لم يعد يوم الـ17 من يونيو/حزيران من كل عام يومًا عاديًا مثل باقي الأيام، إذ بات تاريخًا شاهدًا على تغول ووحشية الدولة العربية الحديثة، لا سيما النظام المصري الحاليّ، نظام ما بعد الـ3 من يوليو/تموز 2013، الذي لم يجد أي مانع أخلاقي في الاستفراد بعالم چيولوچي حائز على الدكتوراة من إحدى أعرق جامعات الولايات المتحدة الأمريكية، عاد إلى وطنه، ليشتغل بالسياسة والدعوة، حتى صار برلمانيًا ورئيسًا للجمهورية.
تعرض الرئيس الأسبق محمد مرسي، أول رئيس مدني منتخب في تاريخ جمهورية مصر العربية بالمعنى الحقيقي للعبارة، إلى ما هو أبشع من الانقلاب العسكري، فقد تعرض إلى الحصار والقهر والتشويه، منذ اللحظة التي أعلن فيها نيته الترشح إلى رئاسة الجمهورية بعد ثورة يناير/كانون الثاني 2011، مرورًا بعام حكمه اليتيم، وصولًا إلى مقتله وما تلى ذلك، حتى اليوم.
“الإستبن”
أسهل وسيلة للنيل من شخص لا يروقك، أن تخلع عليه اسمًا، مكثفًا، سهلًا، قابلًا للتداول، أن تسمه (من الوسم)، أن تترك على وجهه علامةً، بلغة الشارع، لكنها علامةٌ معنوية، فإذا ذكر الاسم، استحضر الذهن صورة هذا الشخص، وهي المرحلة التي تسبق تطبيع استباحة هذا الشخص، حقيقةً ومجازًا.
في اللغة المصرية الدارجة، تعد “الإستبن” مفردةً دالةً ومستخدمةً للإشارة إلى إطار السيارة البديل، الذي تستخدمه عند الطوارئ، لكن خصوم الرئيس الأسبق محمد مرسي، استعاروا هذه المفردة من الحقل التقني الأداتي اليومي، فأكسبوها دلالةً أقل مكانةً، وربطوها بالرئيس الأسبق محمد مرسي.
في القرآن، نهيٌ صريح عن “التنابز بالألقاب” أي التحذير من الأسماء المكروهة اجتماعيًا، وفي قيم العرب، نهيٌ عن التقليل من الكبير عمرًا ومقامًا، لا سيما إن كان هذا الكبير ذا خبرة علمية وسياسية ودعوية معتبرة.
ومع ذلك، فبمجرد أن طرحت جماعة الإخوان محمد مرسي اسمًا مرشحًا للرئاسة المصرية بعد استبعاد المهندس خيرت الشاطر الممثل الأول للإخوان مع آخرين في سباق الانتخابات مطلع عام 2012، حتى أطلق إعلاميون مصريون وخصومٌ لجماعة الإخوان المسلمين، هذا الاسم على الرجل، كاغتيال معنوي مبكر له، يحمل دلالات: أنت شخصٌ ثانويٌ، بلا قيمة، مجرد تابع، رغم أن مرسي كان رئيسًا لحزب الحرية والعدالة.
وصلت الأمور إلى أن جلب كاتب مصري شهير، إبراهيم عيسى، “إستبن” حقيقي في إحدى الحلقات كي ينال من مرسي. قد يقول قائل: نرى مثل هذه الأساليب في الإعلام الغربي خلال الحملات التنافسية، لكن الحقيقة والمشكلة، أن الاغتيال المعنوي لم يقف عند هذا الحد، وأن من فعلوا ذلك لم يفعلوه اقتناعًا بقيمة الحرية، بدليل أنهم لم يمارسوا ذلك مع أحد غير مرسي، فضلًا عن أن التجربة السياسية المصرية لم تكن قد بدأت لتوها حتى تستخدم هذه الأساليب.
ولاحترامه الجم، قال مرسي ردًا على هذا الوسم إن هذا الأمر لا يضيره ولا يضيق به صدره ولا ينال منه، لكنه يأمل أن تكون أعراف النقد السياسي في المجتمع المصري أكثر رقيًا من ذلك، ويخشى على خصومه من أن تجرهم هذه الطريق إلى الهاوية في النظر والتعاطي مع شؤون المجتمع والسياسة، وهو ما حدث لاحقًا بالفعل.
