كانت العلاقات السورية الإيرانية تنسج خيوطها في أوقات عاصفة لكلا البلدين خلال سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، فالخميني الذي أصبح لاحقًا مرشد “الثورة الإسلامية الإيرانية”، خرج منتصرًا في ثورته على الشاه وبدأ بتثبيت مفاصل حكمه للبلاد، ولكنه سرعان ما استطاع أن يبسط سيطرته، ليبدأ بتصدير ثورته إلى الخارج تحت شعارات مختلفة وأدوات متعددة، وكل ذلك بقصد بسط النفوذ وكسب الولاء الإقليمي ليجعل من طهران عاصمة الحكم لأقاليم عدة.
قبل وصول الخميني للحكم بسنوات، كان حافظ الأسد قد وصل إلى كرسي الحكم في سوريا عام 1971 بعد انقلاب “الحركة التصحيحية”، وبدأ بوضع دستوره الخاص للبلاد، حيث اصطدم مع الإسلاميين الذين اعترضوا على إلغاء المادة التي تنص على أن دين الدولة وهويتها هما الإسلام، ومصدر التشريع هو الفقه الإسلامي، وحينها تفجرت احتجاجات واسعة في البلاد عام 1972 شارك فيها الإخوان المسلمون وكبار علماء سوريا، ما اضطره لتعديل مشروع الدستور رضوخًا للمطالب الشعبية.
ولأن التعديل الدستوري الذي أجراه الأسد أعاد البند الذي ينص على أن رئيس الدولة يجب أن يكون مسلمًا، اضطر حافظ الأسد إلى أن يجعل من نفسه مسلمًا أمام الشعب والحراك الإسلامي، وللملاحظة هنا فإن الطائفة العلوية لم تكن تعتبر طائفة مسلمة عند السنّة ولا حتى الشيعة، وهنا أوكل حافظ الأسد إلى صديقه موسى الصدر رئيس المجلس الشيعي الأعلى في لبنان آنذاك، بإصدار فتوى تنص على أن العلويين من المسلمين الشيعة، ومع إصدار هذه الفتوى أزال الأسد العقبة الأخيرة التي كانت تعترض سلطته في البلاد.
في هذا السياق يقول الدكتور عبد الرحمن الحاج في كتابه “البعث الشيعي في سورية”، صفحة 49: “مهما كانت قوة أو ضعف أثر هذه الفتوى على الشارع السوري، إلا أن مصطلح شيعي برز لأول مرة في المجال السياسي السوري وطرق أسماع السوريين بهذه الفتوى”.
لمَ نتحدث عن موسى الصدر في صدد العلاقة الإيرانية السورية؟
عدا عن الفتوى التي جعلت من الأسد مسلمًا، كان الصدر صلة الوصل بين الخميني وحافظ الأسد عام 1978، وكان الصدر حينها قد عرض على الخميني النزول في سوريا، لكن الأخير فضّل الاستقرار قرب العاصمة الفرنسية باريس، وهذا كله قبل انتصار “الثورة الإسلامية” وعودة الخميني ليستلم حكم البلاد. هذه التطورات كانت في الوقت الذي يواجه فيه حافظ الأسد معارضة سنّية مسلحة، وفقًا لما جاء في كتاب “البعث الشيعي”.
العلاقات السورية الإيرانية ما قبل عام 1979
كانت الفكرة القومية تحكم العديد من الأنظمة العربية في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، لذلك وُجدت حالة من التصادم مع فكرة القومية الفارسية التي كانت إمبراطورية الشاه محمد رضا بهلوي تتخذها نهجًا وسياسةً، وعلى الرغم من التصادم بين أقطاب القومية العربية والمشروع القومي الشاهنشاهي الفارسي، إلا أن حافظ الأسد فتح نافذة جديدة للعلاقات مع هذه الدولة.
