أسدلت الانتخابات الإيرانية الـ13 في تاريخ البلاد الستار عن فوز مرشح التيار المحافظ إبراهيم رئيسي، في الانتخابات التي جرت أمس الجمعة، بحصوله على 17.8 مليون صوت من أصل 28.6 مليون من أصوات المقترعين، بنسة 62% من إجمالي أصوات الناخبين، حسبما أظهرته النتائج الرسمية غير النهائية، وسط شكوك في مسألة نسب المشاركة التي تمثل مأزقًا حقيقيًا أمام شرعية العملية برمتها.
وجاء في المرتبة الثانية في الانتخابات الأطول خلال العقود الأربع الماضية، الممتدة لثلاث مرات متتالية (حتى الثانية فجر اليوم السبت)، أمين مجمع تشخيص مصلحة النظام، المرشح محسن رضائي بعد أن حصل على 3 ملايين و300 ألف صوت، فيما حل مرشح التيار المعتدل عبد الناصر همتي ثالثًا بمليونين و400 ألف صوت، مقابل مليون صوت حصل عليها قاضي زاده هاشمي الذي جاء رابعًا وأخيرًا.
وفي سابقة هي الأولى من نوعها في تاريخ الانتخابات الإيرانية، تفوقت الأصوات الباطلة على 75% من عدد المرشحين، وذلك بعد بلوغها 4 ملايين و500 ألف صوت، لتحل في المرتبة الثانية بعد رئيسي، في مؤشر حمل الكثير من الدلالات بشأن موقف الشارع الإيراني من هذا الاستحقاق المثير للجدل.
رئيس لجنة الانتخابات، جمال عرف، خلال مؤتمر صحافي، أوضح أن أكثر من 28 مليون إيراني شاركوا في انتخابات الرئاسة من أصل 59 مليونًا يحق لهم التصويت، فيما تباينت الآراء بشأن نسبة المشاركة الفعلية التي أشارت بعض المصادر أنها بلغت أكثر من 53%.
ورغم أن النتائج شبه الرسمية لم تختلف كثيرًا عن التوقعات التي ذهبت إلى فوز شبه مؤكد للمرشح المتشدد، فإن حالة من الترقب شهدتها تلك الانتخابات خلال الأيام القليلة الماضية، داخل إيران وخارجها، لما ينعكس عليها من تغيرات محتملة على الخريطة السياسية للدولة الإيرانية، وتعاطيها مع الملفات الحساسة التي تشهدها.
فوز متوقع
لم يكن فوز رئيسي مفاجئًا للمتابعين لهذا الماراثون، فكل استطلاعات الرأي والمؤشرات التي سبقت العملية الانتخابية كانت تذهب إلى أن تلك الانتخابات تم تفصيلها على مقاس الرئيس الجديد، المقرب من المرشد الأعلى، والمتوقع أن يكون خليفته على هذا الكرسي مستقبلًا.
الجدل بدأ مع استبعاد مجلس صيانة الدستور العديد من المرشحين البارزين في الحياة السياسية الإيرانية لخوض هذا الماراثون، وعلى رأسهم رئيس البرلمان السابق علي لاريجاني، والرئيس السابق محمود أحمدي نجاد، ونائب الرئيس الإيراني القيادي الإصلاحي إسحاق جهانغيري.
فيما اكتفى بسبعة مرشحين فقط، 5 منهم من المحافظين (إبراهيم رئيسي – محسن رضائي – أمير حسين زادة هاشمي – علي رضا زاكاني – سعيد جليلي)، و2 من الإصلاحيين (عبد الناصر همتي – محسين مهر علي زادة)، وقبل ساعات من فتح صناديق الاقتراع انسحب مرشحان محافظان وآخر إصلاحي، لتسفر العملية في النهاية عن 4 مرشحين فقط، ثلاثة محافظين وإصلاحي.
يتوقع أن يتعامل رئيسي مع الملف الاقتصادي كأولوية قصوى، تلبية لطموحات الإيرانيين الذين خرجوا تأييدًا له، بعد موجة التصريحات والوعود الانتخابية بالعمل على تحسين الأوضاع المعيشية والخروج من المأزق الحاليّ، الذي اتهم حكومة الرئيس المنتهية ولايته حسن روحاني بالمسؤولية عنه
الانتقادات التي وجهت لتلك الاختيارات اتهمت مجلس صيانة الدستور باستبعاد المرشحين المنافسين المحتملين وتهيئة الساحة أمام رئيسي للفوز بأريحية كاملة، كما جاء على لسان التيار الإصلاحي الذي قال إن هذه السياسة جعلت الانتخابات الحاليّة “غير تنافسية”، متهمًا المحافظين والمجلس بالسعي لإنهاء الجمهورية.