الهارب
بمجرد أن بدا مرسي عازمًا بشكل جاد على خوض سباق الرئاسة المصرية، وأن فرصه كبيرة في ظل دعمه من جماعة الإخوان المسلمين، وبالنظر إلى سيرته الذاتية غير الهينة في الدراسة والعمل الأكاديمي والسياسي، في نفس الوقت الذي يفتقد فيه معظم خصومه لنفس المقومات، خاصة أن الجولة الثانية كانت منافسةً بين مرسي ومرشح الفلول أحمد شفيق، حتى بدأ التقليب في الدفاتر القديمة كما يقول المصريون.
الهروب من سجن وادي النطرون أيام اضطرابات الثورة، تهمةٌ تعوق الرئيس الأسبق عن المضي في هذا المسار قانونيًا ورمزيًا، إذ كيف يمكن أن يكون رئيس الجمهورية المؤتمن على العقد الاجتماعي للبلاد ومقدراتها سجينًا هاربًا متمردًا على القانون، محتفظًا بسجل سيئ في صحيفة الأحوال الجنائية، وهي القضية التي تحولت لاحقًا إلى ما عرف في أروقة القضاء بقضية “اقتحام السجون”؟
اتهم النظام المصري عناصر إرهابية خارجية باقتحام الحدود واستغلال حالة الفوضى التي ضربت البلاد في هذا التوقيت لتهريب العناصر السياسية الخطيرة من السجون المصرية، لكن فضلًا عما تطرحه هذه السردية من أسئلة حيال احتمال حدوثها ميدانيًا، أو موقف المقصر في تأمين الحدود من هذا الخطر الخارجي، أو غياب أي أدلة نوعية على هذا الحدث البارز (شهادات وصور)، فإن اللجنة القضائية المشرفة على الانتخابات حينئذ لم تر أي مانع قانوني أو رمزي يحول بين مرسي وترشحه للرئاسة، خاصة بعد أن وفق مرسي وغيره، قانونيًا، مسألة خروجه من السجن في هذا التوقيت لاحقًا.
المدهش أنه كما لو كان يعلم أن الخروج بهذه الطريقة سيخلق نزقًا مستقبليًا قد يستغل ضده، فقد خرج مرسي في اتصال هاتفي مع قناة الجزيرة في وقت هذه الأحداث تمامًا، نافيًا في الاتصال أن يكون ما يحدث فرارًا، ومطالبًا أي مسؤول مصري بالتواصل معه ومجموعته التي تخطت أكثر من 30 معتقلًا إخوانيًا، بينهم 7 من مكتب الإرشاد، مؤكدًا أن جميع من كانوا في السجن تركوا نطاقه، إلا الإخوان، مشيرًا إلى أن أمامهم نحو ساعة للتباحث بشأن الخطوة القادمة.
في هذه المكالمة التي تفند مزاعم هروبه، نفى مرسي أن يكون على علم بهوية مقتحمي السجن، لكنه أكد أن ما رآه أفراد، ربما يصل عددهم إلى 100 شخص يرتدون ملابس مدنية وشرطية، اقتحموا سجن وادي النطرون على طريق مصر الإسكندرية الصحراوي، وكان من ضمن المقرات المقتحمة خلال العملية التي استغرقت نحو 4 ساعات، سجن 2 عنبر 3، الذي تقبع فيه كوادر الإخوان، مرجحًا أن تكون إدارة السجن اشتبكت مع المهاجمين بالقنابل المسيلة للدموع فقط، بما لم يخلف أي قتلى ومصابين، ولم يبق في المحيط إلا أعضاء الإخوان، بعد ما بدأ المهاجمون الذين يغلب عليهم الطابع الأهلي الانسحاب من الموقع.
العمالة للخارج
ما الذي كان يفعله مرسي في الولايات المتحدة الأمريكية في فترة مبكرة من عمره؟ ما نعرفه أنه كان يدرس ويدرس حتى حاز شهادة الدكتوراة، شأنه في ذلك شأن كثير من أبناء الوطن الذين يتحلون بالطموح والمثابرة والمهارات اللغوية والمعرفية اللازمة للاندماج في المجتمع الأكاديمي الغربي، على أن يعودوا للوطن بعد ذلك.
