خلال قمة الناتو التي انعقدت الأسبوع الماضي في العاصمة البلجيكية بروكسل، عرضت تركيا الإبقاء على قواتها العسكرية في أفغانستان والاستمرار بتقديم الحماية لمطار كابول بعد الانسحاب الكامل للقوات الأمريكية وبقية قوات حلف الناتو في 11 من سبتمبر/أيلول المقبل، المصادف للذكرى الـ20 لهجمات القاعدة على برجي التجارة والبنتاغون في الولايات المتحدة الأمريكية، واقترحت أنقرة مواصلة أعمالها في حماية وإدارة مطار العاصمة كابول حال حصولها على دعم مالي ودبلوماسي ولوجستي أمريكي.
وعلى الرغم من رفض حركة طالبان استمرار الوجود التركي على الأراضي الأفغانية بعد انتهاء المدة المتفق عليها، فإن أنقرة تمتلك سجلًا نظيفًا طوال فترة وجودها في أفغانستان ضمن قوات حلف الناتو، فهي لم تشارك بأي أعمال قتالية، واقتصر دورها فقط على تدريب قوات الأمن الأفغانية وحماية مطار كابول وتقديم المساعدات الإنسانية، بالإضافة لوجود علاقات تاريخية ودبلوماسية راسخة بين البلدين، الأمور التي قد تمكنها مجتمعة من إيجاد توافق معين مع الحكومة الأفغانية وحركة طالبان للإبقاء على قواتها في أفغانستان ضمن شروط معينة.
وفي السياق ذاته، تعد تركيا من أشد الداعمين لعملية المفاوضات بين حركة طالبان وحكومة كابول التي ترعاها الدوحة، فضلًا عن أخذها زمام المبادرة عدة مرات لرأب الصدع بين الطرفين، ولأجل ذلك اجتمعت تركيا مع أفغانستان وباكستان في مرحلة أولى وأنشأت “مجموعة الحوار الثلاثي” عام 2007، وفي العام 2011 باشرت مرحلة ثانية باسم “إسطنبول قلب آسيا”.
الوجود التركي في أفغانستان
تشارك القوات التركية رفقة قوات أخرى من حلف الناتو في الوجود على الأراضي الأفغانية منذ بدء عمليات الحلف بعد هجمات 11 من سبتمبر/أيلول 2001، إلا أن تركيا لم تذهب إلى أفغانستان من أجل أطماع استعمارية، ولم تشارك بأي أعمال قتالية، بل اقتصر وجودها هناك على القيام بأعمال الحماية والتدريب وتقديم المساعدات العينية والتنموية.
وخلال فترة وجود القوات التركية التي قاربت على الـ20 عامًا، اتخذت تركيا من العلاقات الدبلوماسية الراسخة بين البلدين والممتدة لقرابة القرن من الزمن، فضلًا عن القواسم الدينية والتاريخية والعرقية المشتركة طريقًا سلكته من أجل نيل ثقة واحترام جميع الحركات السياسية والعسكرية الأفغانية.
يذكر أن الحكومتين التركية والأفغانية احتفلتا في شهر مارس/آذار الماضي بالذكرى المئوية لإقامة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، فتعتبر أفغانستان الدولة الثانية بعد الاتحاد السوفيتي التي اعترفت رسميًا بحكومة أنقرة عام 1921، بالإضافة لكونها من أوائل الدول الإسلامية والإقليمية التي قدمت الدعم المالي والدبلوماسي لحكومة أنقرة بقيادة مصطفى كمال أتاتورك خلال فترة حرب التحرير والاستقلال التركية ضد قوى الاستعمار الغربي.
لم يقتصر الوجود التركي في أفغانستان على مهام التدريب والحماية وتقديم المساعدات فقط، بل امتد إلى تقديم منح دراسية لمئات الطلبة الأفغان
وتملك تركيا أكثر من 500 عسكري على الأراضي الأفغانية ضمن قوات حلف الناتو، تتركز مهامهم على تقديم الاستشارات العسكرية وتدريب قوات الأمن والجيش الأفغاني، وتأمين الحماية لمطار كابول والمناطق المحيطة به والمشاركة في إدارة عملياته، بالإضافة لتقديم الحماية للجمعيات الإنسانية التركية أمثال “وكالة التعاون والتنسيق التركية” (TIKA) ومؤسسة “معارف” وغيرها من المنظمات الدولية التي تنشط في تنفيذ أنشطة إغاثية مختلفة في مجالات التعليم والصحة والبنية التحتية، فيما بلغت قيمة المساعدات التنموية التركية في أفغانستان قرابة الـ150 مليون دولار أمريكي بين عامي 2018 و2020.