الرئيس الإيراني السابق، محمود أحمدي نجاد، الذي استبعد من خوض الانتخابات، أكد أنه لن يصوت في هذه العملية “لأن نتيجتها واضحة”، مضيفًا “تم تحديد الفائز بشكل مسبق” في إشارة لرئيس القضاء إبراهيم رئيسي، وهو الرأي الذي أكدته المتحدثة باسم جبهة الإصلاحات في إيران، آذر منصوري ، بقولها: “المسار الذي اتخذه مجلس صيانة الدستور مرارًا وتكرارًا في مواجهة الانتخابات والمؤسسات المنتخبة لم ينتهك الحق في الاختيار الحر للمواطنين والسيادة الوطنية فقط بل جعل الانتخابات أيضًا بلا معنى”.
مدير برنامج إيران في معهد الشرق الأوسط بواشنطن، أليكس فاتانكا، علق على هذا الماراثون قائلًا: “رئيسي لا يشارك في السباق إلا لأنه مدعوم بالكامل من القائد الأعلى والحرس الثوري. إنه ليس خطيبًا عظيمًا، وليس لديه رؤية، لكنهم يعتقدون أن بإمكانهم السيطرة عليه والحفاظ على النظام سليمًا. التحدي الكبير الذي يواجه رئيسي وأولئك الذين صمموا هذه الانتخابات هو ما إذا كانوا يعتقدون أن المسار الذي سلكوه خلال الثلاثين عامًا الماضية سيساعد النظام على البقاء”.
الاقتصاد.. صداع مزمن
يجد الرئيس الإيراني الجديد، وهو أحد المسؤولين الكبار الذين تشملهم العقوبات الأمريكية، نفسه في مأزق حقيقي أمام الوضع الاقتصادي المترهل لبلاده، هذا الوضع الذي تعمق أكثر مع تضيق الخناق الغربي والهزة التي شهدها سوق النفط العالمي، فضلًا عن تداعيات وباء كورونا المستجد (كوفيد 19).
المواطن الإيراني يضع المشكلة الاقتصادية التي تفاقمت منذ الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي في 2018 على رأس أولوياته، لا سيما بعد انكماش الاقتصاد بنسبة 5% العام الماضي، الأمر الذي انعكس على الحالة المعيشية للشعب الإيراني الذي خرج بالآلاف في تظاهرات جابت المدن الإيرانية بعد قيام الحكومة برفع أسعار البترول في نوفمبر/تشرين الثاني 2019.
وتعاني الدولة الإسلامية من أزمة اقتصادية طاحنة منذ فرض العقوبات الأمريكية التي حرمت البلاد من 50 مليار دولار من الإيرادات سنويًا، هذا بجانب تجاوز عجز الموازنة العامة ليصل إلى 58 مليار دولار العام الماضي، في الوقت الذي قفز فيه الدين الحكومي ليصل إلى 258 مليار دولار، وفقًا لتقرير صندوق النقد الدولي الصادر في أكتوبر/تشرين الأول 2020.
ومن ثم يتوقع أن يتعامل رئيسي مع هذا الملف كأولوية قصوى، تلبية لطموحات الإيرانيين الذين خرجوا تأييدًا له، بعد موجة التصريحات والوعود الانتخابية بالعمل على تحسين الأوضاع المعيشية والخروج من المأزق الحاليّ، الذي اتهم حكومة الرئيس المنتهية ولايته حسن روحاني بالمسؤولية عنه.
وقد أمضى الرئيس الجديد، ذو العمامة السوداء والنظارة الرفيعة، قرابة 30 عامًا في السلك القضائي، متنقلًا بين مناصب عدة منها مدعي عام طهران بين 1989 و1994، ومعاون رئيس السلطة القضائية اعتبارًا من 2004 حتى 2014 حين تم تعيينه مدعيًا عامًا للبلاد.
وفي عام 2016 أوكل المرشد الأعلى علي خامنئي لتلميذه مهمة سادن العتبة الرضوية المقدسة في مدينة مشهد، وبعد 3 أعوام فقط عيّنه على رأس السلطة القضائية، أحد الأركان الأساسية للنظام السياسي، وهو ما يعكس مدى الصلة الوثيقة التي تجمع بينهما، هذا في الوقت الذي تذهب فيه بعض الآراء إلى إعداد رئيسي لخلافة المرشد على هذا المنصب.