لكن، للأجهزة الأمنية المصرية سردية أخرى ظهرت خلال سباق الانتخابات الرئاسية عام 2012، فقد نجحت الولايات المتحدة، حسب تلك الرواية، في تجنيد مرسي، حينما كان يدرس في أراضيها من أجل استخدامه في عرقلة أحد المشاريع العسكرية الاستقلالية لبعض الدول التي تريد أن تشب عن الطوق الاستعماري وتصبو إلى الاستقلال السياسي.
وفقًا للواء أحمد حسام خير الله وكيل جهاز المخابرات العامة المصرية سابقا، فقد أجهض مرسي تهريب مادة “الكربون الأسود” التي طمح الثلاثي، مصر والعراق والأرجنتين، إلى تهريبها من الولايات المتحدة، بغرض المساهمة في توليد الاحتكاك اللازم لتجربة صواريخ أرض أرض ضمن مشروع “كوندور” المشترك الذي صار لاحقًا اسمه “بدر”.
المفارقة المثيرة هنا، أن السلطات المصرية، وفقًا لتحليل سردية خير الله، سمحت لمرسي عقب هذا الدور غير الوطني، بالعودة إلى مصر، والعمل مدرسًا في الجامعة، ثم الترشح لرئاسة الجمهورية، بعد ما تسبب في إجهاض مشروع صاروخي بهذا الحجم، مستغلًا نفوذه الوظيفي في الخارج، فيما اقتصر دور هذه السلطات، حسب كلام اللواء، على تدشين دورات لتوعية البعثات الدراسية المسافرة إلى الخارج من خطر التجنيد، بعد أن أدت هذه العملية أيضًا إلى مقتل أحد الضباط المصريين.
عمل مرسي بشكل ما مع “وكالة ناسا” واشتغاله العلمي في الولايات المتحدة كان هدفًا أمنيًا وأكاديميًا لخصوم الرئيس الأسبق الذين حاولوا التقليل من هذا المسار المشرف بشتى السبل، حتى تحدث أحمد زويل العالم المصري الحائز على جائزة نوبل في الإعلام، بعد الإطاحة بمرسي، مشيدًا بجهوده ومعرفته وثقافته العلمية، ومنوهًا أيضًا أن لقاءً جمعهما استمر نحو ثلث ساعة، تطرقا خلاله إلى معلومات تفصيلية عن المجتمع الأكاديمي الأمريكي وإلى الصعوبات التي اعترضت طريق مرسي في مصر لاحقًا، بشكل ينم عن ثقافة وإلمام عميق يخول له خلع لقب “عالم” على مرسي، دون أي مبالغة.
انتخابات مزورة
رغم أن الانتخابات الرئاسية التي فاز بها مرسي كانت جزءًا من مسار أشمل يتضمن تصويتًا على التعديلات الدستورية وانتخابات لمجلسي الشعب والشورى نالت اختيارات جماعة الإخوان في معظمها تأييدًا شعبيًا ملحوظًا، ورغم أنها كانت الأكثر نزاهة ظاهريًا، إذ تفوق مرسي في الجولة الأخيرة على شفيق بنحو 2% فقط خلافًا للانتخابات الصورية التي كانت تجري قبل ذلك وتنتهي بفوز حاسم للرئيس الأوحد، فإن الدولة العميقة لم تفتأ تشكك في نتيجة هذه الانتخابات التي جاءت بمرسي.
أكثر من سردية شاعت بهذا الخصوص، لقد خشي المجلس العسكري على البلاد من سطوة الإخوان فمنحهم الحكم، لقد تلاعب أنصار مرسي بعدد مليوني بطاقة تصويتية في “المطابع الأميرية” منحت تفوقًا لمرشحهم، وقيل إن الإخوان منعوا عددًا كبيرًا من قرى الصعيد من التصويت، بالقوة، في الانتخابات خوفًا من تأثير هذه الكتل البشرية على مجريات الفرز والنتائج، وروج آخرون إلى أن الإخوان سارعوا بإعلان النتائج بفوز مرسي قبل الإعلان الرسمي حتى يحرجوا اللجنة القضائية المشرفة على الانتخابات.
تردد هذا المضمون على ألسن الكثيرين من خصوم مرسي بعد إعلان فوزه بالرئاسة، إعلاميين ونافذين، إلا أن ما أصقل هذه الفكرة كان تداولها على لسان أحد الأسماء البارزة في الدولة العميقة، وكيل سابق آخر لجهاز المخابرات العامة (من روج قصة الكربون الأسود كان وكيلًا لجهاز المخابرات العامة أيضًا)، وهو اللواء ثروت جودة هذه المرة.
