تتواصل الاحتجاجات في أحياء تونسية عديدة خاصة في العاصمة تنديدًا بالقمع الأمني ورفضًا لحادثة سحل القوات الأمنية لشاب في الشارع، احتجاجات شبابية يسعى المشاركون فيها لتأكيد رفضهم تواصل القمع الأمني في بلادهم، فكيف يمكن استثمار حادثة “سيدي حسين” لإصلاح الأمن التونسي؟
حادثة سيدي حسين
تداول نشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي في تونس، الأربعاء من يونيو/حزيران، مقطع فيديو قصير يرصد توقيف أفراد شرطة لقاصر (15 عامًا) وتجريده من كل ملابسه قبل أن ينهالوا عليه ضربًا على الملأ في الشارع ثم وضعه في إحدى سيارات الشرطة، يُظهر الفيديو بوضوح اعتداء الشرطيين على الشاب العاري بالضرب، ما أثار حالة غضب وغليان في صفوف التونسيين، تجلت على مواقع التواصل الاجتماعي.
تضاعف هذا الغضب، خاصة أن حادثة السحل حصلت عقب دفن جثمان شاب يدعى أحمد بن عمارة – أصيل منطقة “سيدي حسين” غرب العاصمة تونس – توفي إثر توقيفه من أفراد شرطة، وتلقت عائلته خبر وصول جثته إلى أحد المستشفيات، وتشير روايات إلى تعرضه للتعنيف من عناصر أمنية.
نفت وزارة الداخلية في البداية مسؤولية الأمن عن الحادثة واتهمت القاصر بـ”السُكْرِ وتعرية نفسه”، وقال الناطق الرسمي باسم الإدارة العامة للأمن وليد حكيمة في تصريح لإذاعة موزاييك المحلية: “الشاب كان في حالة سكر مطبق محدثًا الهرج والتشويش بالطريق العام.. وجرد نفسه كليًا من ملابسه أين تمت محاولة السيطرة عليه نظرًا للحالة الهستيرية التي كان عليها”.
صمت الداخلية عن حادثتي السحل والوفاة المسترابة للشاب أحمد بن عمار قبل أيام، ووصفها للاحتجاجات بأنها “أحداث هرج وتشويش”، زاد حدة الاحتقان في صفوف المحتجين
لم تبق الداخلية التونسية على موقفها كثيرًا، إذ أصدرت بيانًا ثانيًا، تراجعت فيه عن محتوى بيانها الأول، وأعلنت “توقيف أفراد شرطة (لم تحدد عددهم) تورطوا في الاعتداء على شاب وتجريده من ملابسه، للتحقيق المباشر في الواقعة”.
عبرت وزارة الداخلية في البيان نفسه، عن إدانتها لما حدث مع الشاب، مؤكدة أن هذه التصرفات تتعارض مع توجهاتها العامة الرامية إلى التمسك بمبادئ الأمن الجمهوري الهادف إلى إحداث التوازن بين الحفاظ على الأمن العام ومبادئ حقوق الإنسان.
كما أكدت وزارة الداخلية أنها ستواصل العمل على “الارتقاء بأداء منظوريها (موظفيها) من خلال دعم الجانب التكويني (التدريبي والمهني) بما يمكن الأعوان والإطارات من القيام بمهامهم على الوجه الأكمل.. في خدمة المواطن”.
احتجاجات متواصلة
إثر هذه الحادثة اشتعلت احتجاجات ومواجهات في “سيدي حسين”، 4 كيلومترات غرب العاصمة، عبر خلالها المحتجون عن تنديدهم بالاعتداءات الأمنية التي طالت شباب الحي المهمش، مطالبين بمحاسبة المعتدين من أمنيين ومسؤولين سياسيين.
صمت الداخلية عن حادثتي السحل والوفاة المسترابة للشاب أحمد بن عمار قبل أيام، ووصفها للاحتجاجات بأنها “أحداث هرج وتشويش”، وادعائها اعتداء “مجموعات من الشبان على الوحدات الأمنية بمنطقة سيدي حسين بالعاصمة.. وعلى الأملاك العامة والخاصة”، زادت حدة الاحتقان في صفوف المحتجين، وامتدت الاحتجاجات لمناطق شعبية أخرى من العاصمة على غرار حي التضامن وحي الانطلاق.
احتجاجات مشتعلة في تونس بعد وفاة شاب أوقفته الشرطة في مركز أمني.. وفيديو لشاب يُسحل ويضرب وهو مجرد من ملابسه يزيد الوضع اشتعالاً في حي سيدي حسين pic.twitter.com/vOtTuHtKb3
— AJ+ عربي (@ajplusarabi) June 11, 2021
هذه الاحتجاجات لم تتوقف إلى حدود ليلة البارحة، ففي كل ليلة تتجدد عمليات الكر والفر بين عدد من الشبان الغاضبين ورجال الشرطة، في الضاحية الغربية للعاصمة التونسية، وغالبًا ما تنطلق المسيرات الاحتجاجية من أمام منزل الشاب المتوفى أحمد بن عمارة باتجاه المكان الذي عُثر عليه، وهو مصاب بجروح بالغة، قبل أن يفارق الحياة بعد نقله إلى أحد مستشفيات المدينة.
يرفع المتظاهرون في كل مسيرة يتم تنظيمها شعارات تندد بعنف الأجهزة الأمنية في بلادهم، وتطالب بكشف حقيقة مقتل الشاب، ومحاسبة المعتدين بالسحل على القاصر والكف عن التغطية عليهم، حتى لا تنزلق البلاد مجددًا نحو الدولة البوليسية.
