يمكن القول إن كل المحاولات التي بُذلت من أجل منع الانهيار في لبنان باءت بالفشل في ظل انسداد أفق الحل السياسي، وفي ظل نزف حاد بالاقتصاد جعل الليرة اللبنانية تفقد نحو 90% من قيمتها أمام الدولار الأمريكي، إذ تخطى سعر صرف الدولار الأمريكي في السوق الموازية خلال الأيام الأخيرة 15 ألف ليرة لبنانية للدولار الواحد، وهو سعر غير مستقر ويمكن أن يصعد، في ظل الحديث عن رفع الدعم عن بعض السلع التي ما زال المصرف المركزي اللبناني يدعمها، إلى عشرين ألف ليرة للدولار.
هذا فضلًا عن أزمة محروقات، إذ تشهد محطات الوقود طوابير يومية من السيارات التي تصطف أمام المحطات من أجل الحصول على صفيحة بنزين واحدة، وكذلك أزمة كهرباء، فيتم تغذية المنازل بالتيار الكهربائي لثلاث ساعات يوميًا فقط، في حين يعمد المواطنون إلى تأمين البديل عن ذلك من خلال شراء الكهرباء من مولدات خاصة وبأسعار تكاد تكون عشرات أضعاف السعر الرسمي.
وإلى المحروقات والكهرباء هناك أزمة الدواء المفقود بالصيدليات، وكذلك حليب الأطفال وغيرها من الأمور التي لا حد ولا حصر لها، ويعيش لبنان كل هذه الأوضاع في ظل حكومة تصريف أعمال لا تؤدي إلا الحد الأدنى من واجباتها، وفي ظل أزمة صحية (فيروس كورونا) ما زالت تعصف بكل شيء.
فشل الحلول السياسية
يؤكد الجميع أن مفتاح الحلول للأزمات الاقتصادية والاجتماعية وغيرها يكمن في تشكيل حكومة تكون محل رضا وقبول الأطراف الداخلية من ناحية، وتحظى بثقة الدول العربية والمجتمع الدولي من ناحية ثانية، غير أن كل المساعي التي بُذلت على مدار أكثر من سبعة أشهر لم تفلح في تشكيل قناعة عند بعض الأطراف الداخلية لتسهيل تشكيل الحكومة.
وتتقاذف الأطراف الداخلية المسؤولية عن هذا التعطيل، فيتهم الرئيس المكلف بتشكيل الحكومة سعد الحريري، رئيس الجمهورية ميشال عون وفريقه السياسي (التيار الوطني الحر بزعامة صهر عون جبران باسيل) بتعطيل مساعي تشكيل الحكومة لأن عون يريد تكريس صلاحيات رئاسية يهيمن بها على قرار البلد ويمهد من خلالها لصهره “باسيل” لبلوغ كرسي الرئاسة الأولى بعد قرابة سنة من الآن، ويرفض الحريري ذلك، ومعه طيف واسع من القوى والشخصيات السياسية اللبنانية.
انفجرت أزمة حادة وعميقة بين رئاسة الجمهورية ورئاسة المجلس النيابي، إذ تبادلتا الاتهامات والسجالات على مدى يومين بالمسؤولية عن التعطيل، وذهبت رئاسة الجمهورية أبعد من ذلك عندما اتهمت بري باستهداف الرئيس
وفي مقابل ذلك يتهم رئيس الجمهورية ميشال عون، الحريري بالعمل على تهميش دور وصلاحية رئيس الجمهورية، ويقع لبنان واللبنانيون تحت هذا الاشتباك الذي يعيق التشكيل، ويفاقم الأزمة على المستويات كافة.
الجدير بالذكر أن الفرنسيين طرحوا مبادرة لتشكيل حكومة، لكنها سقطت بفعل الاشتباك السياسي القائم، كما أن رئيس المجلس النيابي نبيه بري اقترح مبادرة للحل غير أنها وصلت إلى طريق مسدود، فقد رفضها رئيس الجمهورية وتياره السياسي بشكل صريح وهو ما صرح به بري بشكل واضح.
وتجدر الإشارة أيضًا في هذا السياق إلى أن البعض في لبنان يعتقد أن سبب عرقلة تشكيل الحكومة ليس داخليًا فحسب، لكن هناك أسبابًا خارجيةً تؤثر على الحل وتعرقل حصوله من ذلك الاشتباك الأمريكي الإيراني من ناحية، والفيتو السعودي غير المعلن والموضوع على تشكيل الحريري للحكومة، وشروط بعض الدول المانحة التي ترفض مشاركة أطراف سياسية لبنانية بالحكومة وعلى وجه الخصوص “حزب الله”.
أزمة حادة بين الرئاستين الأولى والثانية
انسداد أفق الحل السياسي وبالتالي تشكيل حكومة جديدة، وتفاقم الأوضاع الاقتصادية بشكل غير مسبوق، وتحذير قيادة الجيش من أن استمرار الأمور بهذا الاتجاه يهدد استمرار المؤسسة العسكرية، وبالتالي يهدد الاستقرار ويفتح الباب أمام الفوضى الشاملة، دفع رئيس المجلس النيابي لطرح جملة أفكار على هيئة مبادرة للمساعدة على تشكيل الحكومة والخروج من الأزمة، وقامت مبادرة بري بشكل أساسي على تشكيل حكومة من 24 وزيرًا من أصحاب الاخصاص وغير الحزبيين ومن دون حصول أي فريق فيها على أكثر من الثلث، بعدما كان الرئيس المكلف سعد الحريري، مصرًا على حكومة من 18 وزيرًا.