في أكثر من حوار صحفي، قال اللواء إن الفائز الحقيقي في انتخابات الرئاسة كان الفريق أحمد شفيق، منوهًا أن الحرس الجمهوري ذهب إلى بيت شفيق أولًا وقضى هناك نحو نصف ساعة، ثم صدرت أوامر عليا بالتوجه إلى بيت مرسي لاحقًا، مشيرًا إلى أنه عرف أن مدير المخابرات الأمريكية والسفيرة الأمريكية بالقاهرة، قالوا في اجتماع مغلق بعد إعلان النتيجة رسميًا: نحن من قمنا بإنجاح مرسي.
اللافت أيضًا في رواية جودة، الذي يكشف جانبًا عما كان يضمره هذا النظام لمرسي، هو ما ذكره من أنه قال لمدير المخابرات العامة اللواء رأفت شحاتة، ما مضمونه، أن عليك أن تنسى القسم الذي حلفته أمام مرسي، وتستعيض عنه بالكفارة، لأننا – أي الأجهزة السيادية – نعلم أنه (مرسي) خائن من قبل أن يكون رئيسًا، متعاهدين ألا ينقلوا إليه معلومة صحيحة تخص البلاد أبدًا.
لم يتوقف الأمر عند النيل من شرعية الانتخابات الرئاسية الأولى التي شهد العالم بنزاهتها، وذلك من أجل تعبيد الطريق أمام أي تحرك ضد الرئيس الأسبق لاحقًا، بحجة أنه “رئيس الصدفة والضرورة” وليس رئيسًا حقيقيًا، فضلًا عن كونه تابعًا للمرشد على نحو ما أشاعوا خلال عام الرئاسة، كما لم يتوقف عند الاتفاق على عدم التعاون معه أمنيًا، وإنما امتد إلى التجسس عليه، هو والمقربون منه.
في لقاء مصور بعد الانتخابات الرئاسية مع الإعلامي وائل الإبراشي، قال منافس مرسي، شفيق، إنه كان بوسعه أن يعرف نوعية الطعام الذي يتناوله المهندس خيرت الشاطر كل يوم، فضلًا عن سماع مكالماته، كاشفًا النقاب عن تفاصيل مكالمة دارت بين الشاطر وأحد رجاله، بعد إعلان نتيجة الانتخابات مباشرة، طالب فيها الشاطر من هذا الرجل أن يبلغ المرشد العام حينها، محمد بديع، بأن نائب الرئيس لا بد أن يكون من الإخوان أيضًا، مذيلًا: “هناك أجهزةٌ سيادية لعبت دورًا وطنيًا مبكرًا في رصد كيف تهدد هذه الجماعة الأمن القومي”.
السيسي مشوهًا مرسي
بعد الانقلاب العسكري والإطاحة بمرسي وأنصاره من المشهد وانفراد السيسي وداعميه بمقاليد الأمور في البلاد، بدا أن هناك نمطًا مطردًا من التصريحات التي يصدرها السيسي في مناسبات مختلفة، مستغلًا عدم قدرة الطرف الآخر على الرد، في النيل منه، وإظهار نفسه وأدائه في هذا العام، تحت حكم مرسي، مظهرًا مغايرًا لما كانت عليه الحقيقة، مضفيًا على نفسه ثياب الشجاعة والمبادرة بمواجهة “المشروع الإخواني” في البلاد.
في لقاء إعلامي بعد الانقلاب وخلال الانتخابات الصورية التي خاضها السيسي ضد حمدين صباحي، قال السيسي إنه في أحد الاجتماعات بمرسي، ودون مناسبة، قال له نصًا: “الجيش ده مش بتاع حد، ومش هيبقى بتاع حد، هو بتاعك دلوقتي، عشان الشعب المصري فيه إرادة وجابكْ، أول ما الإرادة دي تنتهي، مش هيبقى بتاعك. كده! كده! الحال كده”.
بعد 3 أعوام، عاود السيسي في لقاء مصور على الهواء مباشرة أمام الرأي العام تأكيد مضمون هذه الرسالة السابقة قائلًا بالنص: “لما اتعينت وزير دفاع، كان طبيعي لأي انتهازي عاوز يكسب واختاروه يبقى وزير دفاع هيخش عليهم يقول لهم إيه: ده أنا معاكم ده أنا منكم بس كنت مستخبي. لا والله ده أنا قدمت لهم نفسي كالآتي: أنا مش إخوان ومش هبقى إخوان، وأنا مش سلفي ومش هبقى سلفي، أنا إنسان مسلم بس”.