ولم يقتصر الوجود التركي في أفغانستان على مهام التدريب والحماية وتقديم المساعدات فقط، بل امتد إلى تقديم منح دراسية لمئات الطلبة الأفغان الراغبين بإكمال دراستهم في جامعات ومعاهد تركيا، إذ تسعى الحكومة التركية من خلال هذه الخطوة للمساعدة في نهضة أفغانستان، فضلًا عن ترميم وتقوية العلاقات التاريخية بين البلدين وبناء مزيد من جسور التواصل بين الشعبين التركي والأفغاني.
أهمية مطار كابول
بعد 20 عامًا من وجود الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها في الناتو بأفغانستان، قررت الإدارة الأمريكية رفقة حكومات غربية بدء عملية الانسحاب من الأراضي الأفغانية التي بدأت في الأول من مايو/أيار على أن تكتمل بحلول 11 من سبتمبر/أيلول العام الحاليّ، المصادف للذكرى الـ20 لهجمات القاعدة على برجي التجارة والبنتاغون في الولايات المتحدة الأمريكية.
وتستعد القوات الأمريكية وقوات حلف الناتو للانسحاب من أفغانستان دون اتفاق سلام مع طالبان، فمحادثات السلام مع حركة طالبان – القوة الأكثر فاعلية على الأراضي الأفغانية – لم تسفر بعد عن أي نتائج مبشرة، فضلًا عن تزايد العنف في البلاد في الآونة الأخيرة، الأمر الذي يثير حفيظة دول الناتو بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية ويجعلهم مترددين بشأن نقاط مهمة في أفغانستان والعاصمة كابول، وعلى رأسها مطار حامد كرزاي الدولي الذي تقوم تركيا بحمايته وتشغيل الجزء العسكري منه.
فيما تكمن أهمية المطار في كونه البوابة الوحيدة لأفغانستان المفتوحة على العالم الخارجي، البلد الذي يعاني من مشاكل أمنية خطيرة على الطرق البرية، ويقع في منطقة جبلية وعرة لا تحوي أي منافذ بحرية، بالإضافة لكون مطار كابول أحد الأماكن ذات الأولوية من حيث ضمان الأمن بعد الانسحاب، كون بعض الدول تطالب بضرورة توفير الحماية الكاملة للمطار وإبقائه مفتوحًا أمام حركة الملاحة الجوية كشرط أساسي لإبقاء بعثاتها الدبلوماسية في أفغانستان، فضلًا عن استخدامه من منظمات الإغاثة الدولية التي تساهم بتقديم المساعدات الإنسانية اللازمة لأفغانستان.
المقترح التركي
عرضت أنقرة الاستمرار في حماية وتشغيل مطار كابول من خلال إبقاء قواتها العسكرية في أفغانستان بعد انسحاب الولايات المتحدة وقوات حلف الناتو، حيث أعلن الرئيس أردوغان عن المقترح قبل مغادرته إسطنبول للمشاركة في قمة حلف الناتو في العاصمة البلجيكية بروكسل الأسبوع الماضي، وأكد أن تركيا “البلد الوحيد الموثوق به” الذي يحتفظ بقوات في أفغانستان بعد الانسحاب الأمريكي والأطلسي، العرض الذي تم مناقشته بشكل رسمي مع الرئيس الأمريكي بايدن على هامش القمة، لكن دون صدور أي تأكيد رسمي من الجانب الأمريكي فيما يتعلق بالمقترح التركي.
أردوغان: إذا لم يُطلب من تركيا مغادرة أفغانستان، فإن الدعم الذي ستقدمه الولايات المتحدة في الشؤون الدبلوماسية والمالية أمر مهم
لكن الرئيس الأمريكي من جهته قال إنّه أجرى محادثات “إيجابية ومُثمرة” مع نظيره التركي رجب طيب أردوغان، لمناقشة كيفية المضي قدمًا في عددٍ من القضايا، وأكد بايدن أن فريقه وفريق الرئيس التركي سيعملان الآن على تحديد تفاصيل ما اتّفقا عليه، وأضاف “أنا واثق من أننا سنحرز تقدمًا حقيقيًا في العلاقات”.
وفي تصريح وزير الدفاع التركي خلوصي أكار لصحيفة “حريات” التركية يوم 7 من يونيو/حزيران، أشار إلى أن المحادثات بشأن أفغانستان مستمرة، وأنه في حالة استيفاء الشروط التي قدمتها تركيا، فمن الممكن الاحتفاظ بالجنود من أجل أمن المطار، وأضاف “نعتزم البقاء في أفغانستان حسب الظروف. ما شروطنا؟ الدعم السياسي والمالي واللوجستي، إذا تم ذلك يمكننا البقاء في مطار حامد كرزاي الدولي. نحن ننتظر الإجابة عن شروطنا”.
