أصبحت السينما الإيرانية محط اهتمام عالمي كبير خاصةً بعد الثورة الإسلامية وإقامة الجمهورية الإسلامية الإيرانية عام 1979، بسبب الفضول الغربي والأوروبي تجاه ما يمكن أن تقدمه السينما تحت رقابة العملية الإبداعية من الفكر الرجعي الإسلامي وفقًا لمنظورهم.
إلا أن السينما الإيرانية ورغم الضغوط الرقابية الممارسة بالفعل، استطاعت من خلال النص السينمائي الذكي الذي يوظف الرموز المحلية ولا يقدم مساومات لاختراق حواجز السوق، أن تقتفي حالات ومفردات يومية لتثبت أنها ما زالت قادرة على تناول الحاضر المعيشي عبر الصورة.
لكن تاريخ السينما الإيرانية لم يبدأ بعد الثورة الإسلامية، وما بدأ بعد الثورة الإسلامية لم يكن إلا حقبة من تاريخ السينما الإيرانية الذي يمتد إلى جذور عصر الشاهنشاه.
البدايات
منذ بدايات السينما الإيرانية، وهي تحاول التشبه بنظيرتها في الشرق الهندية، وبعد محاولات استطاع المخرج عبد الحسين سابنتا إنتاج أول شريط إيراني سينمائي ناطق تحت عنوان “بنت اللور” عام 1933، وبين عامي 1930 و1936 كانت الأشرطة المنتجة تسعة أفلام من بينها خمسة أفلام أنتجت في الهند، إلا أن تلك البداية الواعدة تعثرت بفعل الأوضاع السياسية الداخلية التي رافقت الحرب العالمية الثانية.
بعد الحرب العالمية الثانية كانت هناك نتاجات أعمال ميلودرامية وكوميديا إلا أنها اتسمت بسمة واحدة هي السطحية والسذاجة، وكانت هناك أعمال نادرة اتسمت بجديتها، كأعمال المخرج والممثل إسماعيل كوشان، الذي أخذ حقبة صناعة الأفلام في إيران بعد الحرب العالمية الثانية، وكانت إنتاجاته الأولى فيلم “طوفان الحياة” ثم فيلم “سيرة الأميرة الفتاة الكردية”.
شجع الجو الراديكالي في ظل حقبة رضا بهلوي في الأربعينيات، على إعادة نشاط المرأة خلال هذا العقد، كما أنه أسس مجلس الرفاه الاجتماعي للنساء والأطفال، فكانت وجهة الدولة في ذلك الوقت التركيز على المشكلات الاجتماعية المعاصرة كالنساء والطفولة، وتجاهل الانهيار السياسي.
وفي الستينيات، تأسست مرحلة جديدة للسينما الإيرانية اتجهت للتركيز على الصراع بين الحضر والريف، إذ تميزت تلك الفترة سياسيًا بفترة الثورة البيضاء التي أطلقها الشاه محمد رضا بهلوي، وما تبعها من مراحل للتحديث والتغريب.
جاءت أهمية فيلم “البقرة” كونه أشار إلى حالة اجتماعية تقبل التأويلات السياسية من خلال تتبع حياة يوميات قرية
ويصور فيلم “قبعة من القطيفة” لإسماعيل كوشان ذلك التوجه، فهناك تجاور بين الريفي القروي وساكن المدينة ولغة حوار تعبر عن الفجوة الاجتماعية الظاهرة بينهما، وقد ظهرت بالتوازي مع تلك الفترة أفلام الأكشن التي تجاري السينما الغربية وهي أفلام الفتوات التي كان بطلها ناصر ملاك، إلا أنها لاقت نقدًا لاذعًا، فلم تكن تمثل المجتمع الإيراني.
وظل ذلك حال السينما الإيرانية وحذرها من تناول الموضوعات السياسية تجاه الشاه، حتى عام 1969 بالتوازي مع إرهاصات الثورة وإشعال النار في ثلاثة دور للعرض السينمائي، حين أطلق المخرج داريوش مهرجوي فيلمه “البقرة-كاو” وهو الفيلم الذي شكل انطلاقةً حقيقيةً للسينما الإيرانية نحو جيل جديد.
جاءت أهمية فيلم “البقرة” كونه أشار إلى حالة اجتماعية تقبل التأويلات السياسية من خلال تتبع حياة يوميات قرية تموت بقرتها الوحيدة، ما يدفع بصاحبها إلى الجنون، وقد عرف الفيلم طريقه إلى العالمية، فاقتنص إحدى جوائز مهرجان البندقية، وألهم الفيلم مجموعة من الشباب الحالم الذين كونوا “جماعة السينمائيين التقدميين” الذين احتلوا مكانةً مرموقةً في المشهد السينمائي الإيراني فيما بعد، هذا الجيل الذي شكل سينماه تحت ضغط رقابتين مختلفتين: رقابة زمن الشاه الاستبدادية السياسية، ورقابة الثورة الإسلامية المتشددة تجاه بعض المواضيع والمشاهد.