واستكمالًا لهذه الصورة الذهنية التي حرص السيسي في وقت لاحق على رسمها لنفسه كمناضل ضد حكم الإخوان منذ أن كان وزيرًا للدفاع، فقد قال أيضًا إنه قبل الـ30 من يونيو/حزيران 2013 بأسبوع، رد على تهديدات خيرت الشاطر له من مغبة تدخل الجيش في المشهد السياسي، قائلًا له إن من سيقترب من الجيش رافعًا سلاحه في وجهه، فإنه – السيسي – سيمحوه من على وجه الأرض، وأن ما يحدث في سيناء يمكن للجيش القضاء عليه في ساعات، لولا الخشية على أرواح الأبرياء.
على مدار الأعوام الأخيرة، تناولت أيضًا عددٌ من المسلسلات شخصية مرسي مروجةً سردية الدولة، عن استبداده وضعفه في نفس الوقت، عن افتقاده الكاريزما والولاء للوطن وغيرها من الاتهامات
وفي نيله من شخص مرسي بعد الانقلاب، يذكر أن السيسي، منوهًا عن السردية التي شاعت عن الرئيس الأسبق بخصوص تبعيته للجماعة، قال أمام حشد من شيوخ المنطقة الغربية العسكرية أن مرسي كان رجلًا طيبًا لكنه لم يكن يحكم، وفي حوار مع خالد صلاح ومحاورين آخرين، قال إن مرسي كان يخشى من صوت الطائرات التي تحلق فوقهم بشكل دوري، وكان السيسي يطمئنه من أنها تقوم بمهمات اعتيادية، ولا داعي للقلق.
هذه الصورة التي أراد السيسي وإعلامه، ترويجها عن الرئيس الأسبق، ضعيف وتابع ويفتقد إلى الشجاعة وغير مناسب لمنصب الرئاسة لأنه من خلفية ثقافية رجعية (فلاح من الشرقية) – ولأنه لا ينتمي إلى المؤسسة العسكرية، فلا يعرف أبسط قواعد البروتوكول الرئاسي، غير أن الأسوأ في هذه الصورة، كان محاولة السيسي إلصاق الخيانة بمرسي، على غرار حديثه عن تسهيل إخراج وثائق تمس الأمن القومي للبلاد إلى قطر في عام حكم مرسي.
أين الحقيقة؟
من المؤكد أن الرئيس مرسي الذي استهل رئاسته بالنزول إلى ميدان التحرير دون ارتداء قميص واق من الرصاص، وهو ما لم يستطع السيسي فعله على هذا النحو قط حتى الآن بعد 8 أعوام في السلطة، الذي اتخذ مواقف جادة وصارمة (مرسي) تنم عن ثبات وتحد في الخارج خلال فترة الرئاسة تجاه دولة الاحتلال وإيران والهجمات على مقام النبي، أو في الداخل بعد عزله ثابتًا شامخًا في محبسه، لم يكن بهذه الصورة الوضيعة التي أراد السيسي أن يرسمها له.
لكن، هذا ما أراد السيسي إيصاله عن نفسه وعن خصمه، مرسي، في ظل عدم قدرة هذا الخصم وأنصاره على الرد بأي شكل، لكن ما الحقيقة، بعيدًا عن انحياز أي طرف من الطرفين لهذا أو ذاك؟
تكشف التسريبات المستقلة التي نقلتها أطراف من داخل الدولة العميقة إلى الرأي العام ضمن ما يعرف بـ”صراع الأجنحة” أن السيسي في الحقيقة، كان يمارس خطةً من “الخداع الإستراتيجي” ضد مرسي خلال توليه الرئاسة، فلم يكن يجرؤ على الحديث معه بهذا الشكل، حتى لا يكشف أمره مبكرًا، فضلًا عن أنه ظل محتفظًا بمخاوف شخصية من الرئيس الأسبق مرسي، خلافًا لما روجه عن ضعف مرسي.