الجدير بالذكر هنا أن حزب البعث العربي الاشتراكي، الذي ينتمي إليه حافظ الأسد، كان خليطًا من أفكار القومية العربية والوحدة والحرية والاشتراكية، وكان يهدف إلى التحرر من السيطرة والتدخل غير العربي في شؤون الأمة العربية.
في سبعينيات القرن الماضي، كان الصراع بين فرعَي البعث في العراق وسوريا محتدمًا، وهو الأمر الذي دفع حافظ الأسد إلى فتح باب العلاقات الإيرانية السورية على مصراعيه، وذلك من أجل تطويق صدام حسين من عدة جهات، ومع تطور العلاقات السياسية وقّعت سوريا وإيران اتفاقيات اقتصادية لتعزيز التعاون عام 1974، لحقها زيارة للأسد إلى طهران ليلتقي بالشاه الإيراني عام 1975.
وللعلم، بدأت العلاقات الدبلوماسية بين البلدين بعد استقلال سوريا من الاستعمار الفرنسي عام 1946، حيث أنشأت إيران قنصلية لها في دمشق.
بعد الثورة الخمينية
لم تكن العلاقات بين الخميني والأسد قبل الثورة الخمينية على حال جيدة، وهنا لا نتحدث عن العلاقات الشخصية إنما عن الأفكار والتوجهات الحزبية والسياسية، فقد كان مرشد الثورة الإيرانية دائم التهجم على حزب البعث وأفكاره وتوجهاته، في الوقت الذي كان حافظ الأسد ذو توجه علماني يخاف من أي تحرك ذي صبغة دينية سياسية.
ووفقًا لما جاء في كتاب “البعث الشيعي” للدكتور الحاج، فإن الأسد “كان يشعر بالخوف من المعارضة الإسلامية السنّية المتعاظمة في الداخل، وكان يراقب بانتباه انقضاض الإسلاميين الشيعة على الشاه بقيادة الخميني، لكنه على الرغم من أن دروس المعارضة الداخلية جعلته حذرًا من النوم تحت سقف واحد مع الإسلاميين، إلا أنه مع ذلك أقام علاقات استثنائية مع الخميني، فما إن انتصرت الثورة الإيرانية حتى أوفد وزير خارجيته السنّي عبد الحليم خدام مهنئًا”.
من جهته، كان الخميني يرى أن حزب البعث “كافر”، حيث قال في أحد خطاباته: “إنكم ترون ماهية حزب البعث الكافر هذا، فإذا أعطيتم الفرصة لهذا الحزب الكافر فسوف لن يمضي وقت طويل إلا ويدمر أضرحة الأئمة والمشايخ من الشيعة والسنّة، إن عدو هؤلاء الحقيقي هو الإسلام والقرآن، وإن هؤلاء يعتبرون الإسلام منافيًا منافحًا ومخالفًا لأهوائهم الشخصية”.
لكن مهما كانت الخصومة كبيرة، فإن المكاسب من تحالف الأسد والخميني ستكون كبيرة فيما بعد، حيث ستكون سوريا “قلب العروبة” مقرًّا إيرانيًّا، مقابل وقوف طهران المستمر بوجه أعداء الأسد الأب ولاحقًا الابن، ومن هؤلاء الأعداء أولًا صدام حسين، وبعد ذلك “إسرائيل” والقوى اللبنانية المناهضة للأسد وغير ذلك.
وفي سياق العلاقة السورية الإيرانية، وتأثير لبنان والأطراف المتواجدة فيه عليها، فإن إيران كانت تولي هذا البلد اهتمامًا كبيرًا، خاصة بعد الثورة.
ففي دراسة لمحجوب الزويري، نُشرت في “الجزيرة”، قال فيها: “إيران كانت تنظر بعين الأهمية إلى لبنان حتى في ظل نظام الشاه، ولكن الفرق بعد تأسيس الجمهورية الإسلامية أن البعد المذهبي قد بدا واضحًا أكثر من ذي قبل، كما أن شكل تكوين العلاقة يحتاج إلى مساعدة من نوع خاص يتجاوز العلاقات الدبلوماسية إلى علاقات تؤسس لدور ومكانة لطهران في المنطقة، خاصة وأن سوريا كانت مفوضة من الدول النافذة بأن تلعب دورًا في إنهاء الحرب الأهلية اللبنانية؛ مما جعل منها هدفًا أكثر إغراء لإيران”.
