يواصل الرئيس التونسي قيس سعيد خسارة أبرز حلفائه الواحد تلو الآخر، ما يجعله في طريق معبدة نحو عزل نفسه عن باقي مكونات المشهد العام في البلاد نتيجة تشدده في رأيه ومحاولاته تمرير أفكاره دون أن يمنح لأحد حق النقد والرفض.
الصدام مع اتحاد الشغل
آخر المنضمين لقائمة “المغضوب عليهم” من الرئيس سعيد، الاتحاد العام التونسي للشغل – الذي يعتبر أكبر منظمة نقابية في تونس -، إذ وصف الرئيس الحوار الوطني الذي قاده اتحاد الشغل عام 2013 بمعية منظمات أخرى وحصل بموجبه على جائزة نوبل للسلام عام 2015، بأنه حوار “لا وطني”.
تصريح لم يرق للاتحاد، ما جعله يسارع بالتنديد ومهاجمة الرئيس، حيث قال الطبوبي: “أقول لرئيس الجمهورية لقد أخطأت المرمى هذه المرة بتشكيكك في وطنية الحوار الوطني، فالمنظمات الوطنية كالاتحاد لا يحتاجون لشهادة لإثبات وطنيتهم، المنظمات الوطنية هي وطنية غصبًا عن أي شخص ونحن في الاتحاد من يحترمنا نحترمه ومن لا يحترمنا لا نحترمه، مهما كان موقعه حتى رئيس الجمهورية. ندعو الجميع إلى احترام أنفسهم وخاصة من لا يستطيع تقديم أي شيء للبلاد والابتعاد عن المهاترات والغوغائية”.
امتعاض اتحاد الشغل من الرئيس مرده ليست التصريحات المتعلقة بالحوار الوطني الذي عُقد سنة 2013 فقط، بل أيضًا نتيجة تلكؤ قيس سعيد في إعلان موقفه النهائي من مبادرة الحوار التي عرضها عليه الاتحاد في شهر ديسمبر/كانون الأول الماضي.
هذا التغيير في موقف الرئيس أثار استغراب قيادة التيار الديمقراطي بعد التماهي الكبير بين مواقف الطرفين
مرة يعلن الرئيس قبول المبادرة ومرة يعلن رفضه لها ومرة ثالثة يعلن مبادرة أخرى مخالفة لها تمامًا، آخرها ما حصل الأسبوع الماضي، إذ أكد سعيد في بدايته نيته إجراء حوار وطني لحلحلة الأزمة التي تعيش على وقعها البلاد منذ أشهر، ثم عاد ثانية لتأكيد رفضه أي حوار.
وتتضمن مبادرة الاتحاد الموجهة إلى رئيس الجمهورية مقترحات وتشخيصًا للوضع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي للبلد، يعقبها حوارًا مغايرًا للذي تم تنظيمه سنة 2013، رغم أن الهدف سيكون مشابهًا وهو التباحث في سبل إنقاذ البلاد وإخراجها من الأزمات التي تتخبط فيها على جميع المستويات.
بنبرة حادة، أمين عام اتحاد الشغل نور الدين الطبوبي يرد على الرئيس #قيس_سعيد “الحوار الوطني والمنظمات المشرفة عليه وطنية رغم الجميع. من يحترمنا نحترمه…ومن لا يفعل لن يجد الاحترام”
— أحوال تونس (@AhwalTunisiaNow) June 17, 2021
تلكؤ الرئيس جعل الاتحاد يفكر جديًا في الذهاب نحو تنظيم حوار وطني دون مشاركة الرئيس قيس سعيد، خاصة أن سعيد لا يترك فرصة إلا ويشكك في مبادرة الاتحاد التي تستهدف إخراج البلاد من أزمتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
حاول الرئيس جاهدًا أن يبقي اتحاد الشغل في البداية إلى صفه للاستقواء به في صراعه ضد حكومة هشام المشيشي وبرلمان البلاد، ذلك أن الاتحاد منظمة قوية لها أن تتحكم في موازين القوى بفضل موقعها المريح كوسيط وحكم بين فرقاء السياسة، إلا أن تصريحاته العشوائية أفقدته هذا الدعم المهم.
إتحاد الشغل يسحب المبادرة متاع الحوار من رئيس الجمهورية . قيس سعيد قعد صحاب كان مع نادية عكاشة وجماعة الشعب وعبد الفتاح السيسي ?
ماهر العباسي pic.twitter.com/pF64aNG2m6
— Lutfy Murabet (@LutfyMurabet) June 17, 2021
يرجع تهجم سعيد على اتحاد الشغل والتقليل من قيمة ما أنجزه صحبة باقي المنظمات الوطنية سنة 2013، إلى تغيير موقف الاتحاد من مصير الحكومة، فالرئيس لم يستسغ رفض الطبوبي خيار ربط بدء التفكير في الحوار باستقالة هشام المشيشي لذلك كانت القطيعة والحرب الكلامية بين الطرفين.