تعليقًا على التسريب الذي مدح فيه مبارك السيسي وخطته لإيهام الإخوان أنه موال لهم، حيث قال الأول: “السيسي ده طلع عقرْ”، كشف الخبير السياسي الكويتي عبد الله النفيسي فصلًا آخر من هذه الخطة، حيث كان السيسي يهرول على الهاتف، أمام مرسي، كلما حان وقت الصلاة، للاتصال بزوجته، وتذكيرها بضرورة أداء الصلاة في وقتها وعدم تأخيرها، للإيحاء إلى مرسي بأنه يشاطره نفس السمت المحافظ.
وفي تسريب آخر بين السيسي وأحد عرابي الانقلاب، محمد حسنين هيكل، يخبر فيه السيسي هيكل، بعد الانقلاب العسكري مباشرة، أنه يخشى من العواقب القانونية المستقبلية لهذا التحرك ضد الرئيس المنتخب، مشيرًا إلى أنه يطمح لتفادي المحاكمة، إلى أن يحصل على مكالمة من مرسي، يقول فيها إنه تنازل طوعًا عن الحكم، مقابل أن يوافق السيسي على إجراء مصالحة سياسية تقلص خسائر الجماعة.
ولمجرد إجراء مرسي حوارًا صغيرًا مع مقربين من جماعة الإخوان داخل محبسه في إحدى جلسات المحاكمة، هرول السيسي إلى مدير مكتبه آنذاك، عباس كامل، مطالبًا إياه بالتواصل مع النائب العام هشام بركات، ليأمر بإقامة حاجز زجاجي، يمنع مرسي من التواصل مع المحكمة أو أي شخص خارج الحاجز، بشكل عاجل جدًا، خوفًا من عواقب هذا التواصل بين مرسي ورجاله السابقين.
أما عن التواطؤ العمدي مع عناصر خارجية لأغراض سياسية قد تضر بمصلحة الأمن القومي، فقد ثبت بما لا يدع مجالًا للشك أن السيسي هو من أضر بالأمن القومي للبلاد في مناسبات عدة، أبرزها التفريط في الجزيرتين الإستراتيجيتين تيران وصنافير، والتهاون في حقوق مصر البحرية لصالح قبرص الرومية ودولة الاحتلال نكايةً في تركيا، لكن حدثًا خطيرًا كان السيسي جزءًا منه وقع في نفس الحقبة الزمنية المثيرة إبان يناير.
فبعد أن قبضت السلطات المصرية على عدد من الأجانب ضمن قضية “التمويل الأجنبي لمنظمات المجتمع المدني” بعد الثورة، ضغطت نفس السلطات على المحكمة للإفراج عنهم استجابةً للضغوط الخارجية، ما اضطر القضاة حينها إلى الاعتذار عن النظر في القضية لاستشعارهم الحرج من تدخل السلطة التنفيذية، وصولًا إلى هبوط طائرة عسكرية أمريكية قادمة من قبرص إلى مطار القاهرة لاصطحاب المتهمين الأجانب تحت مرأى ومسمع من السلطات المصرية دون أي مقابل، ما أثار سخط المجتمع حينها، خاصة أن النظام لم ينجح حتى في مبادلتهم بعدد من المصريين المحبوسين في الولايات المتحدة. في هذا التوقيت الذي انتهكت فيه السيادة المصرية، كان اللواء السيسي عضوًا للمجلس العسكري، مديرًا للمخابرات الحربية، فمن يحاسبه؟ أو يفتح هذا الملف؟
سلاح الدراما
بعد استقرار الوضع لنظام ما بعد الـ3 من يوليو/تموز، بدأ النظام، بإيعاذ من الرئيس السيسي وضمن توجه إقليمي أشمل، الاستثمار في سلاح الدراما بغرض إعادة كتابة التاريخ فنيًا، والتأثير في الأجيال الجديدة التي لم تعاصر الأحداث بأسلوب غير أسلوب الرسائل الخطابية المباشرة.
في عام 2016، سمحت الرقابة بتصوير فيلم يقوم على النيل من أبرز الشخصيات في عام الإخوان، بما في ذلك محمد مرسي، بشكل مباشر لا مواربة فيه، باسم “المشخصاتي2” الذي أدى دوري البطولة فيه كل من تامر عبد المنعم ويوسف شعبان، بعد كتابة وإخراج محمد صلاح أبو سيف.