وفي المؤتمر الصحفي الذي عقب اللقاء مع الرئيس الأمريكي على هامش قمة حلف الناتو، أشار الرئيس أردوغان إلى أنه تم التوصل إلى اتفاق بشأن أفغانستان، وقال أردوغان: “إذا لم يُطلب من تركيا مغادرة أفغانستان، فإن الدعم الذي ستقدمه الولايات المتحدة في الشؤون الدبلوماسية والمالية أمر مهم”، وأضاف “لا يمكن تنحية واقع طالبان جانبًا، وهناك قضية أخرى هي أننا قلنا لهم في أفغانستان إننا سنأخذ كل من باكستان والمجر معنا، وحتى الآن هناك اتفاق ولا توجد أي مشكلة”.
ردود فعل معارضة
حركة طالبان من جانبها عارضت بشدة اقتراح تركيا في البقاء من أجل حماية المطار، وجددت دعوتها لسحب جميع القوات الأجنبية، وقال المتحدث باسم طالبان في الدوحة سهيل شاهين لرويترز: “تركيا كانت جزءًا من قوات حلف شمال الأطلسي في الأعوام العشرين الماضية، لذلك فإنه ينبغي لها الانسحاب من أفغانستان على أساس الاتفاق الذي وقعناه مع الولايات المتحدة يوم 29 من فبراير/شباط 2020”.
داخليًا، انتقدت المعارضة التركية مقترح حكومة العدالة والتنمية فيما يخص إبقاء القوات التركية في أفغانستان بعد انسحاب القوات الأمريكية وقوات حلف الناتو، ورأت في العرض الذي قدمه الرئيس التركي لنظيره الأمريكي مهمة عسكرية قد تكون سببًا في غرق تركيا بالمستنقع الأفغاني، وذلك من أجل استرضاء الإدارة الأمريكية الجديدة والدول الغربية بعد سنوات من الخصومة والخلافات وصلت حد فرض عقوبات على تركيا العام الماضي.
وتساءل النائب عن حزب الشعب الجمهوري – أكبر أحزاب المعارضة -، أوتكو جاكيروزر، لماذا سنكون الوحيدين في أفغانستان عندما يغادر الجميع؟ وذكر أن بعض الدول بما فيها أستراليا تستعد لإغلاق تمثيلاتها الدبلوماسية في أفغانستان بسبب مخاوف أمنية، وقال جاكيروزر: “لماذا سنكون الوحيدين في أفغانستان عندما يغادر الجميع؟ حتى تكون الإدارة الأمريكية الجديدة سعيدة وراضية! بينما ترفض طالبان التي تسيطر على البلاد وجود أي أحد”، وأضاف “إذا بقينا هناك فإننا سنعرّض الآلاف من عناصرنا العسكرية والمدنية التي ستخدم هناك للخطر الأمني”.
ختامًا
في الوقت الذي يرى فيه البعض المقترح التركي بإبقاء القوات العسكرية التركية في أفغانستان عبارة عن محاولة لاسترضاء الرئيس الأمريكي بايدن، ترى الحكومة التركية في ذلك فرصة لفتح صفحة جديدة مع الإدارة الأمريكية والدول الغربية، ومحاولة لترميم العلاقات المتوترة بينهم، التي تصاعدت بعد شراء تركيا العضو في الناتو منظومة الدفاع الجوي الروسية إس-400، فضلًا عن خروج أنقرة عن الصف الغربي والعمل وفق أجندة مصالح فردية في العديد من الملفات الدولية والإقليمية، في سوريا والعراق وليبيا وأذربيجان وشرق المتوسط.
تدرك أنقرة جيدًا الدور البالغ الأهمية الذي ستلعبه حال تمكنت من البقاء في أفغانستان ضمن توليفة معينة مع أمريكا وحركة طالبان على السواء
فيما يرى البعض الآخر أن في ذلك فرصة لزيادة نفوذ تركيا الدولي والإقليمي، وفرصة ذهبية لتقوية وتعزيز أوراق اللعب التي في حوزتها في مواجهة المعسكرين الشرقي والغربي، فضلًا عن تعزيز دورها كصمام أمان فيما يتعلق بوقف الهجرة الجماعية إلى أوروبا، ليس فقط من سوريا والعرق، بل أيضًا من بلاد وسط آسيا وعلى رأسهم أفغانستان، في حال نجحت في الحفاظ على الاستقرار هناك.
في النهاية، تدرك أنقرة جيدًا الدور البالغ الأهمية الذي ستلعبه حال تمكنت من البقاء في أفغانستان ضمن توليفة معينة مع أمريكا وحركة طالبان على السواء، الذي يتمثل ليس فقط في الإبقاء على الوجود الأطلسي التي تعد تركيا عضوًا مهمًا داخله، بل في قطع الطريق أمام روسيا للعودة مجددًا إلى أفغانستان، بالإضافة لسد الثغرات أمام المساعي الصينية التي تبحث عن موضع قدم لها في أفغانستان، البلد الذي يتوسط طريق الحرير الصيني، ويعد من أهم المحطات لنجاح المشروع الصيني الجامح، المشروع الذي يثير قلق أمريكا والدول الغربية، وسيعطي الصين الأسبقية في الحرب التجارية الدائرة حال انتهائه كاملًا.