وتتضارب الروايات بشأن وفاة الشاب “أحمد بن عمارة”، إذ يقول بعض الناشطين إنه تعرض للضرب المبرح من عناصر أمنية حين رفض الصعود لسيارة الأمن ما أدى إلى وفاته، فيما قال المتحدث باسم وزارة الداخلية التونسية خالد الحيوني، في تصريحات إعلامية، إن إحدى الدوريات الشرطية، وفي أثناء قيامها بحملة تفتيش، اشتبهت في شاب لاذ بالفرار حينما شعر بالدورية، ولاحقًا تلقت الشرطة بلاغًا يفيد بوصوله متوفيًا إلى أحد المستشفيات.
إصلاح الأمن
عقب هذه الاحتجاجات، أقرت الداخلية التونسية أن ما حدث للقاصر في سيدي حسين أعمال فردية مؤكدة أنها “تتعارض مع توجهاتها الرامية إلى إحداث التوازن بين الحفاظ على الأمن العام ومبادئ حقوق الإنسان”، كما أذنت النيابة العمومية بالمحكمة الابتدائية بتونس 2 بفتح محضر بحث بشأن الفيديو لتحديد المسؤوليات والنظر إن كان هناك إفراط في استعمال القوة من الأمن.
بدوره قال رئيس الحكومة هشام المشيشي – الذي يشغل أيضًا منصب وزير الداخلية بالنيابة – إن حادثة سيدي حسين “صادمة ومؤلمة ومؤسفة للحكومة وللمؤسسة الأمنية التي تعمل على ترسيخ الأمن الجمهوري وتقديم صورة جديدة لها وتتصدى يوميًا للجرائم والعمليات الإرهابية”، مؤكدًا أن الحادثة “لا تمثل الأمنيين في شيء بل لا تُمثل إلا مرتكبيها وهي حادثة تمس الأمنيين قبل أن تمس الأطراف التي تريد تسجيل نقاط سياسية عن طريقها”.
صحيح أن عملية إصلاح القطاع الأمني بدأت منذ سنة 2011، لكن بنسق بطيء وعرفت إخفاقات كبرى
تصريحات جيدة وإجراءات معلنة بخصوص الحادثة ينتظر تنفيذها، يُفهم منها وجود إرادة لإصلاح الأمن التونسي وفق العديد من المتابعين للشأن العام في البلاد، ذلك أن إصلاح الأمن غاية وهدف رئيسي دعا له جميع التونسيين منذ الثورة وعلى رأسهم الحقوقيون من محامين عاينوا التجاوزات الأمنية قبل الثورة وبعدها من عنف وتلفيق للقضايا وتحريف للوقائع وتعذيب، وفق المحامي التونسي سلمان الصغير.
يرى الصغير في حديثه لنون بوست أن إصلاح الأمن يتطلب إجراءات عديدة خاصة القانونية، منها “إلزامية حضور المحامي رفقة الموقوف دون ترك الاختيار له عبر إجراء توجيه السؤال للموقوف حول رغبته في حضور محامي معه من عدمه كما هو معمول به حاليًّا وفق مجلة الإجراءات الجزائية”، ففي هذا الإجراء حماية للموقوف من الاعتداء عليه من بعض الأعوان وأيضًا حفظ لحقه في التمتع بمعاملة قانونية كاملة دون تجاوزات صلب محضر البحث.
يشير المحامي التونسي أيضًا إلى تفصيل مهم وهو قيام باحث البداية بإعلام النيابة العمومية بوضعية المشتبه به دون وجود محامٍ يراقب ذلك الإجراء، فقد درج توجه الشرطة العدلية إلى القيام بذلك في مكان بعيد عن المشتبه به ومحاميه وهو ما يفسح المجال نحو تقديم معطيات غير دقيقة أو مجانبة للصواب تدفع النيابة العمومية إلى اتخاذ قرار يمكن أن يكون بالإيقاف على ضوء ما وصل إليها من معلومات قدمها له الأمني دون رقابة من المحامي.
“يكمن هنا غياب النص التشريعي الذي يلزم باحث البداية بالقيام بذلك بحضور المحامي لذا وجب تنقيح مجلة الإجراءات الجزائية درءًا لأي تجاوز وضمانًا لحقوق كاملة للمشتبه به”، وفق حديث سلمان الصغير لنون بوست.
إلى جانب ذلك، يشير الصغير إلى ضرورة إعادة تأهيل الدفعات الأمنية التي تم انتدابها منذ خمس سنوات على الأقل وتحسين صورة الأمني بجميع أصنافه لدى الرأي العام الوطني وزرع ثقافة حقوق الإنسان لديهم.
يشدد محدثنا على أن “المجهود يجب أن يكون ثنائيًا بين الأمني والمواطن الذي يجب عليه أن يظهر الاحترام المطلوب لقوات الأمن الجمهوري التي تعمل على حفظ النظام وإنفاذ القانون، حتى يتم الإصلاح الفعلي للمنظومة الأمنية”.
وأشار الصغير إلى دور المجتمع المدني أيضًا في تسليط الرقابة التامة على السلطة الأمنية والتجاوزات التي يمكن أن تحصل في حق المواطنين مع العمل على نشر التوعية القانونية والحقوقية للتونسيين، حتى يكون الجميع على بينة من حقوقهم.
صحيح أن عملية إصلاح القطاع الأمني بدأت منذ سنة 2011، لكن بنسق بطيء وعرفت إخفاقات كبرى، لذلك يأمل العديد من التونسيين أن تكون حادثة سيدي حسين انطلاقة جدية في عملية إصلاح القطاع في بلادهم، حتى تقطع تونس مع القمع والانتهاكات الممارسة ضد المدنيين.