تضمن الفيلم إسقاطًا مباشرًا على مثالب جماعة الإخوان بشكل عام، والرئيس محمد مرسي بشكل خاص، معتمدًا على كثير من السرديات غير الحقيقية، التي روجها خصوم الجماعة من أجل النيل منها، ففي أحد المشاهد التي تقدم حوارًا افتراضيًا بين مرسي وحازم أبو إسماعيل، يتفاوض الطرفان على كيفية تقاسم موارد البلاد بعد الوصول إلى الحكم، فيعد مرسي أبا إسماعيل بالوزارات الناعمة ذات المضمون الثقافي من أجل “أخونتها” وتغيير هويتها بما في ذلك وزارات الثقافة والآثار والسياحة والتعليم، قائلًا (مرسي): “اهدم المعابد والتماثيل والأهرامات”، في إشارة إلى ما أشيع عن التيار الإسلامي بخصوص عدائه للفنون والجماليات.
وفي مشهد آخر لا يخلو من ابتذال وافتقاد للمهنية وحدود النقد السينمائي، تقوم “بدرية طلبة” التي تؤدي دور زوجة الرئيس الأسبق مرسي، بالسخرية من انشغاله بالغناء وبعض التفاهات الأخرى، في حين يشهد الشارع اشتباكات حامية على خلفية توتر الوضع السياسي، وفي مشهد آخر مشابه للمشهد السابق من حيث التقييم، تهدد الزوجة زوجها بالاستعانة بالمرشد العام لتأديبه، في إشارة إلى ما شاع عن تبعية مرسي لمكتب الإرشاد وقيادات الجماعة وافتقاده الاستقلالية.
على الرغم من اتساقه مع خط النظام الحاكم، فقد دفع هذا الفيلم بأصحابه إلى اعتزال العمل السينمائي، وعلى رأسهم تامر عبد المنعم، الذي تعرض لهجوم شعبي شديد، بسبب مضامين العمل وابتذاله، فكتب عبد المنعم بعد الفيلم: “أنا بالنسبة لي دي آخر لحظة ليا على الفيسبوك، والمشخصاتي آخر أفلامي ممثلًا، فأنا قولت من خلاله اللي كان نفسي أقوله، أقول لكل من أساء إلي، أنا مصري غصب عنك ووطني أكتر منك (..) ملعون أبو التكنولوچيا اللي تدمر حياة وطن وتستغل من أجل تدمير حياة البشر والإساءة إليهم”.
على مدار الأعوام الأخيرة، تناولت أيضًا عددٌ من المسلسلات شخصية مرسي مروجةً سردية الدولة، عن استبداده وضعفه في نفس الوقت، عن افتقاده الكاريزما والولاء للوطن وغيرها من الاتهامات، كما كانت الحال مع أعمال مثل مسلسل “الداعية” ومسلسل “اسم مؤقت”، غير أن أحدث ما تعرض لمرسي رمضان الماضي كان مسلسل “القاهرة كابول” وبالأخص في الحلقة الأخيرة التي أبرزت وصول ما يعرف باسم “هاتف الثريا” إلى الفنان طارق لطفي الذي تتماس شخصيته مع شخصية مرسي، عندما نرى أنه استخدم هذا الهاتف للتواصل مع الخارج في أثناء هروبه من سجن وادي النطرون أيام الثورة.
في الحقيقة، يعد هاتف الثريا هاتفًا متطورًا مدعمًا بإمكانات غير موجودة في الهواتف التقليدية بسبب ارتباطه بالأقمار الصناعية مباشرة، وتمتعه بتغطية في أي مكان في العالم مهما بعد وانعدمت فيه الخدمات التقنية، وقد أعلنت الجماعة التي شنت هجوم الواحات على قوات الشرطة المصرية استخدامه للتواصل بين أعضائها بالفعل.
لكن الإشارة إلى استخدام مرسي لهذا الهاتف من أجل التواصل مع قناة الجزيرة خلال اقتحام سجن وادي النطرون مبنية على معلومة مغلوطة، وهي أن الاتصالات كانت مقطوعة في هذا التوقيت، ومن ثم إذا نجح أحد في التواصل مع الخارج فلا بد أن يكون قد استخدم تقنيات غير تقليدية، غير أن ما حدث فعلًا أن الاتصالات ظلت مقطوعةً حتى يوم الـ29 من يناير/كانون الثاني 2011 وعادت في اليوم التالي، يوم اقتحام هذا السجن، الذي يقع أصلًا في النطاق الإداري لمحافظة البحيرة، التي لم تشهد أي قطع للاتصال أصلًا، فقد اقتصرت هذه المشكلة على القاهرة والإسكندرية والسويس، المحافظات التي شهدت اشتباكات عنيفة بين الأمن والمتظاهرين.