الملف النووي كان حاضرًا بقوة على طاولة تقييم المرحلة المقبلة في ظل حكم رئيسي، فيرى خبراء صعوبة نشوب أي حلحلة أو تغير واضح في ملامح إدارة هذا الملف، الذي يخضع في مجمل الأمر إلى المرشد
السياسة الخارجية.. إلى أين؟
تباينت ردود الفعل بشأن انعكاس النتائج التي خرجت بها تلك الانتخابات على السياسة الخارجية الإيرانية، إذ انقسمت الآراء إلى فريقين: الأول يرى أنه لا تغيير يذكر في الملفات الحساسة المتوقع أن تظل بعيدًا عن صلاحيات الرئيس الجديد، فيما ذهب أنصار الفريق الثاني إلى وجود تغيرات طفيفة في بعض الملفات وإن كانت بصورة أكثر تشددًا عن ذي قبل، وهو ما قد يثير تخوفات البعض.
الملف الأبرز حضورًا في هذا الشأن، العلاقات مع الغرب لا سيما الولايات المتحدة، وهنا يرى الصحفي والباحث السياسي محمد مهاجري، أن هذا الملف غير قابل للإصلاح، لكن في الوقت ذاته توقع أن “تعتمد الجمهورية الإسلامية المنطق القائم على أنه لا يمكنها التعايش مع العالم إذا هي عادت إلى مبدأ القتال بالأظافر والأسنان” بحسب تصريحاته لـ”الجزيرة”.
واتفق معه في هذا الرأي الخبير المتخصص في الشأن الإيراني عباس سليمي، الذي استبعد أي تأثير يذكر للانتخابات الأخيرة على توجهات طهران الخارجية خلال السنوات الأربعة القادمة، لافتًا إلى أن تلك التوجهات بكل فروعها في قبضة المرشد الأعلى، وعليه لا ينتظر أي تغير بشأنها.
آخرون ذهبوا إلى أن الوضع ربما يزداد سوءًا بفوز رئيسي، وهو ما حذر منه رئيس المنتدى العربي لتحليل السياسات الإيرانية، محمد محسن أبو النور، الذي توقع أن السياسة الجديدة للرئيس الفائز ستتماهى بشكل كبير مع الخط المتشدد للمرشد خامنئي، وللأضلاع المؤثرة في المشهد الإيراني، وعلى رأسها الحرس الثوري.
وعن مستقبل العلاقات مع دول الخليج على وجه التحديد، أشار أبو النور إلى أنه من المتوقع أن يتبنى رئيسي سياسة أكثر تشددًا في علاقات بلاده مع دول المنطقة بصورة عامة، مقارنة بالمعسكر الشرقي على سبيل المثال الذي تعتمد عليه طهران في الخروج من دائرة التضييقات الأمريكية بأقل الخسائر.
الملف النووي كان حاضرًا بقوة على طاولة تقييم المرحلة المقبلة في ظل حكم رئيسي، فيرى خبراء صعوبة نشوب أي حلحلة أو تغير واضح في ملامح إدارة هذا الملف، الذي يخضع في مجمل الأمر إلى المرشد، وهو ما أعلنه مكتبه أكثر من مرة قبل ذلك، كونه يباشر بشكل شخصي ومباشر مسار مفاوضات فيينا والعلاقات مع القوى الكبرى.
الحالة الوحيدة التي من المحتمل أن تُحدث تطورًا إيجابيًا في مخرجات هذا الملف، الإبقاء على فريق المفاوضات الحاليّ برئاسة عباس عراقجي، الذي يدير الأمور بشكل مقبول نسبيًا على المستوى الإقليمي، أما في حالة الإطاحة به من هذا المنصب فستشهد تلك المفاوضات تقهقرًا على مستوى إحراز التقدم، بحسب رئيس المنتدى العربي لتحليل السياسات الإيرانية.
فوز مثير للجدل حققه رئيسي، تلميذ المرشد المدعوم من مؤسسات الدولة الصلبة في البلاد، وسط تراجع حاد في منسوب التفاؤل بشأن قدرته على تحريك المياه الراكدة في العديد من الملفات، لكن يبقى الملف الاقتصادي هو الأكثر خطورة والتحدي الأصعب لتعويض العزوف الجماهيري عن المشاركة، فهل ينجح الرئيس الجديد في مهمته الأولى؟