بعد انتصار الثورة في إيران، اتهمَ نظامُ صدام حسين النظام السوري بتدبير محاولة انقلاب في العراق، وهو الأمر الذي أوصل العلاقات بين البلدين إلى الهاوية، وهنا فقدت سوريا علاقاتها مع العراق ومصر التي كانت أقامت علاقات مع الاحتلال الإسرائيلي، وحثّت الأحداث حافظ الأسد لمسارعة الخطى نحو إيران، وبدا ذلك جليًّا وواضحًا مع بداية الحرب العراقية الإيرانية حيث أيد الأسد الجانب الإيراني بشكل مطلق ضاربًا بالشعارات القومية والعروبية عرض الحائط.
حافظ الأسد القومي الذي خان قوميته
خلال الحرب الإيرانية العراقية، قام نظام حافظ الأسد بإسداء خدمة لطهران، وهي إغلاق أنبوب النفط العراقي كركوك-بانياس، مقابل ذلك تسلم الأسد نفطًا إيرانيًّا بأسعار أرخص من تلك التي كان يدفعها لبغداد.
بالإضافة إلى ذلك، توجهت الدول الخليجية إلى دمشق للاتصال مع إيران عبرها، لأن انتصار العراق كان سيجعل منه القوة الأولى خليجيًّا، لتصبح دمشق قناة الحوار بين إيران والخليج مستفيدة من ذلك بالمساعدات الاقتصادية وغيرها.
مع بداية تشكيل “حزب الله” والانشقاق عن حركة أمل، حليف النظام السوري في لبنان، توترت العلاقة بين دمشق وطهران، ذلك لأن الشأن اللبناني بدأ بالانحياز للهيمنة الإيرانية، ومع اهتزاز العلاقة بين البلدين أوقفت إيران شحن نفطها إلى سوريا، بسبب ما قالت طهران إنه ديون مستحقة على دمشق. ولكن سرعان ما عادت طهران لتسوية العلاقة مع سوريا بعد مبادرة سعودية، لإعادة العلاقة بين الأردن حليف صدام حسين وسوريا.
الريبة من “حزب الله”
على الرغم من متانة العلاقات الإيرانية السورية، إلا أن لبنان و”حزب الله” بالذات كانا حجر عثرة في التنافس الإيراني السوري على النفوذ في البلد الصغير، هنا يقول الدكتور عبد الرحمن الحاج في كتابه: “كان حافظ الأسد حتى التسعينيات لا يسمح لأي أعضاء من حزب الله وقياداته من دخول سوريا، إذ كان يعرف جيدًا أنهم خمينيون يؤمنون بتصدير ثورة إمامهم في طهران، فضلًا عن أن أساليبهم تمحو خط التمييز الفاصل بين نضال العرب المشروع من أجل التحرر الوطني وبين الإرهاب، وإن كان يريد الاستفادة من كل ذرة من التصلب الشيعي في مواجهة “إسرائيل” في جنوب لبنان”.
بعد وفاة الخميني واستلام علي الخامنئي، وقرب التوصل لاتفاق ينهي الحرب الأهلية اللبنانية، سارع الإيرانيون للاتفاق مع الأسد على أن يضعوا “حزب الله” في إطار السياستين السورية الإيرانية معًا في لبنان، ونتيجة لذلك تم الاتفاق على حصر حركة أمل في العمل السياسي وإطلاق الذراع العسكرية لـ”حزب الله”، وهنا أدرك الأسد أن تواجده الكبير في لبنان سيمنحه فرصة لتحويل “حزب الله” إلى أداة سياسية، بحيث يؤمّن الخاصرة الرخوة لسوريا هناك، وفقًا لـ عبد الرحمن الحاج.
