموذجيا. كما تجلى الاختلاف هنا في حقيقة أن المستوطنين اليهود سيتولون “مهمة بناء الحضارة” بدلا من المستوطنين البريطانيين – ويكون وجودهم مواليا بالقرب من قناة السويس.
بالتالي، فإن الإعلان يشير ضمنا إلى أن اليهود متفوقون عرقيا وثقافيا على السكان الأصليين في فلسطين، حتى وإن كان ذلك يعني أن اليهود لا ينتمون بشكل صحيح إلى أوروبا ويمتلكون صلاحيات تآمرية.
لم يدعم الجميع في الحكومة البريطانية هذه الآراء. وكان وزير الدولة لشؤون الهند، إدوين مونتاغو، يهوديا واعتبر الإعلان معاديا للسامية بشكل كبير. وقال إنه “يخشى أن يعامل اليهود فيما بعد كأجانب في كل بلد باستثناء فلسطين”. وأصر على أن أفراد عائلته ليس لديهم “وجهة نظر مجتمعية” ضرورية مع عائلات يهودية في أماكن أخرى، وأوضح أنه “ليس من الصحيح أن نقول إن الإنجليزي المسيحي والفرنسي المسيحي ينتميان إلى نفس الأمة”.
غيّر البريطانيون سياستهم خلال عامي 1937 و1939 بالتناوب لصالح اليهود والعرب
خشي مونتاغو من أن الإعلان قد يعني ضرورة “تفضيل اليهود في تقلّد جميع المناصب المهمة” في فلسطين، وأن المسلمين والمسيحيين سيُجبرون على “إفساح الطريق لليهود”. كما توقع أنه “عندما يُقال لليهود أن فلسطين هي وطنهم القومي، سترغب كل دولة على الفور في التخلص من مواطنيها اليهود، وبالتالي، سيطرد السكان الجدد في فلسطين سكانها الأصليين”.
كان مونتاغو حينها يصوغ إعلان مونتاغو، واعدا الهنود بتوسيع نطاق حكمهم الذاتي من أجل ضمان ولائهم في زمن الحرب. وقد رفض المحافظون، وخاصة بلفور، هذا التنازل لمناهضة الاستعمار، بتعلّة أن الهنود غير قادرين على ممارسة مثل هذا الحكم الذاتي. وكان هذا شكلا من أشكال إمبريالية بلفور.
بعد الحرب، أخلف البريطانيون بجميع وعود الحرب الخاصة بالشرق الأوسط: لقد خانوا الإجراءات المتخذة مع الفرنسيين أولا بالسماح للأمير الشريفي فيصل بتشكيل حكومة في دمشق، ولكنهم بعد ذلك تركوا الفرنسيين يطردون فيصل، مقابل منحهم سيطرة على الموصل الغنية بالنفط. وبدلا من ذلك، تُوج فيصل ملكا على العراق تحت الحكم البريطاني، على الرغم من وعود الاستقلال التي تلقّاها العراق في زمن الحرب.
سيطرت بريطانيا بشكل مباشر على فلسطين (التي لا تملك أرض دولية) مؤكدة أن وعد بلفور الغامض بشأن بناء وطن قومي لا يتعلّق بالسيطرة السياسية اليهودية. في عام 1921، أخرجت بريطانيا الأردن أيضا من فلسطين دون أن تشعر بأنها تنتهك مفهوم الوطن القومي اليهودي. تراجعت ورقة باسفيلد البيضاء لعام 1930 عن الدفاع عن فكرة الوطن القومي اليهودي، لكن صرخة صهيونية أجبرت الحكومة البريطانية على سحب الورقة.
مع صعود هتلر إلى السلطة، وصل مئات الآلاف يهود أوروبا اليائسين إلى فلسطين بعد أن أغلقت أمامهم الأبواب في بريطانيا والولايات المتحدة. وفي عام 1936، ثار الفلسطينيون الذين أصبحوا بلا أرض ويعانون من الفقر على نحو متزايد. اعتمد البريطانيون أساليب مكافحة التمرد الوحشية والمروعة والمدمرة التي تم تطويرها في إيرلندا والعراق، والتي أصبحت معتمدة ضمن ممارسات الجيش الإسرائيلي في وقت لاحق.
غيّر البريطانيون سياستهم خلال عامي 1937 و1939 بالتناوب لصالح اليهود والعرب. في سياق تقديم المشورة لسياسة فلسطين، أعلن ونستون تشرشل عن دفاعه بشكل عام عن الاستعمار الاستيطاني الذي يهدف إلى تحسين النسل في عام 1937، حيث قال: “أنا لا أعترف … أن خطأ فادحا قد ارتُكب بحق الأمريكيين الأصليين في الولايات المتحدة، أو السود في أستراليا … وحقيقة أن عرقا أقوى وأسمى … قد جاء وحل مكانهم.” لقد كان تشرشل يعتقد أن الاستيطان اليهودي في فلسطين مشابه لهذه الحالات السابقة، بما في ذلك ما تنطوي عليه من إبادة جماعية.