وافق الرئيس المكلف بتشكيل الحكومة سعد الحريري على مبادرة بري، وفوضه تسمية بعض الوزراء من باب تسهيل التشكيل، غير أن رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل ومعه رئيس الجمهورية ميشال عون، رفضا مبادرة بري، واعتبرا أن فيها تجاوزًا للصلاحيات الدستورية الممنوحة لرئيس الجمهورية، كما رفضا كل الحلول والطروحات المؤدية إلى الحل.
وهنا انفجرت أزمة حادة وعميقة بين رئاسة الجمهورية ورئاسة المجلس النيابي، فقد تبادلتا الاتهامات والسجالات على مدى يومين بالمسؤولية عن التعطيل وذهبت رئاسة الجمهورية أبعد من ذلك عندما جرى اتهام بري باستهداف رئيس الجمهورية و”مقام الرئاسة الأولى”، وانعكس ذلك بشكل كبير على جمهور الفريقين في الشارع وعلى منصات التواصل الاجتماعي، وشارك في عمليات الردح والاتهام وتقاذف المسؤوليات نواب ووزارء ومسؤولون من كلا الفريقين، كما أن هذه الأزمة أثرت بشكل كبير على العلاقة بين التيار الوطني الحر و”حزب الله.”
أزمة ثقة بين التيار الوطني الحر و”حزب الله”
وعلى خلفية الأزمة بين الرئيس نبيه بري، وهو حليف أساسي لـ”حزب الله” إذ يشكل معه ما يُعرف هنا في لبنان بـ”الثنائية الشيعية”، ورئيس الجمهورية ميشال عون الذي صاغ معه “حزب الله” في العام 2005 ما يُعرف بـ”تفاهم مارمخايل”، نشأت أزمة ثقة آخذة بالتصاعد بين حزب الله والتيار الوطني الحر الذي كان يرأسه رئيس الجمهورية، وكان وما زال يوفر غطاءً مسيحيًا لحزب الله في لبنان.
يتجه لبنان في ظل هذه الأوضاع بشكل سريع نحو الانهيار الشامل، وهذا يمكن أن يُنتج فوضى شاملة لا يعرف أحد أين يمكن أن تستقر بالبلد
فالرئيس نبيه بري انطلق بمبادرته للحل من دعوة أطلقها أمين عام حزب الله، حسن نصر الله، طلب منه فيها المبادرة إلى التوفيق بين رئيس الجمهورية والرئيس المكلف بتشكيل الحكومة، غير أن عدم تسهيل رئيس الجمهورية لمبادرة بري، بل تعطيلها، إضافة إلى مواقف سياسية أخرى ليس محل ذكرها الآن، طرح مسألة الثقة بين حزب الله من ناحية والتيار الوطني الحر ورئيس الجمهورية من ناحية ثانية، وفي هذا السياق ترى أوساط متابعة في لبنان أن حزب الله بدأ يشعر أن العلاقة مع رئيس الجمهورية بدأت تتحول إلى علاقة ثقيلة عليه، فضلًا عن أنه لا يثق بصهر الرئيس ثقته بالرئيس نفسه، ومن هنا يجد البعض أن هذه العلاقة ستتأثر في المرحلة الحاليّة وتتراجع غير أنها لن تسقط بشكل كامل.
الحديث عن فدرلة الحل في لبنان
وفي موازاة الانقسام السياسي وانسداد أفق الحلول أمامه، وفي ظل الأزمة الاقتصادية العميقة، بدأ الحديث في بعض الأوساط عن تشخيص أسباب هذا الوضع، وعن الحلول الممكنة له، وفي هذا السياق عُقدت لقاءات بعيدة عن الإعلام لشخصيات من الوسط السياسي والأكاديمي والاقتصادي رأى بعضها أن المشكلة التي يعاني منها لبنان اليوم هي مشكلة نظام سياسي ترتقي أحيانًا إلى مشكلة كيان.
وقد طُرحت في بعض هذه اللقاءات التي حصلت في الأوساط المسيحية بشكل أساسي فكرة اعتماد الفيدرالية الطائفية والمذهبية في لبنان كحل للأزمة الحاليّة سواء كانت أزمة نظام أم أزمة كيان، وتحولت الفكرة من النقاش في لقاءات مصغرة إلى لقاءات أوسع ومشاركة من بعض المرجعيات السياسية والدينية غير أنها ظلت أيضًا بعيدًا عن الإعلام.
وقد جرى الحديث مؤخرًا عن لقاء عُقد في الصرح البطريركي في بكركي ناقش دراسة قُدمت بين يدي الحاضرين عن اعتماد الفيدرالية في لبنان تحت عنوان “جمهورية لبنان الفيدرالية”، ولم يُعرف إذا كان اللقاء خلُص إلى تبني الدراسة وما ورد فيها، وإذا ما كان سينتقل بها إلى بعض العواصم الأوروبية لتسويقها حتى تُعتمد في أي حل قادم.
خلاصة القول إن لبنان في ظل هذه الأوضاع يتجه بشكل سريع نحو الانهيار الشامل، وهذا يمكن أن يُنتج فوضى شاملة لا يعرف أحد أين يمكن أن تستقر بالبلد إلا إذا عاد منطق العقل وساد من جديد في ربع الساعة الأخير ووضع حدًا لهذا التهور والانهيار.