السينما في الجمهورية الإسلامية
بعد انتصار الثورة الإسلامية عام 1979، بدأت بداية مهددة للسينمائيين داخل إيران، فأغلقت 180 دار للعرض، وسحب 2200 فيلم من السوق لإعادة فحصهم رقابيًا، وفي النهاية لم ينج منهم سوى مائتي فيلم بعد أن قصقص أجنحتها الرقيب، إذ فرض التوجه الرقابي الجديد على الشريط السينمائي أن يجتاز أربع مراحل قبل وصوله إلى المشاهد.
أُنشئت في ظل وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي مؤسسة خاصة أطلق عليها مؤسسة الفارابي السينمائية، من خلالها حصرت عملية استيراد الأفلام الأجنبية، إلى جانب دعم السينما الوطنية، ما شكل مرحلةً لاحقةً كانت هي الأغنى والأكثر تحديدًا لهوية السينما الإيرانية في شكلها الحاليّ.
وبعد أقل من عام ونصف على نجاح الثورة الإسلامية، وجد صناع السينما الإيرانيون أنفسهم في أتون حدث مهم سيطر ووجه كل شيء خاص بالدولة تجاه الحرب، وهي حرب الخليج الأولى ضد العراق، وكانت مهمة الإنتاج السينمائي في ذلك الوقت دعائية، بين الأفلام الدعائية الدينية أو الأفلام الحربية، وتأكدت في السينما الإيرانية صورة الطفولة، التي أصبحت علامة مميزة لمعظم الإنتاجات التي أنتجها عباس كيارستمي والمخرج مجيد ماجيدي، فمن خلال صورة الطفولة، كانت تستطيع أعمال المخرجين أن تنفذ من تحت مقص الرقيب بتجنب المجازفة في التعامل مع صور أخرى لا تأتي على مزاج الرقيب مثل الممثلات المتبرجات دون حجاب أو قصص الحب التي يسُمح فيها بالملامسة أو الاقتراب خاصة إذا كانت قصة حب دون زواج.
عرفت السينما الإيرانية طريقها مجددًا للمهرجانات الدولية ووجدت سوقًا دوليةً لتلك الأفلام
لكن رغم التشدد الرقابي للسينما الإيرانية، استطاعت فترة الحرب أن تنفذ بعض التجارب الجريئة على أيدي مخرجات إيرانيات عالجن قضايا المرأة من وجهات نظر نسوية، كالمخرجة رخشان بني اعتماد ودارخشندة وتهمينة ميلاني وياسمين مالك ناصر، وكان هناك أيضًا توجه من بعض المخرجين الرجال لإنصاف المرأة كأفلام عباس كيارستمي ومحسن مخملباف.
الانفتاح
تولى الرئيس محمد خاتمي شؤون البلاد عام 1997، لتشهد السينما مرحلة من الانفتاح على السينما الغربية، وتخفيف للقيود الرقابية إلى درجة تكاد تنعدم فيها، وقد وضع مسؤولية الفنان السينمائي أمام القضاء وليس أمام إدارة شؤون السينما بوازرة الثقافة.
كان مهرجان الفجر السينمائي الإيراني من أبرز تجليات تلك المرحلة، وعرفت السينما الإيرانية طريقها مجددًا للمهرجانات الدولية ووجدت سوقًا دوليةً لتلك الأفلام، ومن تلك الأفلام كان الفيلم المهم لعباس كيارستمي “طعم الكرز” الذي حقق جائزة السعفة الذهبية عام 1997، وفيلم “الدائرة” لمخرجه جعفر بناهي الذي حقق جائزة الأسد الذهبي وهي الأكبر في مهرجان البندقية السينمائي، وتوجت تلك المسيرة بمخرج شاب بارع اسمه أصغر فرهادي استطاعت أفلامه أن تصل للمهرجان السينمائي الأكبر “أوسكار” وتحقق جائزة أفضل فيلم أجنبي، ونال فيلماه “انفصال 2009″ و”البائع 2016” جائزة المهرجان.
عميد السينما الإيرانية
كان المخرج داريوش مهرجوني ملهمًا للسينما الإيرانية، لذلك الحديث عن السينما الإيرانية واتجاهاتها ينطلق من عنده، فكان لداريوش اتجاه واقعي يروي قصة واضحة ويطرح موضوعًا اجتماعيًا ملموسًا، وكان له اتجاه آخر سريالي يختلط فيه الخيال بالواقع ولا تخضع فيه القصص لمسار قصصي مألوف، بل تقدم مشاعر وأفكار وأحلام وحوادث تجتمع فيما يشبه الخليط الهجين، فأفلام البقرة وسارا وليلى تنتمي للتيار الواقعي عند مهرجوني، أما أفلام هامون وبري يمكننا أن نرى فيها تلك اللمحة السريالية.
كما أن مهرجوني اهتم بشؤون المرأة المعاصرة وكان أبطال أفلامه من النساء، وركزت أفلامه الانتباه على مكانة المرأة وحقوقها في المجتمع وتجسيد لمعالجة أحد مظاهر تفضيل الرجل على المرأة والمرأة العاقر وخلافه من تلك المواضيع.