هذا التقارب الأخير بين الحزب وحافظ الأسد، جعل أبواب سوريا مفتوحة أمام التنظيم الشيعي بعد أن كانت موصدة، فترددت الوفود وبدأت القيود تنخفض على النشاط التبشيري، حيث أصبح رجل الدين الشيعي محمد حسين فضل الله، الأب الروحي لـ”حزب الله”، يعطي دروسه في “مقام السيدة زينب” قرب دمشق.
زيارات مكوكية
مع مرور السنوات أصبحت العلاقة الإيرانية مع سوريا أكثر اتساقًا ووضوحًا، كما أنها أخذت طابعًا استراتيجيًّا، ودل على ذلك الزيارات المتبادلة بين رئيسَي البلدَين فترة التسعينيات.
ففي عام 1990 كانت أول زيارة رسمية لحافظ الأسد إلى طهران منذ عام 1979، كما أنه أعاد الزيارة عام 1997، كما زار الرئيس الإيراني محمد خاتمي سوريا عام 1999، في تلك الأثناء كان البلدان بصدد المضي بالعلاقات الاقتصادية وتطوير العلاقات الدفاعية وما إلى ذلك، فتم إنشاء اللجنة السورية الإيرانية العليا المشتركة، برئاسة نواب الرئيس ووزراء الخارجية، لتعزيز التعاون الاقتصادي والسياسي، إضافة إلى تأسيس برنامج مشترك لاكتساب القدرة على إنتاج الصواريخ الباليستية والرحلات البحرية.
لم تتزحزح العلاقة بين البلدين بعد وفاة الأسد الأب ووصول الوريث بشار إلى كرسي الحكم، كان عهد الأسد الابن ذهبيًّا لطهران، حيث فتح يديه لإيران وفتح البلاد أمام مشروعها على كافة الأصعدة، خاصة أن الأسد لم يستطع أن يحافظ على علاقات جيدة مع الدول العربية منذ مجيئه، وخلال الفترة ما بين عام 2000 وحتى اندلاع الثورة السورية في مارس/ آذار 2011، زار الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد سوريا 5 مرات، بينما زار الرئيس بشار الأسد إيران 3 مرات.
كانت تكشف هذه الزيارات عن عمق التحالف السوري الإيراني، كما كانت العلاقة تتوثق في كل أزمة تصيب المنطقة، حيث كانت حرب العراق وإزالة حكم صدام حسين فرصة كبيرة لطهران للسيطرة على العراق، وهذا ما حصل، وبذلك أصبح الطريق مفتوحًا تمامًا إلى سوريا ضمن المشروع الإيراني.
فبعد حرب العراق بسنوات، حدثت حرب عام 2006 في لبنان بين “حزب الله” و”إسرائيل”، بيّنت هذه الحرب مدى قوة التحالف بين “حزب الله” وطهران وبشار الأسد، حتى إنه في العام ذاته وقّع وزيرالدفاع الإيراني ونظيره السوري اتفاقية للتعاون العسكري ضد “التهديدات المشتركة التي تقدمها “إسرائيل” والولايات المتحدة”.
لم يكتفِ آل الأسد بعلاقات اقتصادية هنا واتفاقيات هناك مع ملالي إيران، بل فتحوا أبواب الشام على مصراعيها ليحقق الولي الفقيه أخيرًا ما عمل عليه لـ 30 عامًا، فخلال 10 سنوات من الثورة أصبحت طهران أحد أهم الفاعلين في الشأن السوري، حيث دعمت النظام على كافة الأصعدة، وتغلغلت في مراكز القرار في البلد المنكوب اقتصاديًا وعسكريًا وتعليميًا وحتى دينيًا، لتغدو دمشق اليوم إحدى الحواضر المستباحة إيرانيًا بكافة المقاييس.