لم تكن الوعود البريطانية في زمن الحرب مبنية على مبدأ محدّد، بل كانت غايتها تحقيق المنفعة
في هذا الوقت، كان هتلر ينظر أيضا إلى الإبادة الجماعية للأمريكيين الأصليين كنموذج لمفهومه عن المجال الحيوي وشرع في تطبيق المنطق العنيف للاستعمار الاستيطاني في أوروبا نفسها. أعجب تشرشل بهتلر، حيث خصّص فصلا يتحدّث فيه عنه في كتابه الصادر عام 1937 عن المعاصرين العظماء. على الرغم من أن البريطانيين يحتفلون اليوم بهزيمة تشرشل للنازية، إلا أنهم ما زالوا لا يدينون بوضوح الأيديولوجية الاستيطانية الاستعمارية التي تأسست عليها النازية.
بدلا من ذلك، يبذل المدافعون عن الإمبريالية البريطانية طاقاتهم للدفاع عن سيسيل رودس، وهو مروج آخر للاستعمار الاستيطاني، حتى بعد أن أوصت لجنة دقيقة بإزالة تمثاله في كلية أوريل في أكسفورد. قال رودس: “نحن أفضل عرق في العالم … وكلما زاد عددنا في العالم كلما كان ذلك أفضل للجنس البشري.”
قتلت شركته الخاصة عشرات الآلاف من قبيلة ماتابيلي خلال تأسيس مستعمرة روديسيا الاستيطانية. وبما أنه رئيس الوزراء في مستعمرة الكيب، أسس رودس أيضا نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، الذي غالبا ما يُقارنه البعض بالنظام الإسرائيلي الحالي، والذي حرم غير البيض من التصويت والمطالبة بأرضهم، حتى أن معاصريه البريطانيين قد غضبوا من أفعاله.
في الآونة الأخيرة، ادعى السناتور الأمريكي السابق ريك سانتورم على شبكة “سي آن آن” أن المستوطنين قد بنوا الولايات المتحدة “من لا شيء، … وأنه لم يكن هناك أي شيء”. وأدى ذلك إلى محو وجود ثقافات الأمريكيين الأصليين وحياتهم، إلى جانب محو ذكرى عنف المستوطنين الهائل المسلّط ضدهم. وعلى إثر ما حدث، تخلّت “سي آن آن” عن سانتروم، استجابة لضغوط شديدة من الجمهور ومن بينهم جمعية الصحفيين الأمريكيين الأصليين.
ومع ذلك، تواصل الوسائل الإخبارية البريطانية الكبرى مثل ذي تايمز تخصيص مساحة سخية للمدافعين عن الاستعمار الاستيطاني. وفي الشهر الماضي، أعربت صحيفة الغارديان عن أسفها رسميا لدعمها لإعلان وعد بلفور عام 1917، عندما كتب محررها: “السكان العرب الحاليون في فلسطين … في مرحلة حضارية متدنية”. لقد حان الوقت لإدانة واضحة وأوسع لهذا الوعد الكاذب وللأيديولوجية الاستيطانية الاستعمارية التي يقوم عليها.
دعم الولايات المتحدة للتوغل الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية هو بمثابة دعم دولة استعمارية بريطانية الأصل لدولة أخرى
لم تكن الوعود البريطانية في زمن الحرب مبنية على مبدأ محدّد، بل كانت غايتها تحقيق المنفعة وكانت ترتكز على مفاهيم عنصرية، التي بالكاد تمثّل أرضية للمقدسات. علاوة على ذلك، تضمن الإعلان لغة نفي ذاتية تؤكد أنه “لن يُرتَكَبَ أي فعل من شأنه المساس بالحقوق المدنية والدينية للمجتمعات غير اليهودية الموجودة في فلسطين”.
كانت نزعة المحافظة لبلفور تدور حول تجنب التغيير الجذري، فقد صيغ الوعد بشكل غامض بحيث يمكن الإخلاف به، مثل وعود الحرب للشريفيين. لا ترتبط أصول الوعد بالنفعية والافتراض الاستعماري ومعاداة السامية بشكل كاف لمنحها صفة الشرعية، ناهيك عن صفة القداسة، التي تتمتع بها في بعض الأوساط اليوم.
أطلق البريطانيون الاستعمار الاستيطاني في فلسطين دون مبالاة وبشكل متهور كما فعلوا في أستراليا ونيوزيلندا وكينيا وروديسيا. لا يمثّل العنف الإسرائيلي في غزة مجرد دفاع عن النفس ولكنه جزء من قصة أطول عن الاستعمار الاستيطاني يعود تاريخه إلى ذروة الاستعمار الأوروبي. وعلى عكس الأساطير البريطانية، يمثّل الاستعمار الاستيطاني عملية تطهير عرقي عدوانية تقوم على العنصرية.
دعم الولايات المتحدة للتوغل الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية هو بمثابة دعم دولة استعمارية بريطانية الأصل لدولة أخرى. وليس من قبيل المصادفة أن هذا الدعم قد تعزز بشكل خاص خلال إدارة ترامب، التي كانت أيضا تتفاخر بتفوق البيض في أمريكا الشمالية. لذلك من الضروري التمحص في التاريخ الاستعماري من أجل استيعاب الاستعمار.
المصدر: الجزيرة