نجح السيسي في إبعاد مرسي عن المشهد، مضطرًا إياه إلى دفع الثمن الذي قال إنه ليس لديه مشكلة في تقديمه (حياته) من أجل ما يؤمن به
وتخطط السلطات منذ مدة لطرح فيلم “سري للغاية” الذي يوثق أيضًا أحداث الثورة وما تلاها من صعود لجماعة الإخوان ثم سقوطها على يد الجيش، فيؤدي الفنان المعروف أحمد السقا دور السيسي بدايةً من توليه منصب وزير الدفاع وصولًا إلى صعوده لكرسي الرئاسة، ويجسد الفنان أحمد رزق شخصية مرسي، ويشارك في العمل خالد الصاوي وعبد العزيز مخيون ومحمد رمضان.
وبسبب تحامله على الرئيس الأسبق خلال “البرومو” واشتراك شخصيات معروف عداؤها للتيار الإسلامي لسبب أو لآخر، مثل الكاتب وحيد حامد والمنتج رجل الأعمال أحمد أبو هشيمة، تعرض الفيلم لهجوم مبكر دفع أحمد السقا إلى الاحتجاج قائلًا: “المتربصون ومن يختلفون مع الرئيس الحاليّ (السيسي) أو أعضاء جماعة أو ثوار أو أصحاب أيدولوچيات استعجلوا في الحكم على الفيلم”.
الاغتيال الحقيقي
يلخص الإعلامي المصري المقرب من السلطات السعودية عمرو أديب، ما حدث مع مرسي منذ ظهوره في المشهد السياسي المصري بدايةً من إعلان ترشحه للرئاسة بديلًا للمهندس خيرت الشاطر عام 2012، مستعيرًا ما حدث في الولايات المتحدة مع ترامب، قائلًا إن الإعلام الأمريكي تجاه ترامب، فعل نفس ما فعلناه تجاه محمد مرسي: “تريقة وتقليل من شأنه وهز صورته”، على حد قوله.
رغم أن الرئيس مرسي لم ينتبه لخطر السيسي على حكمه بشكل جازم على نحو ما تفطن له شخص مثل حازم أبو إسماعيل نحو السيسي مثلًا، أو على الأقل تحرز من المساس بالسيسي، بعد أن أطاح بالقيادات التاريخية للمجلس العسكري، طنطاوي وعنان، خوفًا من صدام حقيقي بين مؤسستي الرئاسة والجيش يضر بالوطن، فقد أعاد تقييمه، في ضوء مستجدات ما بعد الـ3 من يوليو/ تموز على نحو مختلف.
في تسريب له من محبسه في وقت مبكر بثته قناة “الوطن” على يوتيوب، حاور خلاله مرسي محاميه محمد سليم العوا، تنبأ مرسي بأن يتوحش السيسي أكثر من توحشه الأولي، مرجحًا أن يحتاج نحو 10 سنوات لتثبيت حكمه، وإلا قد يتعرض لانقلاب عسكري مشابه للانقلاب الذي شنه ضده شخصيًا.
لهذا السبب، الخوف من آثار استمرار مرسي في إثارة القلاقل من محبسه، والاستمرار في طرح سؤال الشرعية طالما ظل مرسي، الرئيس المنقلب عليه في الواجهة، نفذ السيسي عملية اغتيال حقيقية لمرسي في باحة المحكمة، بعد أن مارس ضده الاغتيال المعنوي والإماتة البطيئة خلال سنوات، وذلك بمعاونة إماراتية “إسرائيلية” كما أوضحت قيادات في المخابرات الفرنسية، على نحو شرحناه في مادة استقصائية مطولة عقب وفاة مرسي مباشرةً منذ عامين.
نجح السيسي في إبعاد مرسي عن المشهد، مضطرًا إياه إلى دفع الثمن الذي قال إنه ليس لديه مشكلة في تقديمه (حياته) من أجل ما يؤمن به، لكن السؤال الآن: هل سيفلت السيسي من دفع ثمن جرائمه، أم أن نبوءة مرسي تجاه سقوط السيسي ستتحقق أيضًا؟