أطفال الجنة
“أطفال الجنة” هو عنوان فيلم للمخرج مجيد ماجيدي، والطفولة بشكل عام في إيران كما سبق الحديث تحظى بركيزة أساسية لتلك السينما، في أفلام مثل “باشو الطفل الغريب” لبهرام بيزائي و”العداء” لأمير ناضري مثلًا، يسمح الدور المنوط بالطفل أن يحيط جزئيًا ببعض الممنوعات المتعلقة بالكبار، ويعكس من جانب آخر تركيبة المجتمع الإيراني الذي لا يتجاوز نصف عدد سكانه سن الثامنة عشر.
يبرز الطفل في أفلام السينما الإيرانية وسط الكبار الذين يتجاهلونه وقد استبد به القلق، ما يدفعه للهروب بعيدًا والاعتماد فقط على إمكاناته الخاصة، وهي الحبكة التي تظهر بوضوح في فيلم العداء لأمير ناضري.
تركز أفلام أخرى على إدانة العنف الذي يتعرض له الأطفال، كفيلم “الجرب” الذي أخرجه أبو الفضل جليلي سنة 1988، وقد عاد المخرج بالزمن إلى عهد الشاه حيث أُلقي القبض على طفل صغير بتهمة بيع جرائد محظورة، وأرسل إلى إصلاحية في انتظار محاكمته، ومن خلال تلك القصة، يرسم لنا الفيلم لوحةً كئيبةً عن واقع السجون في عصر الشاه، بأسلوب شبه وثائقي، وقد لاقى هذا الفيلم قبول الرقابة بالطبع لأنه أدان بطريقة صدامية عصر الشاه وما كان يحدث فيه، أي أنه يناقش أحداثًا ولت بالفعل مع زمن الثورة.
ويعرض أمير ناضري في فيلمه “الماء والرياح والغبار” صورة للطفولة المسلوبة، من خلال طفل يعمل في المدينة، ويعود ليجد أبويه ذهبا كباقي سكان القرية سعيًا وراء شربة ماء، وسيفقد الطفل الأمل في الالتحاق بوالديه اللذين ظلا يبحثان عنه، حيث سيتيهان في الصحراء، ويركز هذا الفيلم من خلال حكاية الطفل على قضية الجفاف التي لحقت وأتلفت محاصيل منطقة البلوشستان وهو الإقليم الأكثر نئيًا وتخلفًا في إيران.
تظهر موجة أخرى في السينما الإيرانية، وهي موجة الفيلم المناهض لنظام الجمهورية الإسلامية
موضوع الطفولة مجرد ذريعة يتخذها صناع السينما الإيرانية من أجل التوثيق للمعيش اليومي للشعب الإيراني، وهو الوصف الذي تتخلله بعض الأفراح والمآسي الصغيرة، وستعيد تلك الأفلام ربط الاتصال بالتوجه الشعبوي التي تصور حياة الشعب الفقير في المدن، كما أن أفلام الطفولة ساهمت في بروز اتجاه آخر في السينما الإيرانية، سيتخذ السخرية والكوميديا أسلوبًا لمعالجة القضايا، الذي ظهر في أفلام كفيلم المستأجرون سنة 1985 وفيلم الأتوبيس لعبد الله صمد وأحذية ميرزا لمحمد متفاسلاني.
وتعد الأفلام التاريخية الإسلامية أيضًا من المواضيع المهمة التي تركز السينما الإيرانية إنتاجاتها عليها، وتلك الأفلام بالطبع تركز على السردية الشيعية وزاوية نظرها للتاريخ الإسلامي في مظلومية بيت علي بن أبي طالب، وقد وصلت ذروة الإنتاج السينمائي الإيراني الديني في فيلم “محمد رسول الله” عام 2015 الذي أثار جدلًا كبيرًا عند ظهوره، وأيضًا في التاريخ الحاضر التركيز بصفة أساسية على الحرب الإيرانية العراقية التي تجلت بصورة خاصة في فيلم “تقطعت بهم السبل في العراق” عام 2002.
وتظهر موجة أخرى في السينما الإيرانية، وهي موجة الفيلم المناهض لنظام الجمهورية الإسلامية وبالطبع ينتجها مجموعة من الفنانين المنفيين في الخارج، ومن أبرز هذه الأفلام فيلم “بيرسبوليس” 2007 الذي ترشح لجائزة الأوسكار.
ورغم الإعاقات التي تعوق صناعة السينما الإيرانية بسبب السياسية في أحيان كثيرة، فإنها تستطيع فرض وجودها على السطح السينمائي العالمي، وقد استفادت السينما الإيرانية من التقنيات الحديثة، ومن عمل مخرجيها في الدول الأوروبية، فأصبحت تقدم الموضوعات الإيرانية الاجتماعية بأسلوب حداثي وتقني حديث، وأفلام تسترعي انتباه السوق التجارية والنخبة النقدية في جميع أنحاء العالم.