التيار الديمقراطي أيضًا
القطيعة لم تكن مع الاتحاد فقط، بل أيضًا مع التيار الديمقراطي الذي كان إلى وقت قريب أبرز الأحزاب الداعمة للرئيس قيس سعيد، إذ أيد التيار (22 نائبًا) الرئيس في استفراده بتأويل الدستور، وفي سعيه إلى تغيير النظام السياسي وطموحه إلى التحكم في دواليب الدولة، فضلًا عن الإطاحة برئيس البرلمان راشد الغنوشي ورئيس الحكومة هشام المشيشي وتفكيك حزامه الحكومي البرلماني.
منذ الانتخابات اصطف التيار تمامًا إلى جانب الرئيس حتى أصبح الناطق باسمه ولفهم ما يدور في خلد الرئيس على التونسيين سماع تصريحات قادة الحزب وتصرفاتهم، فتهجم قيادات التيار كثيرًا على رئيس البرلمان بدعوى أن “البلاد لها رئيس واحد، وقائد واحد”، على قول سعيد.
دخل التيار الديمقراطي في صراع مباشر مع رئيس الحكومة هشام المشيشي خاصة إثر قيامه بتعديل وزاري رفض الرئيس سعيد التصديق عليه وقبول الوزراء الجدد لتأدية اليمين أمامه، وشن حملة دعائية كبيرة ضد المشيشي لتأليب الرأي العام ضده وحثه على الخروج للشارع للمطالبة باستقالة حكومته في مرحلة أولى وتغير النظام في مرحلة ثانية.
حتى مشروع القانون الأساسي المتعلق بالمحكمة الدستورية الذي صادق عليه البرلمان مرتين، قدم التيار طعنًا في دستوريته لدى الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية مشاريع القوانين رغم أن هذا النص يتضمن مقترحات عديدة قدمها التيار الديمقراطي نفسه، كل ذلك حتى يرضي الرئيس الذي لا يريد لهذه المحكمة أن ترى النور.
يرى العديد من التونسيين أن سعيد لم ينجح منذ توليه الرئاسة إلا في تعكير الأجواء وخلق الأزمات و”التنكر” للحلفاء
قام التيار بكل هذا وأكثر في سبيل إرضاء الرئيس والوصول لمبتغاهم، لكن يبدو أن قيس سعيد تنكر لهم، إذا قال في كلمة له في أثناء لقائه هشام المشيشي ورؤساء الحكومات السابقة قبل أيام “لست متحالفًا مع أحد ولا منخرطًا في أي بتة سياسية”.
بعد أن استعملهم لتقوية حظوظه في سبيل إسقاط حكومة المشيشي وترذيل عمل البرلمان لتهيئة الرأي العام لاستبدال الدستور والنظام السياسي والتحكم في مفاصل الدولة، نفى أن يكون في حلف معهم أو مع أي طرف سياسي آخر، على الأقل في هذا الوقت، فلعله يغير موقفه، فهو معروف بذلك.
هذا التغيير في موقف الرئيس أثار استغراب قيادة التيار الديمقراطي بعد التماهي الكبير بين مواقف الطرفين، ما جعل القيادي في التيار غازي الشواشي يعبر صراحة عن رفض للحل الذي قدمه سعيد للخروج من الأزمة، إذ قال في حوار لإذاعة “موزاييك إف إم”، “الحل الذي قدمه سعيد ليس الحل الأمثل، وهناك صعوبة في تنفيذ الحل المُقترح”.
لم يكتف الشواشي بذلك، إذ أكد في الحوار نفسه أن تصريحات رئيس الجمهورية المتعلقة بالدستور والنظام السياسي خطيرة، فالدساتير لا تُستبدل بعد 6 أو 7 سنوات، ورأى أن تصور سعيد يمس الأمن القومي وهي مغامرة خطيرة، مؤكدًا أن التيار ضد تصور الرئيس وأن أي طرف سياسي مسؤول لا يمكن له القبول بتصور سعيد الذي لا يضع المسألة الاقتصادية والاجتماعية ضمن أولوياته.
لا ننسى النهضة وائتلاف الكرامة
تخلي الرئيس سعيد عن حلفائه لم يكن وليد اليوم، فهو السمة البارزة لعمله منذ توليه منصب رئاسة البلاد في أكتوبر/تشرين الأول 2019، وأول من تنكر لهما: حركة النهضة وائتلاف الكرامة، رغم كونهما كانا من أكثر الداعمين له.
النهضة (53 نائبًا) خصصت آلاف المنخرطين في الحزب لدعم قيس سعيد في حملته الانتخابية خلال الدور الثاني في مواجهة رجل الأعمال نبيل القروي، ومكنت حملته من آلاف المراقبين لمراقبة الانتخابات حتى لا يحدث أي تزوير، وكانت أول المهنئين له بالفوز.
نفس الشيء بالنسبة لائتلاف الكرامة (18 نائبًا)، فقد دعم سعيد بقوة ورفع صوره في تظاهراته الانتخابية، وخصص مئات المتطوعين من أنصاره للعمل إلى جانب حملة الرئيس لضمان نجاحه في الانتخابات، مع ذلك عاداهم.
يرى العديد من التونسيين أن سعيد لم ينجح منذ توليه الرئاسة إلا في تعكير الأجواء وخلق الأزمات والتنكر للحلفاء، ما يجعل البلاد مقبلة على أزمات أكبر إن لم يتم تدارك الأمر والكف عن خلق الصراعات الجانبية التي لا تخدم مصلحة البلاد في شيء.